انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 994/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 994/القصص

ملاحظات: الشقي المدلل Дорого стоит هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1890، وهي مقتبسة من قصة موباسان Sur l’eau. نشرت هذه الترجمة في العدد 994 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 21 يوليو 1952



الشقي المدلل

للفيلسوف الروسي (تولستوي)

كانت تقوم على شاطئ البحر الأبيض، وقريبا من الحدود الفرنسية الإيطالية مملكة صغيرة اسمها (مملكة موناكو)، ولعل لكثير من المدن أن تحتال على هذه المملكة بوفرة نفوسها وازدحام سكانها، فأن سكان هذه المملكة ما كانوا يتجاوزن سبعة آلاف! وعلى انه لو قسمت بينهم أراضى المملكة جمعاء لما أصاب المواطن الواحد منهم فدانا! ومع ذلك كله فقد كان لهذه المملكة ملك حقيقي له قصر وحاشية ووزراء، وله أسقف وجيش وقادة.

وعلى أن الجيش لم يكن بالجيش العرمرم الضخم - إذا ما كان عدد أفراده يزيد عن الستين - فهو مع ذلك جيش له خطره وأهميته بالمحافظة على كيان البلاد. . وكانت الحكومة في هذه المملكة ضرائب على الشعب تتقاضاها شأن بقية الحكومات، فضريبة على التبغ وضريبة على الشراب، وضريبة غير هاتين على الرؤوس. . ومع أن الشعب كان كعامة شعوب العالم يدمن التدخين. ويتعاطى الخمور، ألا أن الضرائب الحكومية من ذلك لم تكن تسد حاجات الأمير ونفقات بلاطه وجيشه، لو لم تسعفه ضريبة أخرى من مصدر جديد هو لعبة (الروليت) فكان الناس يتقاطرون من أنحاء أوربا ليقامروا هناك في دار القمار، وسواء اربح اللاعبون أم كانوا من الخاسرين فان لصاحب الدار الحصة المعروفة من المال. وكان يجتمع له بهذا مال كثير يكون النصيب الأوفر منه للأمير. . وتتضخم أرباح الأمير من هذه اللعبة مرجعة أن دار القمار هذه الوحيدة من نوعها في أرجاء أوربا كلها؛ وإذا كان أمرا الألمان قد منعوا من إقامة أمثال هذه البيوت في بلادهم لما يقع فيها من حوادث الأجرام والأضرار المتأنية عن خسارة وبعض اللاعبين ومغامراتهم ومضاربتهم وانتهائهم عند نزول الكارثة بهم إلى الانتحار بالرصاص، وإذا كان أمير (موناكو) غير متقيد ولا تابع لسلطة من التي يعطيها أمراء الألمان، فقد ألغيتدار القمار عند أولئك وبقيت داره هذه الوحيد في أوربا التي لا قدرة لأحد أن يتعرض لها بشيء، وظل هو محتكرا هذه الأربا.

وكذلك كان الناس يفدون على (موناكو) كان عليما بالمثل القائل (ليس من نتائج أعم النزاهة والشرف تشييد شوامخ القصور) وعلى انه كان عارفا بأن الميسر ليس من مشرفات الأعمال فأنه لم يجد بدا من إبقاء نظام الميسر على وضعه ليسد حاجته، وليعيش عيشة يرضاها، فكان يقيم الحفلات ويولم الولائم. ويظهرللناس بمظهر الأبهة التي يعدونها في قصور الملوك. وكان يمنح المنح، ويجزل الهبات ويشكل اللجان، ويشرع النظم وينشأ المحاكم. . . وكان يعرض الجيش ويطوف بأنحاء المملكة، ويفعل فعل غيرة من الملوك ولكن في صورة مصغرة كنسبة مملكته المصغرة إلى بقية الممالك!

وكان أهل (موناكو) معروفين بالمسلة وليس العريكة، فليس بينهم مجرم ولا سفاح، حتى حدثت منذ سنوات جريمة قتل كانت الأولى في تاريخ هذه المملكة؛ فأجتمع لها القضاة في يوم مشهود ليتداولوا في شؤون هذه القضية وفق أصول العدل والأنصاف. وكان ذلك الحفل المهيب يضم رجال القانون من محامين وقضاة ومحلفين ومدعين عامين. وقد ظلوا يتدارسون نصوص القانون. ويؤولونها، ويذهبون في تفسيرها المذاهب حتى اصدروا حكم الإعدام على ذلك القاتل وفق إحدى مواد القانون! وحمل القرار من بعد ذلك إلى الأمير، فقرأه وأصدر الأمر بالموافقة على ما يرتئون!

على أن مشكلة واحدة بقيت لتنفيذ الحكم، إذا لم يكن في المملكة مقصلة ولا كان بها جلاد! فبحث الوزراء المشكلة وقرروا أن يفاوضوا الحكومة الفرنسية في أمر أعارتهم مقصلة وجلاد لتنفيذ حكم الإعدام وطلبوا منها معرفة ما يقتضيهم ذلك من الأجور. ثم أرسلوا بالكتاب إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.

وبعد أسبوع ورد جواب الرئيس قائلا (أن تكاليف إرسال مقصلة وجلاد تبلغ ستة عشر ألف من الفرنكات) وعرض هذا على الأمير فعجب من استحالة قطع راس هذا الأثيم إلا بهذا المبلغ الجسيم الذي لا تقوم بشيء من حياته! ثم طلب التفتيش عن طريقة أرخص لا ترهق الأهليين بضريبة جديدة يجبرون عليها، وربما كان من ذلك ثورة جامحة تندلع ألسنتها فتغطى على الأمن في البلاد!

. . . ودعي مجلس الوزراء للبحث في هذه المشكلة من جديد. . وعندئذ قرر المجلس إرسال طلب آخر إلى ملك إيطاليا ذلك بان حكومة فرنسا جمهورية لا ترعى الود المتبادل بين الملوك وليس أمر ملك إيطاليا كذلك، فإنه - ولا شك - سيرعى حرمة الزمالة التي تربطه بالأمير فيتساهل معه وعلى هذا فقد كتبت رسالة في هذا الغرض وأرسلت، فجاء الجواب: (إن من دواعي غبطة الحكومة الإيطالية تجهيز جارتها بالمقصلة والجلاد مقابل أثنى عشر ألفا من الفرنكات ضمنها تكاليف الإرسال والإعادة) وهذا الأجر وان كان اقل من سابقه إلا أن المجرم لا يستحق إنفاق هذا المبلغ عليه، وتكليف الرعية بان يدفع كل فرد منها فرنكين:

وهكذا دعا المجلس الثالث للاجتماع فتداول أعضاؤه الأمر وتناقشوا في المعضلة لعلهم يهتدون إلى طريقة رخصةفي قتل هذا المجرم. فقال قائلهم: أو لا يمكن تكليف أحد من الجند بقطع رقبة هذا الأثيم؟ وليكن ذلك كيفما اتفق إذ المهم أن يموت! فدعا لذلك قائد الجيش وألقى عليه السؤال. فجمع جنده وسألهم: أفي استطاعة أحدكم تنفيذ المهمة؟ غير انهم يجبوه ولم يرتضوا ذلك منه، وقالوا له (أن ذلك من شأننا - نحن - ولا كان مما سبق أن دربنا عليه!)

هنالك فكر الوزراء وتذكروا فأجمعوا أمرهم على تفويض النظر في القضية إلى لجنتين: عليا ودنيا، وأخيراً تم القرار على الاستعاضة عن حكم الإعدام بالسجن المؤبد والأشغال الشاقة، وكان الأمير بهذا يستطيع أن يرى الرعية رأفته ورقة قلبه، كما أن تلك الطريقة كانت أرخص العقوبات جميعا! ووافق الأمير على هذاالحكم الأخير وأوشك التنفيذ أن يتم لولا أن قامت أزمة جديدة؛ وتلك هي أزمة أيجاد سجن يقضي فيه هذا السجين حياته. على انهم أخيرا وفقوا إلى إيجاد غرفة لأقامته وكانوا به سجاناً يتولى أمر حراسته وإطعامه من مطبخ القصر.

ظل السجين في محبسه تتعاقب عليه الشهور حتى اكتملت عليه سنة تماما؛ ولكن بيننا كان الأمير يفحص ميزانية الدولة ويقلب فيها نظره لاحظ أن فيها باب جديدا من النفقة، تلك هي نفقات سجن هذا المجرم الشقي، ولم تكن هذه بالنفقات اليسيرة البسيطة، ولا كانت بالسهلة القليلة، وإنما كانت شديدة الكلفة ثقيلة الوطأة على ميزانية الدولة! فقد كان المجرم هذا حارس يمنعه من الهرب، ورجل غيره يتولى أمر إطعامه! وفي هذا السبيل صرفت ستمائة فرنك من ميزانية الدولة هذا العام! والأدهى من ذلك أن الرجل في ميعة الشباب صحيح البدن معافى، ولربما امتد به العمر إلى خمسين من السنين! ولو حسب المرء للمسألة هذا الحساب لم يجدهابالسهولة التي كان يتصور وعلى ذلك فقد جمع الأمير وزرائه وقال لهم: (إن عليكم أن تكتشفوا طريقة غير هذه تكون أخف مؤونة وأقل منها نفقة، فهذه التي اتبعتموها باهضة لا قبل لنا بها!)

وتداول الوزراء الأمر بينهم حتى اهتدى أحدهمإلى فكرة فقال لإخوانه: (أيها السادة، إن من المعقول - في نضري - أن نفصل الحرس فنقتصد نفقاته). غير أن وزيرا آخر اعترض عليه قائلا: إن الرجل سيهرب إن لم يجد من يحرسه.) وهناك رد عليه صاحبه: إن ذلك ما يريدون إذ لا يهمهم أن يهرب)

وتم على ذلك الاتفاق. فرفعوا إلى الأمير تقرير يشرحون له الأمر فوافقهم على ما يرتئون. وفصل الحارس عن عمله وظل جماعة الوزراء يرتقبون المآل حتى جاء موعد الغداء واشتد بالسجين الجوع، فخرج بعد أن طال ارتقابه لحارسه حتى يأس منه - إلى مطبخ القصر وأخذ طعامه منه وعاد إلى غرفته وأغلق على نفسه الباب! وعاد في اليوم التالي فكرر ما صنع بالأمس في الوقت المعين المحدود. وهكذا قبل السجين هذا العناء الجديد، دون أن تخطر له فكرة الهرب من هذا السجن على بال!

وإذا فماذا ترى الوزراء فاعلين؟

هنالك اجتمعوا وبحثوا المشكلة من جديد فقر رأيهم أن يصارحوه بعدم رغبتهم في بقائه، فاستدعاه (وزير العدل) إليه وسأله

- ما بالك لا تهرب وليس عليك حارس يمنعك؟ أذهب حيث شئت فلن يعني بذلك الأمير. فأجاب الرجل: - لعلي أستطيع أن أقول أن الأمير لا يعنيه، ولكن أين المأوى الذي آوي إليه؟ ولا حيلة لي في الحصول على قوتي وقد وصمتموني بأشنع الصفات بأحكامكم التي أصدرتم علي. وهؤلاء الناس لن يأتمنوني بعد الآن على شيء. ذلك إذا أني اعتدت حياة الكسل والخمول فنحطط بالتدريج. لقد أسأتم إلي حقي، فقد كنتم أصدرتم الحكم علي بالإعدام فلن تنفذوه، استعضتم عن ذلك بحكم الأشغال المؤبدة الشاقة وعينتم لذلك حارساً كان يأتيني بطعامي، غير أنكم - بعد بره من الزمن - عزلتموه فاضطررت إلى الذهاب بنفسي إلى المطبخ للحصول على ما يكفيني من الطعام. ثم إنكم - بعد ذلك - تريدونني على الفرار! كلا يا سيدي، كل شيء يصح إلا ما تريدونني عليه؟ اصنعوا ما بدا لكم وافعلوا بي ما حلا لكم غير أني لن ألوذ بالفرار!

إذاً فكيف؟

وأجتمع مجلس الوزراء يبحث المعضلة بحثاً جدياً حاسماً، ولكنهم احتاروا فيما يقررون؟ وترددوا في اختيار النهج الذي يرون اتباع السير عليه. . إن الرجل لن يبرح الديار أبداً. وفكروا واحتالوا فما وجدوا غير منح الرجل (معاشاً) يكفل لهم الخلاص منه! وأنهوا الحل الأخير إلى الأمير قائلين إنه ليس من حل خير من هذا الذي ارتأوه، وهو أن يمنح الشقي معاشاً يقيهم أذاه ويبعده عنهم! فأقر الأمير رأيهم مرغماً وقدر للمجرم الشقي معاشا سنويا قدره (600) فرنك فلما أخذ في ذلك رأيه أجاب.

- أما الآن فقد طاب الفرار! على أن تلزموا أنفسكم دفعه إلي بانتظام.

وهكذا حسمت المشكلة. وأخذ الشقي ثلث جرايته مقدما وغادر المملكة إلى مسيرة ربع ساعة بالقطار! ونزل قرية ابتاع فيها أرضا بالقرب من حدود بلاده وزرعها متجرا بثمارها وغلاتها وعاش في راحة واطمئنان. وكان كلما حان موعد معاشه ذهب فأستلمه ثم اتجه إلى مائدة القمار فقامر عليها بفرنكين أو ثلاثة مكتفيا بهذا القدر اليسير ورجع إلى مهجره يستأنف حياة الدعة والراحة.

ولعل من حسن طالعه أنه لم يرتكب جريمته الأولى في قطر آخر ترخص فيه أثمان قطع الرقاب وتقل فيه تكاليف الإيداع في أعماق السجون مدى الحياة!

ف. س