انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 12/النهضة الأميركية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 12/النهضة الأميركية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 1 - 1907



خاتمة بحث معرب عن المجلة الجديدة

زادت الهجرة إلى الولايات المتحدة منذ سنة 1870 وكانت ألمانيا وإنكلترا من البلاد التي هاجر منها الناس زرافات وبعثت كل من النمسا والنروج والسويد وإيطاليا وفرنسا والصين واليابان عصابات من المهاجرين يغشون البلاد الجديدة ويحملون إليها برؤوس أموال كبيرة وأسست ألمانيا وغيرها مراكز للاستعمار في أميركا الجنوبية. ونظمت إنكلترا لها مملكة استعمارية يبلغ عدد رجالها من مائتي مليون إلى ثلاثمائة منتشرين في أصقاع الأرض ومدت روسيا سلطتها على سيبيريا والأقاليم التي وراء بلاد القوقاز وحلت فرنسا في الهند الصينية ومدغسكر وألمانيا في بحار المحيط وأميركا الجنوبية ونثرت إيطاليا أرجاء بلاد الحبشة بأشلاء أبنائها واليابان تحارب روسيا للاستيلاء على كوريا. أما الولايات المتحدة فلم تنو اتخاذ مثال الأمم المتحدة إلا سنة 1898 فدخلت إلى جزائر الهافاي وساموا والفيلبين وكوبا وبورتوريكو وباناما وأخذت تضع العقبات فس سبيل المهاجرين من أوربا والشرق الأقصى وراحت تبعث بجمهور من مهاجرة أبنائها مع رؤوس أموال ضخمة إلى المحال التي بسطت ظل نفوذها عليها. وعقدت المعاهدات التجارية الخاصة مع جمهوريات الجنوب وبعض الممالك الأوربية جاعلة لحماية تجارتها القول والفصل.

ومما يدل على بسط سلطة الأميركيين وتوفيقاتهم الاستعمارية استشارهم بجزائر الهافاي سنة 1900 تلك الجزائر التي تأخذ منها الولايات المتحدة سبعين ألف طن من السكر وفيها من ضروب الثمار والزهور ما تحار له الألباب وجميع أهلها يقرؤون ويكتبون وقد نالوا الجائزة الأولى في انتشار التعليم الابتدائي بينهم في معرض باريس سنة 1878 والعيش فيها من حيث الرغد والرفاهية لا يشبهه إلا المقام في جزائر كناريا. وقد نالت أميركا سنة 99 معظم جزائر ساموا ثم حولت وجهتها نحو استراليا واليابان والصين لما في البلاد الأولى من الخصب والغنى وفي الثانية من الطموح إلى الترقي وفي الثالثة من الضعف والاستسلام.

جعل الأميركان قبلتهم تلك الممالك والتجارة مقصدهم الأول نعم بعثوا بدعاة الدين ولكن دعاتهم لم يشبهوا دعاة الكثلكة بحال فهم يبتعدون عن المشاغب والمتاعب ويجعلون التج أخص آمالهم ولذلك كان لهم في الصين المقام الأعلى فاستفادت منه أميركا فائدة مذكورة وساعدهم على ذلك مضاهاتهم للأوربيين في متاجرهم في أقصى آسيا كون مدينتهم سان فرنسيسكو أقرب إلى شنغاي وهوكنغ ويوكوها من هامبورغ والهافر ومرسيليا إليها. وقد كان للأمريكان اليد الطولى في إطفاء فتنة البوكسر في الصين سنة 1900 وإنقاذ السفارات الأجنبية من الحصار وفتح أبواب الصين للتجارة العامة على قدم المساواة بين الدول. وسياسة الباب المفتوح أمرضتهن كافة ولم تتألم أميركا بمحالفة اليابان وإنكلترا سنة 1902 تلك المعاهدة التي أدت في الأحايين إلى خرق سياج هذا الباب في بعض أحوال مخصوصة.

ولم يكتف أرباب الأموال من الأميركان أمثال فندربلت وجاي كود وركفلر بتأليف شركات كبيرة للاتجار في الصين بل قامت زمرة من أصحاب الملايين منهم ترى احتكار المشاريع الإفرادية في إحدى الصناعات غاية في البساطة فاحتكر المثري كارنجي الحديد ثم تألفت شركة من كل من كارنجي ومور ومورغان احتكرت الفولاذ في بلاد أميركا وهو من الاحتكارات التي لم يسمع لها مثيل وقد ساعد هؤلاء المحتكرين الثلاثة على احتكار الفولاذ إن كانت لهم الخطوط الحديدية. وبعد أن تم لهم ذلك أنشئوا شركة بحرية تمخر سفنها عباب البحر المحيط ليتمكنوا بواسطة سفنها من الاستيلاء على تجارة الأسواق الخارجية كما تمكنوا من الأخذ بناصية الأسواق الداخلية. ثم أسس المثري مورغان دار صناعة يصنع فيها أرخص السفن وأجودها حتى لا يتيسر لشركة في العالم مهما بلغت من القوة بأن تضاهيه وشركاءه في احتكارهم.

غلبت أميركا حكومة إسبانيا منذ سبع سنين فرغب كثير من الدول الأوربية في مسالمة أميركا وأصبحت كل من إنكلترا وألمانيا لا تخاف على نهضتيها إلا من سطوات الأميركان. وحاولت ألمانيا القرب من الولايات المتحدة ولكن هذه لا ترضى عن تلك وهي ترى أبناءها ينزلون في أميركا ويستنزفون أموالها بالإتجار وغيره من الأعمال. أما إنكلترا فحالها مع الولايات المتحدة تختلف عن حال غيرها ذللت لأنها غذت أميركا بأجود لبنها فلما انفصلت عنها عرفت قدر حماية التجارة وتمكنت بهذا المبدأ من التغلب وإحراز قصب السبق لأن تينك الأمتين على طرفي نقيض في صلاتهما التجارية. فأميركا تقول بحماية التجارة وإنكلترا تقول بحريتها.

ولقد خيف على مستقبل التجارة الإنكليزية حتى قال غلادستون: مهما كان من سرعة سيرنا معاشر الإنكليز فإن سير الولايات المتحدة قد جعلنا وراءها بمراحل وستكسف تلك البنت أمها وتشل المقام الأول الذي نشغله اليوم فلا نستطيع إذ ذاك أن نصدها عنه إلا كما صدت البندقية وجنوة وهولندا عظمتنا المأثورة. قال الكاتب هذا القول سنة 1870 ولم يكد يتم القرن التاسع عشر حتى صارت إنكلترا من هذه الوجهة دولة ثانوية ولأميركا المقام المحمود وحق التصدر والأولية وأمست إنكلترا لا يهمها سبق أميركا وحدها بل قام لها من دول الأرض من حذون حذو الأميركان في مباراتهم التجارية مثل الألمان واليابان والروس.

وغير خاف أن العنصر السكسوني من أعظم العناصر إدلالاً بعظمته حتى لقد صرح يوماً سسل رودس الغني المشهور الملقب بنابليون الكاب بأن الله اختار العنصر الذي يتكلم الإنكليزية ليكون أداة يقام بها مجتمع أسس على العدل والحرية والسلام ولطالما صرح نبلاء الأمة الإنكليزية بمثل هذه الأفكار وأظهروا من الفرح بنهضة الأميركيين وأن نجاحهم كيف كان يعد نعمة على البريطانيين لا نقمة. قال بعضهم سئل إسكندر دوماس القصصي الفرنسي ذات يوم أي تأليفه أحب إليه وكان ابنه جالساً بالقرب منه فأشار بيده إلى ابنه وقال هذا. ولذلك أقول أي حسنة تعد لإنكلترا الولايات المتحدة رأس حسناتها أهلها أهل العزائم وهم أجدر منا بالقيام بالعظائم.

ومن جملة ما أوصى به سسل رودس من الأعمال الخيرية أن يصرف من ماله على الدهر أجرة تعليم تلميذين من كل ولاية من الولايات المتحدة يجيئون مدرسة اكسفورد الجامعة في بلاده ليتعلموا فيها على نفقته ويعودوا إلى أميركا لتنتفع بهم أمته. قالت إحدى الجرائد ولو كان عكس الأمر بأن أوصى أن يعلم بعض أبناء بلاده في أميركا للوقوف على أحوال الأميركان لعمل خيراً كبيراً. حتى أن القاعدة الشائعة في مدرسة هارفرد الجامعة الأميركية التي سنها الفيلسوف أميرسون الأمريكي هي: أن السكسونيين كانوا وعليهم أن يكونوا العنصر الحاكم المتسلط وما يطمحون إليه هو أبسط النفوذ والقدرة على الاضطلاع بالأعمال.

وبعد فإن النهضة الأميركية أحدث من النهضة الإنكليزية وأقوى من النهضة الألمانية والروسية وأحسن انتظاماً من النهضة اليابانية ومنها الخوف القريب على مستقبل العالم. وأن مبدأ مونرو مضافاً إلى نهضتها الزراعية والصناعية والتجارية هو ما يطوي الأحشاء منها وجل أبداً من حيث الأمور السياسية. ولقد كان للنساء اليد الطولى في هذا الارتقاء فإنك ترى للمرأة في الولايات المتحدة من الاعتبار والمقام مالا تراه لها في بلاد أخرى من ممالك الأرض. فالمرأة هناك تؤسس البيوت على التقوى والحب لا على المصلحة والمنفعة وتنفخ في ذويها النشاط الذي يعلى منزلة الإنسان وتحببه إلى النفوس. فمن أجل المرأة قام الأميركان بأعمال عظيمة في حروب الرقيق المدعوة بحروب الانشقاق ومن أجل المرأة ترى الأميركي معجباً بنهضته وساهراً أبداً على دفعها إلى أقصى غايات الكمال على أن في الولايات المتحدة من المسائل السياسية الداخلية ما لم توفق بعد إلى حله مثل مسألة الرقيق والمسألة المالية ومسألة الجيش ومسألة البحرية ولا ينبغي لمن يرغب في العمل من الدول أن ينتظر ريثما تنحل هذه المشاكل لئلا تفوته الفرصة وتنادي محبة المباراة منهن الصيف ضيعت اللبن.

أما المسائل العسكرية والبحرية فالولايات المتحدة تحلها أي حل ناهيك بأمة لم يكن لها سنة 1891 من السفن الحربية ما يستحق الذكر وصار لها اليوم المقام الثاني بين الدول البحرية وتطمح إلى إحراز المقام الأول مما يتأتى لها في القريب العاجل. وإني لآمل أن لا يذهب كلامي في الهواء إذ أن نهضة الأميركان تستحق أن تستدعي أنظار الأوروبيين ما دامت تسوي كل مسائلهم ويمتلئ الفراغ وتصلح النواقص ولم يبق في الولايات المتحدة في الحقيقة غير مسألة السود التي تنحل بطبعها يوماً عن آخر.

وما برح إخلاف عبيد إفريقية ينمون منذ حرب الرقيق وكانوا إذ ذاك أربعة ملايين فغدوا اليوم من اثني عشر إلى ثلاثة عشر مليوناً على أن السواد الأعظم منهم ما برحوا في ذهول وخمول وما فتئ الأميركيون يكرهونهم كثيراً وإن حرروا من رقهم فقد لا تجد فتاة أميركية تزوجت بزنجي ولطالما عوقب بعض الزنوج على إن أطالوا يد تعديهم على النساء البيض ومزقوهن إرباً إربا وهذا ناتج عن البغض القديم المتأصل بين العنصرين ويزيد فيه الصفات السيئة التي اختص بها الزنوج بيد أن العقول ما برحت تفكر في تلك البلاد بإيجاد حل لهذا الإشكال ووضع دواء لهذا الداء وذلك من طريق العلم والتربية.

قام العمراني الأسود كوكر واشنطون وأنشأ مدرسة جامعة عظمى للسود في مدينة توسكيكو وأسست فيها مدارس خاصة بالزنوج تكون تحت مناظرة العقلاء من الأميركيين. وقد عني رجال الأميركان ومنهم الرئيس روزفلت اليوم بتحرير الجنس الأسود من رقه الأدبي فدعا إلى تناول الطعام على مائدته كوكر واشنطون المشار إليه ولم تخش الآنسة ابنته على سواد بشرتها من التنزه مع النساء البيض. ولا يلبث السود أن يتعلموا لترتفع مداركهم عن التسفل والفظاظة وليفنوا في كيان الأميركيين كما يفنى غيرهم من المهاجرين.

وإني أعود فأقول أن نهضة الأميركيين جديرة أن تدرس حق دراستها وإلا ساءت مغبة أوروبا وباءت بالخسران العظيم وخصوصاً إذا تمت الأمنية بعقد تحالف إنكليزي أميركي. وليعلم الدول كلهن مع هذه القوة الهائلة أن للجميع_كما قال الفيلسوف سبينوزا_محل من بيت الرب أي مجال لكل الرجال في هذه لحياة الدنيا ليعلموا والله يعلم السر وأخفى.