انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 992/الإمبراطورية ذات سبعة الأرواح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 992/الإمبراطورية ذات سبعة الأرواح

مجلة الرسالة - العدد 992
الإمبراطورية ذات سبعة الأرواح
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952


للدكتور عمر حليق

حرب مستمرة في الهند الصينية الفرنسية، وثورات عنيفة في تونس، وغضبة تحمل في ثنياها الدم والنار في مراكش والجزائر، وتيارات قومية تجتاح مدغشقر وممتلكات فرنسا الأفريقية، وأعباء عسكرية ترهق كاهل الميزانية الفرنسية الآن، وقد جاء البعث الألماني بظله المخيف على حدود فرنسا، وضائقات اقتصادية زعزعت كيان (الفرنك) وأخلت بميزان فرنسا التجاري والنقدي، فزادت من حدة التوتر الداخلي بين هذه الأحزاب السياسية الكثيرة التي تؤلف البرلمان الفرنسي وتجعل الوزارة الفرنسية أضحوكة الأندية والمحافل السياسية. ويعجبني هذا العنوان الفكه الذي صدرت به إحدى الجرائد الدنمركية أنباء القلاقل في تونس في الآنه التي سقطة بها الوزارة الفرنسية سقطات متتابعة خلال بضعة أسابيع، فقد كان العنوان على النحو التالي:

تونس تشتكي من أن الحالة الداخلية في فرنسا متوترة

هذه المشكلات والأزمات والضائقات التي تواجه فرنسا اليوم، تدفع المرء إلى أن يتساءل: هل الإمبراطورية الفرنسية في طريق الزوال؟

لقد استمع الناس إلى المسيو شومان وزير خارجية فرنسا، يستجمع كل ما لديه من ظرف ولباقة فرنسية ويناشد الجمعية العامة لهيئة الأمم في جلسة باريس، بأن تتريث قليلاً قبل أن تدين فرنسا بالعبث بحقوق المراكشيين. ففي جعبة فرنسا خطوط جديدة لسياسة مثالية، لا لمراكش فحسب، بل لجميع هذه الشعوب التي تعيش في ظل العلم الفرنسي.

ثم أستمع الناس مؤخراً إلى مندوب فرنسا في مجلس الأمن يعد العرب والآسيويين الذين تبنوا قضية تونس في مجلس الأمن، بأن في حافظة وزارة الخارجية الفرنسية مشروعات مثالية لحل المشكلة التونسية. وكل ما تطلبه فرنسا فترة معقولة من الزمن، تعد فيه الأمر وتنشر على الناس ما أعدته من أسس جديدة لعلاقة فرنسا بالشعوب الآسيوية والأفريقية الخاضعة لها

وقد كان كاتب هذه السطور في إحدى جلسات مجلس الأمن الأخيرة الخاصة بتونس، يتحدث إلى صديق من أحد وفود أمريكا اللاتينية (وهي منطقة تربطها بفرن روحية وثقافية متينة) وذلك خلال الدفاع البليغ الذي كان مندوب الباكستان في مجلس الآمن السيد أحمد بخاري يفند فيه مزاعم فرنسا وتأويلاتها عن القضية التونسية، قال الدبلوماسي اللاتيني وقد تأثر من بلاغة البخاري: (أنتم أيها العرب والآسيويون على حق في مؤازرة تونس، ولكن لما لا تعطون فرنسا الفرصةالكافية لإصلاح ما أفسده استعمارها القديم على ضوء ما وضعته اليوم من سياسة تقدمية تثبت علاقات فرنسا مع مستعمراتها على أساس جديد نبراسه التعاون الصادق والشركة الأمينة في إطار (الاتحاد الفرنسي) على نحو ما انتهجته بريطانيا في (الكومنويلث) وحلت به أزماتها مع الهند والباكستان والمناطق الأخرى التي كانت ملكاً للتاج البريطاني؟ ويبدو أن (لاتينية) صديقي الدبلوماسي كانت أشد من نظرته السياسية، فقد ساررني محذرا: لا تخطئوا في قوة الإمبراطورية الفرنسية برغم ما أثخنت به من جراح. فهذه الإمبراطورية الفرنسية كالقطط لها سبعة أرواح.

والواقع أن قسماً من الرأي في أوربا وأمريكا يشاطر هذا الدبلوماسي رأيه في هذه الأرواح المتعددة التي تكمن في الإمبراطورية الفرنسية! وليس من الصعب أن ندرك سر هذه النظرة إلى حاضر فرنسا. فصناع السياسة الفرنسيين يجندون كل ما توفره لهم ثقافتهم من ظرف ولباقة ومرونة لغوية ومنطقية، لإقناع الناس بأن في جعبة وزارة الخارجية الفرنسية حلا جديداً لهذه الأزمات والضائقات التي تعانيها فرنسا في آسيا وأفريقيا، في ما تنشره في الملأ العالمي من تفاصيل (الاتحاد الفرنسي) الذي تطمح فرنسا بواسطته أن توازي في الحقوق والواجبات بين سكان فرنسا وسكان المستعمرات والمحميات الخاضعة للفرنسيين.

ترى ما مبلغ الصدق في هذا الادعاء وما حظ هذا (الحل) الفرنسي من النجاح؟ وهل حقاً أن الإمبراطورية الفرنسية ذات السبعة أرواح، أم أنها تمر الآن في مثل ما مرت به الإمبراطوريات في التاريخ القديم والحديث من رقي وانحطاط

وحقيقة الأمر أن نعرف اليوم أنها أكبر إمبراطورية معاصرة بعد أن تضاءلت ممتلكات بريطانيا في عالم ما بعد الحرب. فلفرنسا اليوم سيطرة مباشرة على حوالي 77 مليونا من البشر يعيشون في فسحة من الأرض مساحتها تزيد على 4 ملايين ميل مربع ونصف ميل، موزعة على القارات الخمس، بحيث لا تغيب الشمس عنها. وهذه المساحات الشاسعة مرتبطة بفرنسا بخطوط أصبحت من الوهن بحيث لا يدعمها اليوم إلا الحديد النار، سواء في الهند الصينية الفرنسية أم في شمال أفريقيا العربية. وفرنسا اليوم برغم لباقتها في إقناع الناس بأن التحاد الفرنسي في صيغته النهائية سيحل محل الحديدوالنار، كدعامة للروابط الودية بين فرنسا ومستعمراتها ومحمياتها، إلا أن خبراء الشؤون الفرنسية لا يؤمنون بذلك، ويصرون على أن جوهر سياسة فرنسا الاستعمارية اليوم، يهدف إلى التخلص والتملص من المستعمرات في آسيا والمحيط الباسفيكي، وتركيز الجهد في شمالي أفريقيا العربية، وجعلها (امتداد) جغرافياً للوطن الفرنسي، وتحويل هذه المنطقة العربية إلى حصن منيع للثقافة والحضارة الغربية، تحي فرنسا فيه موات ثقافتها اللاتينية في أمن ورخاء لا توفرها لها اليوم الأرض الفرنسية وما يحيط بها من أخطار الهجوم الألماني والسيطرة الشيوعية) على حد قول كاتب أمريكي خبير بالشؤون الفرنسية في العدد الأخير من مجلة (عالم الأمم المتحدة).

ولعل هذا ما يفسر لنا سر هذا التعنت الشديد، والتحرش الصاخب الذي تعالج به فرنسا مشكلة تونس والجزائر ومراكش، والقسوة الدبلوماسية العنيفة التي لجأت إليها فرنسا في مواجهة الدول العربية والآسيوية التي تبنت قضية شمالي أفريقيا أمام الأمم المتحدة.

إذن فخرافة (الحل) الفرنسي وفكرة (الاتحاد الفرنسي) وأسطورة الإمبراطورية ذات السبعة أرواح، ليس إلا رماداً تذره فرنسا في عيون الناس، لتعميهم عن حقيقة الهدف الذي تطمح فرنسا في أن تعالج به مآزقها الإمبراطورية، وهو هدف واقعي يعترف بأن الإمبراطورية الفرنسية لن تستطيع العيش حتى بسبعة أرواح، وأنها اختارت أن تقصر قبضتها الشديدة القاسية على أقرب المناطق لها، وهي شمالي أفريقيا العربية.

وإذن فالإمبراطورية الفرنسية في تفكك وانحلال. وعلماء النفس يقولون لك أن المرء حين يعتريه نوع من التفكك والانحلال يميل إلى العنف والقسوة في أغلب الحالات. ولعل هذا يفسر هذه القسوة العنيفة الشريرة التي تمارسها فرنسا ضد إخواننا المغاربة، قسوة لا حدود لها، فقد أهلكت الحراب الفرنسية في الجزائر منذ سنوات قليلة 40 ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، في حملة (تأديب) واحدة. وحوادث تونس اليوم مثل واضح على هذه القسوة الفرنسية. ألوف من الفرنسيين، قادة ورعاعا قابعون في غياهب السجن وقيود الاعتقال، وحراب سنغالية سوداء تفتك بالنساء والأطفال والرجال، وكأنما تشهد بذلك حوادث (كاب بون) الأخيرة، واضطهاد مرير يعانيه المراكشيون، اضطهاد ومذلة تشهد بها مواخير منطقة (القصبة) في الدار البيضاء، حيث يعمرها بنات السادة والأشراف اللاتي شردهن الفرنسيون من جبال الأطلس والمدن المراكشية بعد ثورة الريف والثورات العديدة التي أتت في أعقابها ولا تزال.

ويحب كاتب هذه السطور أن يروي على سبيل المثال حادثة واحدة تشهد على (فضائل) الحضارة الغربية التي تنوي فرنسا أن تجعل أفريقيا العربية حصناً منيعاً لها. فقد زرت مدريد منذ بضعة أشهر، وأثار تطفلي أحد خدم فندق (ريتز) الذي كنت أقيم فيه؛ فقد كان شيخاً وقوراً محني الظهر، في عينيه مذلة وانكسار تبعث في النفس الحنان له والرغبة في مؤاساته. ولم يكن يعرف أنني عربي، ولم أكن أعلم أنه من سادة قبيلة جليلة القدر في جبال الأطلس المراكشية. ولما تم تعارفنا وأنفقنا الساعات يسرد على فيها مأساته السياسية، وقسوة المنفى والتشرد على كرامته وشيخوخته، لمحت أنه يخفي سراً لم أستطع استدراجه إلى الحديث عنه في جلستنا الأولى، فقد كانت كرامة الرجل وطيب محتده أعظم وأرفع من أن يعترف بسره الدامي إلى صديق عابر.

سر وأي سر! سيد في قومه يوثق بالقيود، ويشاهد الضباط الفرنسيين يفتكون بعرض بنته الصغرى، ويتناولونها الواحد بعد الأخر، ثم يرمونها كما لو كانت قطعة من العظم إلى الجنود السنغاليين، الذين كانوا يفتكون بامرأته في حظيرة الدار. وقد وجد الرجل في (مدريد) مصدراً للعيش، ولكنه عيش ذليل، يزداد مذلة كلما تذكر الرجل أن ابنته الآن عاهر في ماخور ملحق بمعسكر فرنسي في الساحل المراكشي. ولولا أن الانتحار محرم على المسلمين لما فضل هذا السيد الوقور الحياة يوماً واحداً.

ومع ذلك فدعوة فرنسا إلى جعل أفريقيا الشمالية حصناً منيعاً للحضارة الغربية تجد - مع الأسف المرير - في أوربا وأمريكا بعض الآذان الصاغية.

ٍوعلى قدر هذه الشناعة الفرنسية يتأجج حماس المغاربة العرب في تحقيق السيادة القومية والتخلص من الاستعمار الفرنسي. ولذلك فإن كل ما يعترض هذه الحركات الوطنية في تونس ومراكش والجزائر من عقبات ومصاعب، لن تقوى على جعلهم حصناً للحضارة الغربية، فالمسألة ليست مقصورة على كف أعزل يلاطم حربة حادة الرأس، فجوهر الصراع في المغرب العربي يستند إلى أعمق ما في المبادئ من معتقدات خلقية ودينية بالإضافة إلى المبادئ السياسية والاقتصادية. ويبدو أن الإمبراطورية الفرنسية قد أخطأت اختيار المكان والزمان لتحويل هذه المنطقة العربية الإسلامية إلى حصن منيع للحضارة الغربية. . فليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها العروبة والإسلام هذا النوع من الصراع الخلقي والديني.

وما دامت العروبة والإسلام راسخين في بلاد المغرب، ومادام الزمن يخدم الآن الشعوب العربية والإسلامية في المعترك الدولي، ومادامت دعائم (الحضارة الغربية) قد طوحت أو كادت تطوح بالوطن الفرنسي نفسه. . فإن زوال الإمبراطورية الفرنسية أمر لا مفر منه حتى لو كان لهذه الإمبراطورية سبعة أرواح. فروح واحدة شريفة المبدأ. . صقلتها الآلام والتجارب. . كفيلة بأن تعمر وتشهد هلاك هذه الأرواح السبعة.

بقي أن يشارك العرب والمسلمون إخوانهم المغاربة في هذا النوع من الصراع (الإمبراطوري) اللعين مشاركة جدية.

نيويورك

عمر حليق