انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 15/التعليم بالعربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 15/التعليم بالعربية

مجلة المقتبس - العدد 15
التعليم بالعربية
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 4 - 1907



تحيا لغة كل أمة بحياة سياستها فإذا انتعشت هذه خدمت تلك فانتشرت ونمت. ومتى ضعفت السياسة ضعفت اللغة بضعفها. فقد رأينا اللغة الإنكليزية تغلبت على الفرنسية أو كادت في معظم أقطار المعمور لأن سياسة إنكلترا وابنتها الولايات المتحدة نافذة في القارات الخمس ولأن الشعوب الإنكليزية السكسونية أرقى الأمم بعلومها وآدابها وأخلاقها وصناعاتها ومتاجرها واستعمارها. واللغة أيضاً كالتجارة تابعة لعَلم الدولة فحيثما خفق لواء أمة وانبسط ظل سلطانها تتغلب بالطبيعة لغة ذلك العَلم والسلطان. والناس مفطورون على تقليد حاكمهم في منازعِه ومناحيه تقليدهم له في شعاره. واللغة رأس كل تقليد وشبُّه. وعلى هذه السنة جرى المغلوبون على أمرهم من الروم والقبط والترك والفرس في الدولة الأموية والعباسية وأخذوا يتلقفون العربية خصوصاً بعد أن نُقلت لغة الدواوين في عهد عبد الملك بن مروان الأموي من الرومية والفارسية إلى العربية وقال سرحون كاتب عبد الملك لكتاب الروم: اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم.

وقد اهتم الإنكليز لما احتلوا هذا القطر بجعل التعليم بالإنكليزية في مدارسه لينشأ لهم على الزمن جيل جديد يفهم مغازيهم ومراميهم ويكون عونهم على تأليف القلوب وواسطة للتفاهم فلا يستثقل ظلهم ولا يتبرهم بدولتهم. ومن تعلم لغة قوم وثق بهم وعرف تاريخهم وشرائعهم وأشرب قلبه حبهم. ولطالما رأينا من تعلموا العربية من متعصبي الإفرنج هاموا بالعرب وتاريخها وشريعتها ولا هيام أهلها بها وغاروا عليها غيرة الكرام. وكذلك الحال بالإنكليزية مثلاً فإنا نرى متعلميها يتشيعون لأهل تلك اللغة. ومن علم شيئاً والاه ومن جهل شيئاً عاداه.

حمي وطيس الحوار في الشهر الماضي في بهو الجمعية العمومية في هذه العاصمة بشأن إعادة التعليم بالعربية في المدارس الأميرية المصرية إلى ما كانت قبل سنة 1889 فكانت حجة الحكومة أن العربية لا يتسع صدرها ولا ينطلق لسانها للعلوم العصرية وما تنتجه حضارة الغرب كل يوم من المسميات التي لا أسماء لها في هذه اللغة وأنها لو سمحت الآن بإعادة التعليم بالعربية في المدارس لأعوزها الأساتذة والكتب. وليس هنا محل تفنيد الآراء التي تمليها الأهواء السياسية في هذا الشأن، وإنما نلم بذكر رأينا العلمي في هذه اللغة التي يرميها المماحكون بأنه يتعذر عليها أن تكون بعد لسان العلم ومباءة الحكمة الغربية.

إن كل منصف للعربية ليراها قد اتسعت لكل ما ألقي عليها من علوم الحضارة ومطالبها ولم تتخرج من إدخال الكلمات الدخيلة التي لا عهد لها بها فما وجد التراجمة والنقلة في العهد الأول مرادفاً له في أصل اللغة وضعوه وما لم يروا له لفظاً أو مادةً يشتقون منها نقلوه على أصله أو نحتوه بعض النحت بحيث لا يصعب على العربي أن ينطق به لمخالفته الصيغ المألوفة. هكذا جروا في معظم الألفاظ الفقهية والكلامية والفلسفية والنجومية والطبيعية والطبية والرياضية والزراعية والكيماوية. ولم يكن التراجمة كلهم من الماهرين بالعربية بل كان المترجمون كثيراً ما ينقلون المعاني وعلماء اللغة والمحيطون بشواردها وضوابطها يضعون الألفاظ والمصطلحات وكثيراً ما كانوا يترجمون اللفظة الواحدة إذا عجزوا بجملة تفسرها. وهذا مألوف في معظم اللغات وقلما يكون لكل لفظة في لغة مرادف لها في اللغة الثانية ولاسيما إذا كان النقل من لغة غربية إلى لغة شرقية كما كان صدر الدولة العباسية. والعلوم نقلت عن الرومية والنبطية والفارسية والنقل عن الرومية أكثر. والرومية غربية بعيدة عن العربية الشرقية في أسلوبها.

ألا وأن كتب الأسلاف لتشهد أبد الدهر بأن العربية تقل كل دخيل وعلم. وفي المؤلفات العلمية التي ظهرت في مصر على عهد محمد علي وسعيد أكبر دليل على ذلك.

فقد كان المترجمون ينقلون الكتب إلى العربية فيجيء المصححون في دار الترجمة يقوّمون العبارة وينظرون في بعض ما له مقابل من اللغة. كان ذلك قبل ثمانين سنة واللغة العربية منحطة لارتفاع سند العلوم الكونية من بين أهلها قروناً فما بالك اليوم وقد ارتقت لهجة اللغة واستحكمت ملكتها في القائمين على الكتابة والتدريس وصار كثير من العامة ممن شغفوا بالمطالعة يميزون بالفطرة بين صحيح الكلام وفاسده وأصبح أكثر تلك العلوم لأبنائنا مألوفاً بل غدا معظم المترجمين ينقلون في أصعب الموضوعات بأسلوب تكاد لا تقرأ فيه صورة الترجمة لسلاسته.

نعم إن الواحد منا قد يصعب عليه اليوم نقل علوم لا عهد لنا بها كعلم الحياة (بيولوجيا) مثلاُ فلا يكون ضعفه في ذلك دليلاً على ضعف اللغة التي لم تحشر إلى ذهنه ساعة الترجمة ألفاظها وتراكيبها بالسرعة التي يريدها بل الذنب كل الذنب على جهله العلم لأن فهمه يتوقف على الإحاطة بعلوم كثيرة ليست من المألوفات عنده. وأنى يتأتى لمن لا يفهم الأصل أن يحسن نقله بألفاظ وأسلوب يفهمه من لم يفهمه واللفظ والمعنى يخونانه؟ ولو درسنا هذا الفن على أهله لما صعب علينا نقله بأسره فنترجم الألفاظ التي لا مرادف لها عندنا بجملة ريثما يقوم من يضع لها مرادفاً في لغتناً أو نأخذها كما هي في اللغات الإفرنجية على نحو ما أخذنا كثيراً من الألفاظ في العهد الأخير وأدمجناها في مطاوي كلامنا.

والعربية ليست دون التركية في معنى النقل فإن الأتراك فتحوا باب النقل من اللغات الأوروبية فاغتنت لغتهم على قلة مادتها الأصلية بآداب الأمم الغربية وعلومها. ولو أتيح للعربية أن يعاد قلم الترجمة إلى القاهرة كما كان لا يصعب على المدارس الابتدائية والثانوية والعالية أن تسير مع العلم الغربي كتفاً إلى كتف. فلا يفوتنا هنا اليوم ما نُشر في الغرب أمس. وكيف يطلب من العربية الآن أن تحوي كتباً بأحدث ما تم من أبحاث العلم واكتشافاته بعد أن بطلت منها الترجمة في العلوم العصرية منذ أبطلت كلية بيروت الأمريكية تدريس العلوم بالعربية وجعلتها بالإنكليزية وقضت نظارة معارف مصر أن تكون الإنكليزية أيضاً لغة المدارس وضعف تعليم آداب اللغة في مدارس الأجانب في سورية وفي المدارس الأميرية بمصر.

وكان من هذا الضعف أن زهدت النفوس في تعلم لسان العرب وانتهى أمره إلى نفر من المولعين به وهم أفراد لا يبنى عليهم حكم في مصر والشام والعراق وتونس. بل وكلت خدمته لمرتزقة الكتّاب كأكثر محرري الجرائد وكتاب الروايات وبعض أساتذة المدارس ومعظمهم لا يهمهم من اللغة إلا أن يكتبوا ما يُطلب منهم أو يعملوا في الدائرة التي حددت لهم. وبديهي أن الناس لا ينبعثون إلى التأليف في لغة إلا إذا وجدوا المنشطات عليه والدواعي الحافزة إليه كأن تقبل الدولة ما يؤلفون وتنيلهم الجوائز عليه وتطبعه على نفقتها وتدرسه في مدارسها. وإنما يرغّب الناس في العلم وهو أشق الصناعات وأشرفها رواج سوقه بين الخاصة والعامة ولكن إذا رأى المؤلفون أن بضاعتهم مزجاة وأن أرقامهم كعباً لا يربح من قلمه ما يسد جوعته وأسعدهم من لم يُضطهد في سبيل نشر علمه فهيهات أن تنشط اللغة من عقالها. وإذا لم توفق مصر إلى جعل التعليم بالعربية يستحيل أن توجد كتب علمية أو ينشأ لها نشؤ يحسن الكتابة والخطابة على مناحي البلغاء. دع عنك الأفراد فإنهم لا يخلو منهم زمن مهما بلغ من انحطاطه العلمي والاجتماعي.