انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 15/هنود أمريكا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 15/هنود أمريكا

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 4 - 1907



لما وطئت أقدام البيض قارة أمريكا ألفوا أنحاء كثيرةً منها مأهولةً بالهنود فدهشوا لما رأوا، كما عجب الهنود من رؤية البيض وتوهموهم آلهةً بادئ الرأي. فأخذوا يسجدون لهم ويعبدونهم ويقدمون لهم الهدايا النفيسة كالقطع الذهبية الكبيرة التي لم يكن لها قيمة عند الهنود.

ولقد وهم المكتشفون الأوروبيون في ظنهم أن سكان أمريكا الأصليين على جانب من الحضارة والعمران، بيد أنهم لم يلبثوا في ذلك العالم الجديد طويلاً حتى تحققوا أن أولئك الهنود هم قوم جهلاء انقضت عليهم ألوف من السنين وظلوا على حالة واحدة من الخشونة والجهالة. فكانت الفلاحة عندهم في ذلك العهد غير معروفة. وكانوا يعيشون من الصيد وثمار الأرض الطبيعية. وكانت بنادقهم أقواس النشاب ورصاصهم الأحجار المحددة وسيوفهم العظم والصوّان.

وكانت مساكنهم من تراب الأرض وأعشابها، ولم تكن إلا أكواخاً حقيرة ملأى بالأقذار لا ترتيب فيها ولا نظام، وكان معظمهم بدون مساكن يعيشون كالحيوانات البرية، وإذ كانوا يطوفون البقاع والربوع للقنص والصيد اضطرتهم حالة الإقليم إلى عمل الخيام من جلود الحيوانات التي كانوا يصطادونها ويعيشون من لحومها وكثيرون منهم ما برحوا عائشين كسابق عهدهم.

اهتم علماء أوروبا بأمر أولئك الهنود فأخذوا يبحثون عن أصلهم وانقضت عشرات السنين على أبحاث كثيرين منهم وإلى اليوم لم يتوصلوا إلى معرفة ذلك. فذهب فريق من العلماء إلى أن أصل هنود أمريكا من أوروبا، وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من آسيا وهذا المذهب هو المعوّل عليه اليوم.

أما كيفية نزولهم أمريكا وعهد مجيئهم إليها فهما من المسائل الغامضة عند أهل البحث والعلم إذ ليس من تاريخ لذلك وليس ثمة آثار تفيد في هذا الباب على أن أصل الهنود واحد وهم عريقون جداً في القدم.

والدليل على أن الهنود من أصل واحد تشابه سحناتهم على تباين عشائرهم في جهات من مختلف الأقاليم في قارة أمريكا. والدليل على قدمهم تفرع لغتهم الأصلية التي تختلف من الخمسين إلى الستين فرعاً. وكل هذه الفروع منسوبة إلى أصل واحد هو الأصل السامي.

ويستلزم تفرع هذه الفروع العديدة من لغة واحد دهراً طويلاً.

وبحث جمهور من علماء القرن المنقضي عما إذا كان هنود أمريكا من أصل قبل الطوفان أو بعده فكانت نتيجة أبحاثهم بأن أقرّ فريق منهم على أن الهنود من أصل قبل الطوفان. وذهب فريق آخر إلى أن أصلهم من بعد الطوفان. والحقيقة أنه ليس هناك أدلة تدل دلالة صريحة بحسب قوانين العلم الحديث على كون هنود أمريكا من خمسة آلاف سنة. ويقول علماء الدين إنه انقضى على الطوفان نحو أربعة آلاف سنة. فإذا صح هذا الزعم فيكون مذهب الذاهبين إلى أن الهنود من أصل بعد الطوفان فاسداً.

ورجع علماء أصول اللغات في هذا العصر أن أصل لغة الهنود ساميٌّ وإن هؤلاء الهنود من آسيا. ولقد تأملت ملياً في كثيرين منهم في أوقات مختلفة فوجدتهم يشبهون الكلدان وعرب البادية من وجوه كثيرة. وغنيّ عن البيان أن قارة آسيا أقرب القارات من قارة أمريكا الشمالية. فالحاجز بين القارتين خليج بيرين المعروف.

  • * *

عرف عام 1891 أن لكل قبيلة من الهنود لغة مختصة بها وثبت أن للهنود 59 لغة. أما عدد عشائرهم فقد ناهز الثمانمائة عشيرة. وعدد الهنود في الولايات المتحدة الآن 267. 000 نفس 80 ألفاً منهم على جانب من التمدن و177. 000 لا يزالون على جانب عظيم من التوحش كما كانوا في القرون الغابرة و60 ألفاً يحسبون من جماعة المصوتين في انتخابات الرؤساء والحكام والولايات. ولم يبق من أملاك الهنود الخصيبة التي كانت على التحقيق 276 مليون آكر غير سبعة ملايين وأكثرها من الأراضي التي لا تصلح لغير رعي الماشية.

ويرد تاريخ مساعي حكومات الولايات لتهذيب الهنود إلى عام 1775 فإنها أخذت على ذاك العهد تنفق المبالغ الطائلة في تعلمهم فذهبت تلك الأموال ضياعاً لأن الهنود غلاظ الرقاب ميالون إلى اللهو وقضاء العمر في التنقل من بقعة إلى أخرى. ولئن ذهبت أتعاب الولايات المتحدة بدون جدوى في أول الأمر فإن هذه العقبات لم تقف في طريق الحكومة الغيورة على تهذيب شعوبها. فقد جدد مجلس الأمة الهمة عام 1877 وبدأ بافتتاح المدارس الخصوصية للهنود لتعليمهم أولاً القراءة والكتابة والحساب. ثم العلوم وواجباتهم نحو الدولة والأمة والوطن والدين والإنسانية.

ولم يأت ربع قرن على تأسيس تلك المدارس بين الهنود حتى استنار كثيرون منهم بقبس المعارف وأصبحوا يعدون من رجال الدولة والأمة فكان من حكومات الولايات أنها أبدت بما قامت مثالاً لكل دولة لا تحفل بتهذيب شعوبها وأن التهذيب هو مطلب هذا العصر وأن العزائم القوية تبدد غياهب الجهل وأن الهمم العلية تخترق جبال المصاعب.

وبعد فقد كان الهنود سابقاً يعدون بالملايين أما اليوم فقد انقرض معظمهم ولم يبق منهم أكثر من 400 ألف نفس ذلك لأن حكومات الولايات حصرتهم في بقاء خاصة في أمريكا الشمالية. فحرموا من المنافع الصحية التي كانوا يتمتعون بها أيام كانوا يمرحون ويسرحون في طول البلاد وعرضها أيام لا منازع ينازعهم ولا حاكم يقيد حديثهم أيام كانوا يعيشون من خيرات الأرض الطبيعة وصيد الحيوانات.

ومن أسباب انقراض نسل هذا الشعب المتوحش القديم حصرا لزواج في العيال والعشائر ولولا اختلاط زواج الهنود ببيض أوروبا وعبيد أفريقيا لكان عددهم اليوم قليلاً جداً. ولعل لبقاء إلا نسب فعلاً في الأمر والله أعلم.

الولايات المتحدة. أوماها نبراسكا

يوسف جرجس زخم