انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 992/الأمثال في حياة اللغة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 992/الأمثال في حياة اللغة

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952



للأستاذ حامد حفني داود

- 2 -

عرفنا أن الأمثال ولغة الحديث توءمان. وأن هذين التوءمين - وحدهما - استطاعا أن يسايرا الحياة على ما فيها من خير وشر، وما فيها من فصاحة مقبولة وهجنة ممقوتة، ثم هما استطاعا أن يكشفا عن أصول العربية الفصحى تارة ويحملا رواسب العامية الإقليمية الطارئة تارة أخرى، ثم هما إلى جانب هذا وذاك يستجيبان للحياة ويعيشان في نفوس الناس، ويمثلان كل ما طرأ على اللغة من نماء مطرود وتطور مستمر يدل دلالة قاطعة على أن اللغة كائن حي يعيش ويتطور كغيره من الأحياء.

إذا عرفنا كل ذلك فإننا بلا شك نستطيع أن نحدد موقفنا من العربية إذا أردنا أن نأخذ بزمامها، وإن ندفعها إلى الصف الأول الذي كانت تحتله في صدر الإسلام - يوم كان القرآن - وكانت الفصحى وقبل أن تختلط بالعجمي وتصاب بما أصيبت به من رواسب اللغات الإقليمية سواء في مقاطعها وإعرابها وتراكيبها.

فقد هبطت اللغة العربية - بعد أن خرجت من الجزيرة - في أقاليم جديدة لم يتكلم أهلها بالعربية من قبل. وانتشرت في هذه الأقاليم بسرعة عجيبة لم يعهد تاريخ اللغات مثلها وساعدها على هذا الانتشار أنها كانت تحمل لواء الدين الجد في يمينها، والانقلاب السياسي والتحول التاريخي الأكبر يسارها. ولكن هذا الانتشار - على الرغم من كل هذه السر - لم يتم في يوم وليلة وإنما كان نتيجة تفاعل مستمر بين اللغة (الغازية) و (المحلية) دام وقتاً من الزمن تحققت فيها إلغاء - تارة - للغة الغازية التي فرضت نفسها في مصر وبلاد المغرب وتخوم العراق والشام، على حين استمسكت أقاليم آخر كالهند وبلاد فارس بلغاتها المحلية بعد أن اعتصمت بعوامل كثيرة حفظت لها طابعها القديم وأبقت عليها كيانها وثقافتها. وهي عوامل كثيرة نترك الحديث عنها إلى موضوع أخر يتعلق بطبيعة اللغة ومقوماتها، ولكن الشيء الذي لابد من ذكره أن العرب استطاعت أن تترك أثرا في كلتا الحالتين لأن (الأثر) نتيجة حتمية لـ (المؤثر) مهما كان ضعيفاً، كما أن (التفاعل الكيماوي) نتيجة حتمية لـ (المواد القابلة للتفاعل) مهما اختلفت كمياتها.

ففي مصر تغلبت الغربية على اللغة القبطية ثم تفاعلت بلغات أخري كالفارسية والتركية. ولازلنا نرى آثار هذه اللغات في (العامية المصرية). أما في العراق فقد كانت رواسب الفارسية أعمق وأشد ظهوراً في عاميتهم. على حين نرى شيئاً من آثار التركية وقليلاً من السريانية في بلاد الشام.

ونحن إذا تتبعنا أقاليم الصنف الثاني التي لم تغزها اللغة العربية غزواً تاماً رأينا أنها خضعت بالمثل لنظرية (المؤثر والأثر وهذا على الرغم من قوتها السياسية، وعلى الرغم من ابتعادها عن مركز الثقافة العربية. فأنت ترى أن اللغة الفارسية القديمة التي تسمى (الفهلوية) تتطور بسبب هذا التفاعل وتبدو في وثوب جديد هو (الفارسية الحديثة). وقد أثبت البحث اللغوي أن ستين في المائة من ألفاظها عربي صرف. كما ترى أن اللغات الهندية التي تمت بصلة إلى الفصيلة (السنسكريتية) نالت ما نالتها أختها من الأثر فظهرت إحداها في ثوب جديد هو (اللغة الأردوية). وإن ما اشتملت عليه الأردو من ألفظ عربية لأكبر دلي يؤيد استمرار هذا التفاعل.

وإذا كانت الأمثال - كما قدمنا في المقال السابق - تلونت بالبيئة وتطورت مع الزمن كما تلونت لغة الحديث وتطورت تماماً - أدركنا بوضوح ما بين الأمثال ولغة الحديث من سمات عجيبة كشفها أمامنا الاستقرار ولم نصنعها صنعاً أو نبتدعها ابتداعاً، ثم إذا كانت الأمثال - وحدها من بين فنون النثر - هي التي استطاعت أن تستمر مع الزمن وتلين لهذا التفاعل الدائم كما استمرت ولانت لغة الحديث - كان خليقاً بنا أن ندرك وجوه الشبه بينهما وأن نقف عندهما وقفة المصلح اللغوي الذي يتلمس الطريقة المثلى في النهوض بأمر اللغة، وإن موقف المصلح اللغوي هنا يشبه تماماً موقف العالم الطبيعي الذي يتوسل إلى معرفة الشيء بشبيهه. ويقيس ما غمض عليه من المسائل بما وضح أمامه منها حتى يصل من البسيط إلى المركب، أو قل هو كالطبيب المجرب الذي يستخدم دماء الأصحاء في حقن أجسام المرضى من بني الفصيلة الواحدة.

والأمثال - عنده - هي النص الأدبي الحي الذي لم يعتوره الجفاف أو يلحق به الجمود أو تحجبه الصنعة أو يحول فيه التكلف والتعمل دون تذوق الناس له سواء الخاصة منهم والعامة. فما أشد حاجة ذلك المصلح إلى أن يتخذ من مادة ذلك النص المصل الواقي الذي يعيد به الحياة إلى رميم هذه الفنون اللغوية الأخرى إذا أراد أن يرفع من مستوى تعليمها ونشرها

وهكذا يصبح تعليم الأدب في مدارس المرحلة الثانية بأنواعها قاصراً عن أداء الرسالة التي ننشدها من تذوق النص الأدبي مادمنا لا نعالجه في هذه الصورة الحية. بل أن تدريس الأدب للناشئة في صورة ما يشرح لهم من جيد الشعر والنثر يعتبر دراسة كلاسيكية تقليدية لا تصلح لهذه المرحلة من التعليم، لأن الصلة بين هذه النصوص وبين نفوس التلاميذ تكاد تكون مفقودة، بعيدة كل البعد عن متناول مداركهم. وهي صورة بتراء لا تحقق الجانب العملي المقصود في الدراسات الأدبية الحية - إلا إذا أردنا أن نخرج ناشئة يستوعبون ولا يتذوقون، ويفهمون الفكرة فهماً عابراً ولا يمارسونها ممارسة عملية. أن مثل هذه الدراسات لا يمكن بحال أن تخرج أديباً إنشائياً يعالج الفكرة الأدبية ويواجهها في حيز حياته وبيئته، ولكنها تخرج ببغاء يردد ما لا يفهم وإن فهم شيئاً أو عالجه فهو بسفاد الغراب أو بالكبريت الأحمر أشبه.

وهنا يحق لك أن تسألني: وما علاقة تدريس الأدب بالأمثال في حياة اللغة؟ وكيف تستغل هذا الفن في تدريس الأدب لتلاميذ هذه المرحلة - أن كانت هناك علاقة.

أما عن علاقة الأمثال بفنون اللغة وآدابها فلا سبيل إلى تكراره بعد الذي ذكرته لك من صلات وطيدة بين لغة الحديث والأمثال والحياة. بينما تحس بخطورة البحث وأهمية التطبيق حين تفكر في هذا الفن وتبحث فيه على أنه وسيلة من وسائل إصلاح اللغة والنهوض بآدابها. وهي في المدرسة غير المجتمع العام.

ففي المدرسة أرى أن تستغل دراسة الأمثال العربية الأصيلة في الفصول الأولى من مدارس هذه المرحلة. ويرجع المدرس في ذلك إلى الكتب المعتمدة في هذا الباب ككتاب الأمثال للميداني. ويلتقط منها بقدر الطاقة ما يقابل الأمثال العامية في معناها ومبناها ومرماها. ويستطيع المربي الحصيف أن ينجح في تدريس الأدب العربي في هذه الصورة نجاحاً محققاً؛ وأن ينهض بالثروة اللغوية والأدبية للأسباب الآتية:

1 - إن نصوص الأمثال في ذاتها سهلة ميسورة مهما التوت مفرداتها اللغوية؛ لاتساع معناها وجرس مبناها، ولأن لها في الغالب ما يقابلها من الأمثال العامية ولو من ناحية المعنى والمرمى.

2 - إن الناشئة في هذا المقام يحاطون بجو عربي خالص، وذلك حين يعرض المدرس إلى دراسة ما حول (المثل) من تاريخ وأحداث طريفة دعت العربي إلى إرساله في هذه الصورة وهو في بيئته العربية.

3 - وبقدر ما يكون الحديث عن الأمثال وأسباب إرسالها قريباً من جو القصة - يكون نجاح المدرس في دراسة نصوصها، لأن التلاميذ في هذا الدور حديثو عهد بدراسة القصص في مدارس المرحلة الأولى. وطبيعة الأمثال وانتشارها في بيئتهم تغريهم بحفظها واستعمالها في مواضعها من الكلام، وتحملهم على تتبع ما يقوله المدرس وما يصطنعه من إثارة المشكلات خلال هذه الدراسة. وفي ذلك نجاح كبير وتحقيق للأهداف التي تدعو إليها التربية الحديثة. وهو علاج الفكرة في حيز الحياة نفسها!

4. . . وأخيراً يستطيع المدرس في دراسة نصوص الأمثال على الرغم من ضآلة طولها أن يحقق من الفائدة ما لا يستطيعه في تدريس درس من الشعر أو فن من فنون النثر الأخرى، لأن هذه الأمثال تعتبر درساً في الحياة الاجتماعية عند العرب ودرساً في التاريخ ودرساً في الأساليب العربية ودرساً في مفردات اللغة - بالإضافة إلى إحياء تراثنا الأدبي القديم.

وإذا زود التلاميذ بدراسة النصوص الأدبية في هذه الصورة ومرنوا على هذا النوع من التذوق سهل عليهم أن يتذوقوا نصوصاً من الشعر والنثر في السنوات المقبلة. كما يستطيعون بعد ذلك أن يزودوا بعجالة من النصوص تمثل تطور التاريخ الأدبي في كل عصر. وعند ذلك يتحقق الغرض المقصود من تدريس الأدب في هذه المرحلة - الذي يهدف إلى التذوق ومتابعة البحث.

ذلك في المدرسة. . أما في المجتمع فيتسع مجال الإصلاح ويتضاعف واجبنا في النهوض بحياة إخواننا العامة: الفكرية والأدبية. ولدينا من إقبال عامة المثقفين على القصص وكتب الأدب ما يشجع على رفع مستوى العامية وينهض بها حتى تصبح أقرب إلى الفصحى من ما كانت عليه بالأمس القريب. ولن يكون ذلك إلا بعلاج لغة الحديث من الطريق الحساس الذي يميل إليه العامة وتألفه نفوسهم. . ألا وهو (الأمثال العامية) فنقدم إليهم قصصاً مبسطة يزودون فيها بهذه الأمثال. والكاتب البارع هو الذي يستطيع بلباقته أن يصل بين حاضر الأمثال العامية وغابرها، وأن يقرب أذهان القارئين من أصولها الفصحى حتى إذا حقق هذا الغرض أخذ بأيديهم إلى متابعتها في كتب الأدب. وهذا واجب كتاب القصة في مصر وواجب المتأدبين من علماء النفس.

ومن هنا تتقارب الخطى وتسد الثغور وترمم الثلمات ويرأب الصدع ونقف من الطبيعة موقف الحكيم المتفنن الذي يستطيع بلباقته أن يتحكم فيها وأن يوجهها توجيهاً علمياً لا يتفانى مع قوانينها. أريد أن أقول: إننا بهذا القدر نستطيع أن نوجه النماء المطرد في اللغة العربية ككائن حي، وأن نقوم من اعوجاجه في نفوسنا - لا في ذاتها - وذلك العمل جدير بالتنفيذ، وهو أعظم من مما نقوم به اليوم من تعريب وتصويب.

حامد حفني داود

أستاذ اللغة العربية والتربية بمدارس المعلمين