مجلة الرسالة/العدد 996/آراء جون ديوي في التربية
مجلة الرسالة/العدد 996/آراء جون ديوي في التربية
للأستاذ حسن محمد آدم
توفى أخيراً الفيلسوف الأمريكي جون ديوي الآراء والنظريات المشهورة في التربية. ومن حق الرجل علينا - حن المشتغلين بالتربية والتعليم - أن نكشف للناس عن بعض ما لهذا الفيلسوف من فضل على المناهج التربوية الحديثة في المدارس والمعاهد وبالتالي على الجيل الجديد الذي يتربى فيها في هذا القرن العشرين.
يعتبر جون ديوي صاحب مدرسة وصاحب مذهب في التربية وله أتباع وأنصار عديدون وآراؤه الفلسفية في التربية تتميز بأنها عملية ترتبط بواقع الحياة وترمي إلى نفع الإنسانية منفعة مباشرة، ولهذا أطلق على مذهبة التربوي مذهب البراجماسية. وإذا نظرنا هذه الآراء نجد أن ديوي يقرر أول ما يقرر أن (التربية يجب أن تهدف إلى تنظيم اشتراك الفرد في حياة المجتمع اشتراكاً إيجابياً عن وعي وقصد، كما يجب أن تهدف إلى الإصلاح الاجتماعي الذي لا يتحقق إلا إذا وجهنا نشاط الفرد وتفكيره نحو الاشتراك في المجتمع حتى يصبح فيه عضو نافعاً منتجاً)
وكانت هذه المبادئ التي بدأ يقررها وينادي بها حدثاً في حياة التعليم التي ألفها الناس وعكفوا عليها القرون الطوال. فإن السنة التي كان الناس يجرون عليها في تربية أبنائهم وتهذيبهم هي إرسالهم إلى المدارس بغية تلقي العلم واكتساب المعرفة عن طريق المربين الذين كانوا يتبعون طريقة واحدة هي طريقة إلقاء المعلومات وتلقينها للأطفال تلقينا نظرياً حتى تمتلئ بها أذهانهم وكانت هذه هي الطريقة المثلى لازديادهم علما وخبرة ومعرفة بالحياة!
وهاجم ديوي هذه الطبقة التقليدية الجافة وبين ما فيها من عقم وأوضح أنها لا تفيد الصغير بخبرات جديدة تحقق الغرض من اكتسابه لها، لأن موقفه السلبي الذي يتمثل في مجرد الإنصات والاستماع إلى خبرات الغير من شأنه أن يصرفه في غالب الأحيان عن الاستفادة؛ ومن شأنه كذلك أن يكرهه في مادة الدرس بما تدخله في نفسه من السآمة والملل، لأن الأشياء التي يكره على تقبلها لا تتعلق بذات نفسه لافتقادها عنصر التشويق ولبعدها عن ما يوائم ميوله الفطرية ويجاري غرائزه الطبيعية في هذه السن المبكرة.
هذا فضلاً عن أن انتفاع الطفل بما يتلقاه في مدرسته في حياته المنزلية والاجتماعية يكاد يكون مستحيلاً لأنه لا يجد ربطاً بين حياته في المدرسة وحياته في المنزل أو في المجتمع، وبذلك تكون التربية التي من هذا النوع عقيمة غير مجدية يصعب عليها أن تمد المجتمع بمواطن صالح واحد.
لهذه الاعتبارات كلها رأى (ديوي) أن التربية السليمة هي التي تقوم على أساس من خلق حياة طبيعية للتلميذ في المدرسة، مبنية على حاجاته وميوله ونشاطه الذاتي حتى يسعى بنفسه إلى اكتساب الخبرات الذي تنمي مداركه وتغذي عقله. . وبذلك نقل التلميذ من ميدان السلبية والركود إلى ميدان الإيجابية والعمل والنشاط. وبعد أن كان أساس التثقيف في الميدان الأول التلقين النظري الذي يأخذ فيه المدرس الجانب الأكبر من النشاط ولا يشاركه التلميذ فيه إلا بقدر ضئيل تافه. أصبح أساسه في الميدان الثاني التوجه العملي الذي يندفع فيه التلميذ من تلقاء نفسه بالتعليم، باذلاً النشاط الأكبر تحت إشراف مدرسه الذي لا تتعدى مهمته أكثر من التوجه والإرشاد إلى خير السبل لا كتساب المعرفة وتحصيل المعلومات.
وخالف (ديوي) رجال التربية التقليدية في أن هناك أغراضاً ثابتة للتربية لا تتغير بتغير الأحوال والظروف. فكان يرى أن التربية الحقة هي عملية نمو مستمرة ومتغيرة دائماً إلى ما هو أحسن بالنسبة لنوع المجتمع وظروفه ومثله العليا.
ولقد فهم كثيرون فلسفة ديوي هذه فهماً خاطئاً. إذ توهموا أن معنى هذا هو التحلل من البرامج والمناهج التربوية. ولكن ديوي كان ينص دائما على أن عملية النمو التي يقصدها ليست نمواً لا ضابط له. بل هي عملية نمو موجهة ومرغوب فيها هذا أنه لا ينكر المنهج بل غاية ما يشترطه فيه هو أن يكون مرناً ملائما المجتمع، منتظماً لمختلف أوجه النشاط التي تمكن الصغار من اكتساب خبرات جديدة في أطوار النمو المختلفة.
ثم إنه على أساس هذه الفكرة التربوية أقلع نهائياً في مدارس الأحداث الأوربية عن طريقة التلقين القديمة. ورسمت الطرق الحديثة في التدريس كطريقة المشروع وطريقة المشاكل وغيرهما. ويعتبر (وليم كلباتريك) و (جون ستيفنسون) اللذان يذكران إذا ذكرت هذه الطرق من تلاميذ ديوي الذين تلقوا عنه في مدرسته أفكاره الرئيسية التي بنوا عليها فلسفاتهم فيما بعد.
وكما كان لديوي أثره في الغرب كان له أثره أيضاً في الشرق وفي مصر خاصة. وقد بدأ المعنيون بشؤون التربية والتعليم يفتحون أذهانهم إلى هذه الفلسفة الجديدة واقتبسوا منها الشيء الكثير، وتعتبر المدارس النموذجية إلى حد ما خير من أخذت بآراء ديوي. وهذا لا شك خطوة طيبة إلى الأمام. ونرجو أن يأتي قريباً هذا اليوم الذي تتحرر فيه المدارس المصرية من الطرق التقليدية الجافة في التربية، وتعمم فيما بينها منهج ديوي وغيره من رجال التربية المحدثين بقدر ما تسمح به الظروف بيئتنا حتى نتخلص بذلك من الجمود والنقص المعيب الموجود في مناهجنا الحالية. وحتى يحين للتربية أن تثمر وتحقق المقصود منها.
حسن محمد آدم