مجلة الرسالة/العدد 996/القصص
مجلة الرسالة/العدد 996/القصص
عودة الروح
للكاتب الفرنسي تيودوردي بانفييل
استكملت السيدة هورتنس دافراي في 1882 ربيعها العشرين، وليس في قولي (السيدة) تجانفا مني ولا مينا. فقد كانت هورتنس زوجة، بل أرملة بائسة لا ولد لها يسهر ولا قريب يؤويها إلا جدتها (مدام دي برييل). . استقدمتها تلك الجدة لتشاطرها العيش في مسكنها بشارع ليل. وكانت هورتنس تنشق - بقرب جدتها - آخر نسمات العيشة العائلية الهادئة تهب عليها في ونى وهدوء. قد مضى الآن حولان كاملان على وفاة جدتها الطيبة التي ماتت حزينة قلقة على مصير حفيدتها إذ تتركها وحيدة في غياهب الفقر وأمواج الحياة. إنها عمرت ثمانين عاماً رأت فيها من تحب يتزوجون، ومن تعرف يرحلون ولم يبق منهم أحد تعهد إليه بحفيدتها البائسة.
ولما أحست مدام دي برييل بأجلها يقترب، رتبت أمرها في شهرها الأخير، كي لا تقلق بال حفيدتها. ولقد غالت الجدة في ذلك، فكانت ترمي أوراقاً كثيرة في النار وتحفظ الأخرى. وكانت الجدة تحتفظ - طوال مرضها - بصندوق صغير في دولابها الكبير. وكانت تضع مفتاحه في خيط من الحرير تحت الوسادة الحائلة. وكثيراً ما كانت الجدة تمسك الصندوق ساعات طوالا، كأنما تريد أن تنتهي من أمره إلى حل، وتتخذ حيال ما فيه قراراً. ودهمتها سكرة الموت قبل أن تقرر مصيره أو تتخلص منه.
واستشعرت السيدة دافراي قلقاً يساورها عندما عثرت يداها الباحثتان على الصندوق الصغير.
وقررت أول الأمر أن تحرقه - أمانة منها وإخلاصا - دون أن تعرف ما فيه من أسرار. ولكنها لم تفعل ذلك خشية أن تضيع - بحرقه - أداء واجب عليها أداؤه، أو وصية لا بد منها. وهكذا فتحت الصندوق وألفته مليئا برسائل جمة، لا تحمل العنوان على الأغلفة كما هي الطريقة الحديثة، ولكن تحمله على شرائح من ورق رفيع. وقد علمت - بعد أن بصرت بأول خطاب - أنها ليست رسائل جدتها مدام دي برييل، ولكنها رسائل أم جدتها - السيدة إيودكسي تيرين. وقد رأت هورتنس تلك الجدة العتيدة. فأنها لم تمت إلا أخيراً في سنة 1882. ولها من العمر خمسة وثمانون عاماً.
على أنها تستطيع أن ترى خيالها كل حين إن أرادت، فأسرتها تحتفظ لها بصورة رسمها البارون جروس، في ميعة شبابها ووفرة صباها. وقد كان عن طريق غريزة ركبت فينا، نشعر بها ولا نستطيع أن نكيفها، أن رأت هورتنس دافراي بينها وبين صورة الجدة - التي صورت من ثلاثة وخمسين عاماً خلون - شبهاً قوياً. بل لتكاد - إذ تنظر إليها - ترى وجهها في مرآة صافية!
ذلك بأن الطبيعة يحلو لها في فترات مختلفة وفي أسرات خاصة، أن تعيد خلق وجوه درست وثوت بالتراب من أمد بعيد. . تعيد خلقها كما كانت، كأنها مثال يأخذ عدة أشكال من قالب واحد. ولكن المرء يسائل نفسه في تلك الأحوال: إلى أي حد يبلغ الشبه؟ أيقتصر على الوجه والخلقة؟ أم يسيطر على الأفكار والمشاعر؟ أم ينفذ إلى سواد الفؤاد؟! تلك مشكلة من مشاكل العلم الحديث يرمينا بها فتفتح أمامنا آفاقاً واسعة غير ذات بر ولا حدود.
وقبل أن تقرأ السيدة دافراي أولى الرسائل لمحت سكة كبيرة تتدحرج في الصندوق بجوار جداره الرقيق. فالتقطتها، وتفقدتها، فإذا بها رسم ملازم شاب، من ضباط الدولة الأولى، ذي شعر وحف جعد، وعينين يلمع فيهما بريق الشهامة وبأس الشباب. وجبهة قسمتها ندية جرح طولي إلى قسمين عريضين. ينبسط أكبرهما من حاجبيه إلى منبت الشعر بوسط المحيا. وجبهته عامة جبهة شجاع جسور. وأدمنت هور تنس النظر في الصورة، فجذبها بريق العينين، وفتنها سحر الجمال، وأخضعها بأس الهوى! فاستشعرت في قلبها آلافا من المشاعر المتضاربة المركبة، آلافا من الخوف وأخرى من سرور، إنها تحب! ولكن ويلها من تحب!؟ فتى مرت على وفاته حقب وأعوام، وتوالت على قبره أحداث ورجام! فتى دالت دولته، وراحت صولته، وقدر لها ألا تراه على الأرض حيا!. . . ولكن كثيراً ما لعبت الجذوة التي تلهبنا بالحقائق والأفكار! وكثيراً ما كانت الحقيقة شيئاً مستحيلاً، فليس ضرورة أن يكون الشيء ممكناً حتى نقول بأنه حقيقة.
وإنه لمن الضلال البعيد أن نقول بأن هوتنس قد فجئها الحب، ولكنها كانت تشعر في قلبها بحب قديم، له آلامه وآماله، ولسبب ما خمد وانطفأ بل نزع من القلب والذهن انتزاعاً. ولكنه استعر فجأة، وقفز إلى ذهنها وقلبها معاً يعذب هذا بالذكريات، ويكوي ذاك بالشوق والألم.
وتفقدت الرسائل فإذا بإمضاء واحد يذيلها جميعاً. وقرأتها في شغف وجنون. ثم كانت لا تني عن القراءة والإعادة كأنها محمومة. ولم يكن عسيراً أن يجمع المرء خيوط القصة التي أنجبت تلك الرسائل
تزوجت جدتها السيدة إيوودكسي تيرين من أحد متعهدي الجيوش. وكان كهلاً أنانياً، أفسدته الخلاعة، وأضواه المجون. وقد مكنتها مهنة زوجها من الاتصال بضباط الجيش. فهام بحبها ملازم شاب من جند نابليون، يدعى بول فراند وجرفها تيار هواه. فلم تستطيع أن تقاوم أو تتشبث. فسايرت التيار في هوادة وإخلاص. فكان جميلا أن ترى عاشقين شفهما الهوى وبرح بهما الغرام يتعاطيان كؤوس الوصل مترعة هنية، وينهلان من منبع الحب الخالص. فيحلمان بسعادة خالدة، ونعيم مقيم. غير أنهما - طوال الوقت - يشعران بأجنحة الموت السوداء تصفق فوقهما كأجنة الخفاش الأعمش، وبإنسان بمسوح الردى الطخياء تهددهما بالبعد والحداد.
وسرعان ما تبددت الأحلام، وحلت المخاوف! لقد فرق الدهر المشتت بينهما أيام (أوسترلتز) وإبينيا وإيلو، أيام فريدلند ووجرام. . . وكانا قليلا ما يلتقيان - في تلك الأعوام العصيبة - لحظات معدودات. ولكن فراديير كان يختلس ما بين واقعتين أو ما بين نصرين فيسيطر لها - وهو أشعث أغبر - آيات الحب والهيام. ويبثها وقدة الشوق وجدوة الهوى. يسطر لها رسلات مترعة أسى وعذاباً، تقرأها الآن حفيدتها الصغرى بين دمع وأكف وقلب خافق، بين صدر يعلو ويهبط كالموج، وأنفاس حرى تذهب وتجئ. كان من أجل إيودكسي - كما كان من أجل نابليون - أن خاض فرانديير المعارك الدامية، وشرق في البلاد وغرب، وقاسي كثيراً واصطبر. كان يريد أن ينصر العاهل حتى النفس الأخير، وإن يكسب لإيودكسي عرشاً فحيما.
ومات في تلك الأثناء زوجها. وجن فرادنديير الأمل، وحن إليها ففكر في الرجوع إلى الوطن. وبينما الأمل ينمو ويوطد الجذور، والشوق يستعر والقلب خفاق، إذا به يقع في الميدان يتشحط في دمه المغرم، وإذا برصاصة تخترق صدره العاشق وتسكت قلبه الخافق. فثوى في حزون سمولنك الباردة وحيداً، لا قلب يخفق له، ولا دمع يترقرق في المحاجر أسى عليه. ونعى فرادنديير زميل ائتمنه على سر قلبه وذات صدره. وكان خطاب الزميل مع الرسائل الأخرى في الصندوق الصغير.
ما في هذا الأمر من شيء غريب. ولكن الغريب حقاً أن يتراءى لهورتنس دافراي أن التوسلات والذكريات التي حفلت بها الرسائل. وإن الجوى والهيام كل ذلك لها هي من دون جدتها إيودكسي تيرين. واندفعت روحها الظامئة ناشدة ذلك الحب تاركة وراءها الحقيقة ونواميسها، وحلقت بالغرام في الخيال غافلة عن الواقع ونظمه، وتمادت في ذلك فاستباحت لنفسها أن تخلق المعدوم وإن توجد المستحيل! ولم تكتف بذلك بل وهبت نفسها لفرانديير هذا دون أن تفكر لحظة أنه مات منذ أمد بعيد، في تيه المجد وضجة النصر المبين. واعتقدت أنه يوماً موافيها، وأنها ملاقيته بعد أمد قريب أو بعيد، وأنها مسلمة عليه ومصغية لحديثه الحنون، ولم يخامرها في يقينها هذا شك، ولا وجدت على عقيدتها غباراً. . . رأت فأحبت فأغرمت فتعذبت ثم راحت تنتظر الحبيب بثقة واطمئنان!
لو رأى النائم المعجزات في حلمه لما استغرب، لأن النفس تكون متطلقة من الواقع ونظمه، والحقيقة وأشراطها. وكذلك لم تستغرب هورتنس دافراي - حينما كانت تزور مدام دي سيمور - أن تعلن الخادم قدوم السيد بول فرانديير
راته يدخل، هو بعينه الذي أحبت وتحب: بول فرانديير! بول فرانديير بشعره الوحف المجعد، وعينيه السوداوين، ثم بندبة الجرح في جبهته العريضة. . . لم يكن هناك فرق سوى انه يرتدي زي ملازم من مدفعية الفوج الإفريقي الأول. . . كلا! ولم تعجب مدام دفيراي إذ تراه، فقد كانت تنتظره بصبر واطمئنان. على أن قلبها غاص في حنايا صدرها البض، وراح يحطم ضلوعها بخفقه الشديد، وودت إن لم تكن بين ذلك الجمع من الرجال المتألقين وتلك الثلة من النساء ذوات الأساور والحلي، فتقفز كالغزال اليه، ثم تغيب في أحناء صدره الرحيب قائلة (هاأنا ذي)
وانحنى فرانديير لعمته مدام سيمور. ثم يرى هورتنس فجأة، فيبهت، لا عرف لديه ولا نكر، وغاض لونه واصفر وجهه، واستطاع بعد لأي أن يعتمد على الحائط وإن يجر قدمه الواهنة إلى مخدع كان لحسن الحظ خاليا، فتخاذل وارتمى على بساطه الثمين. ودهشت مدام سيمور من سلوكه الناشز عن العرف والتقليد، فتعقبته إلى حيث تداعى يئن أنينا.
ودخلت المخدع ساعة رانت عليه صفرة الموت وغاب عن الوجود.
واستدعت عمته طبيبا مشهورا من أضيافها. ولكنها أحست - بغريزة المرأة - أن هناك سرا لا يحسن ان تفض غلفه لأحد غريب. فجثت على العليل تدلك رأسه وصدغيه، وتنشقه بعضا من ملح قوي مفيق. ثم رفعت رأسه براحتيها واضعة تحتها وسادة من حرير غال.
ولما أن أفاق وثاب إليه الوعي، دس يده في جيب صداره وأخرجها تحمل رسما على ورق قديم حمله قبلات والهة، فأراه عمته، ثم صاح في فرح المجنون وطرفه غريق في الدمع الهتون: (أي بلانش! بلانش! إنها تحيا!) فأجابته عمته: بلانش! بالطبع! إن هورتنس دافراي تحيا، وهي فوق ذلك صديقتي. ولكن قل لي لم تدخل في زي الدولة الأولى؟ على انك لم ترها مرة واحدة! فما معنى تلك النوبة التي انتابتك من لحظة؟ فقال فرانديير:
- أني لم أرها إلا الآن ولكن روحي هامت بها من زمن بعيد، وأوسعتها حبا وعشقا. وقد استقر حبها بين جوانحي وفؤادي، وسرى بين لحمي وعظمي. لم يفارقني ذلك الرسم منذ خلص إلي وتناهى من ثلاثة أعوام خلون. واصطحبني في الفتح والحروب، في النفق والخنادق، فكان رسول السلام إلى قلبي الموله الجازع إذا ما اشتد النزال وحمى الوطيس، وكان بشير الحصانة إذا ما رنق على الرؤوس الموت ليختار على أي يقع. كان فيض الأمل ونبع الحياة، كان كل هذا برغم ما كنت اعلم من موت صاحبته. ولكني لا املك من امري شيئا. وكنت أعلل نفسي أني ملاقيها في جنان الرحمن حيث لا تعجز اللقيا. . . ولم يكن خيالي يستبيح لنفسه - وهو الشرود الجموح - أن يتصورها حية في عصرنا هذا. فهو إن صورها يصورها نائمة بجلال بين الورود والزهور في جدثها العاطر. فيطير لبي شعاعا، وتنسرق نفسي هياما وحبا!
- هذا حسن! ولكنك لم تحدث لي من أمر الصورة ذكرا. كيف تناهت إليك؟
- ذلك أمر بسيط! فقد كان لدى أبي - في مكتبته - مكتب مهجور. طلبته منه كي استذكر عليه فأعطانيه ولم يمهل. وقال لي انه من مخلفات - سميي - عمه الأكبر بول فرنديير. كان ملازما في جيش الدولة الأولى. ومات في سمولنسك في السابع عشر من سنة 1812. وكانت مفاتيح المكتب ضائعة فاضطررت إلى كسر أغلاقه، وفي أحد أدراجه الخفية عثرت يداي المجدودتان بتلك الصورة المقدسة، ولقد عشقتها من ذلك الحين - حقا إن في ذلك الحادث جانبا كبيرا من الغموض والإبهام، وعلى أية حال فأنت شاب طليق وهي فتاة حرة. فلا مانع يفصلكما من الحب ويحرمكما الزواج
ولكن الأماني كانت سرابا. ادكر كل من بول وهورتنس صاحبه، فتذاكرا العهود وجددا الغرام، فنعما بجنة الحب أمد قصير. ولكن بول ذهب في فوجه إلى (تونكين) وهناك مات - كجده - برصاصة شقت الصدر وباتت في الفؤاد، أي بؤس وعذاب!
س. م