مجلة الرسالة/العدد 999/الولاة والعمال في عصر الرسول
مجلة الرسالة/العدد 999/الولاة والعمال في عصر الرسول
للأستاذ عواد مجيد الأعظمي
لقد بحثت في موضوع سابق معنى الولاية، وتطور مفهومها، وصيغتها الفقهية والنظرية، وقد ذكرت في نهاية الموضوع، أني سأتناول الناحية العملية والواقعية في سياسة الولاة والعمال في مختلف عصور التاريخ الإسلامي مبتدأ في عصر الرسول (ص).
لم تكن حكومة النبي (ص) حكومة دينية حسب، بل حكومة سياسية أيضاً (فقد كان (ص) يقود الجيوش، ويفصل في الخصومات ويجبي الأموال) (وأن النبي (ص) كان صاحب دولة سياسية، ورئيس حكومة كما كان رسول دعوة دينية وزعيم وحدة دنيوية) وبهذا كان رسول الله (ص) يجمع في يده بين السلطتين الدينية والدنيوية، (ولا شيء أصوب من جمع محمد (ص) لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت بلاد العرب مجزأة) وقد أكد الرسول (ص) على نظام الشورى في إدارة الأمة الإسلامية الذي جعله يعتمد على اختيار عمال وولاة صالحين يساعدونه في الإدارة (حيث كان يتخير عماله من صالحي أهله، وأولي دينه، وأولي عمله، ويختارهم على الأغلب من المنظور إليهم في العرب، ليوقروا في الصدور، ويكون لهم سلطان على المؤمنين وغيرهم، ويحسنون العمل فيها يتولون، وكان يستوفي الحساب على العمال ويحاسبهم على المستخرج والمصروف)
وقد كان لانتشار الإسلام وتوسعه أثره البين في اختيار الرسول (ص) عمالا وولاة ينوبون عنه، لإرسالهم إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وإناطة بعض الأعمال الدينية والمالية بهم. . فيروي المسعودي: (لقد تتابعت اليمن على الإسلام وقدمت على رسول الله (ص) فكتب لهم كتباً بإقرارهم على ما اسلموا عليه من أموالهم وأرضهم، ووجه إليهم عماله لتعريفهم شرائع الإسلام وقبض صدقاتهم وجزية من أقام على دين النصرانية والمجوسية واليهودية).
وإن حاجة حكومة الرسول (ص) إلى المال لإدارة شؤون الدولة الإسلامية اقتضى تعيين عمال يقومون بجبايتها: (وكان رسول الله (ص) قد ولى عمرو بن العاص على صدقات سعد، وعذرة، وجذام وجديس). . كما (وجه عامل البحرين العلاء الحضرمي ألف درهم إلى رسول الله (ص) وهو أول مال حمل إلى المدينة فصرف على الناس). (وكان (ص) يولي حمل كل مدينة كبيرة بالحجاز واليمن، وكذلك على كل قبيلة كبيرة عاملا من قبله. . وكانت وظيفة هؤلاء العمال هي الإمامة في الصلاة وجمع الصدقات).
هذا إلى أن الرسول (ص) كان يعير انتباها خاصا للشؤون العسكرية، والقضائية، وكان يعتبرها جزءاً أساسيا من واجبات العمال. . (فقد كان للرسول (ص) نقباء كما كان له عرفاء أو رؤساء الجند). . (وجعل الرسول (ص) القضاء جزءاً من الولاية يقوم به الوالي) وإن استقل القضاء فيما بعد كما سترى في الفصول القادمة.
ومما مر - نرى أن اختيار الرسول (ص) للعمال والولاة؛ كان نتيجة حاجة الأمة الإسلامية في إدارة شؤون حياتها المتعددة - دينيا، واقتصاديا، وعسكريا، وقضائيا - ولكن الواضح أن الرسول (ص) لم يعط لهؤلاء العمال صفة سياسية في الأوقات التي كانت ينيبهم عنه في المدينة (فإن الرسول كان ينيب عنه قائدا يقود سرية من السرايا، أو ينيب عنه بالمدينة أحد أصحابه لإمامة الناس والصلاة). . (ولكن لم يكن لهؤلاء العمال صفة سياسية).
وقد فرض الرسول (ص) الرواتب لعماله. . (فقد فرض لعتاب بن أسيد الذي ولاه مكة درهما كل يوم. . فكان هذا الراتب أو لما وضع من الرواتب للعمال) وقد استمر ذلك إلى زمن عمر بن الخطاب حيث قدر الرواتب للعمال بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأو ما فعل ذلك ما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها فجعل له 600 درهم في الشهر) (كما أجرى على عثمان خمسة دراهم كل يوم).
وكان الرسول (ص) يوصي عماله خيرا، بأتباع سياسة الحق والعدالة، فمما يروى عنه أن قال لمعاذ بن جبل: (إني أحب لك ما أحبه لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تتولين مال يتيم) وهناك أحاديث كثيرة تروى عن الرسول (ص) وجميعها توضح ما يجب على الولاة أتباعه من سياسة العدل والمساواة بين الرعية؛ فمن قوله (ص): (ما من يؤمر على عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه ويوثقه).
وقد ورد في الحديث أن النبي (ص) قال: (يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله عز وجل أنتم كنتم دعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي، ثم يقول لأحدهم لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب لأنهم عصوك وخالفوك؛ فيقول لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي، ثم يقول لأحدهم لم عاقب عبادي أقل من الحد الذي أمرت به، فيقول يا رب إني رحمتهم، فيقول تعالى: كيف تكون أرحم مني، خذوا الذي زاد والذي نقص واحشوا بها زوايا جهنم) وفي الحديث أيضاً قال (ص) (لا يقف أحدكم موقف يضرب فيه رجل مظلوم، فإن اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه).
فكهذا كان الرسول (ص) قويا حازما، حريصا على توجيه النصائح والإرشادات لولاته وعماله، حاثا لهم على تطبيق الحق والعدل والمساواة بين الرعية.
بغداد - العراق
عواد مجيد الأعظمي