انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 983/هذا هو الطريق. .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 983/هذا هو الطريق. .

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1952


للأستاذ سيد قطب

(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وان الله لا يضيع اجر المؤمنين: الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسهم سوء، واتبعوا رضوا الله، والله ذو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)

قران كريم

كلما رأيت المتوجسين عن الجهر بكلمة الله، وهم يزعمون الإيمان بالله. . كلما سمعتهم يجمجمون بهذه الكلمة ولا يصدعون خيفة أن يمسهم القرح، وان نسلط عليهم قوى الشر والطغيان. . كلما وجدتهم يلبسون هذا الضعف ثوب الكياسة واللباقة والمرونة والدهاء. .

كلما أبصرت هذا كله تمثلت لي تلك الآيات القدسية الكريمة ترسم الطريق. . الطريق الذي لا طريق غيره إلى النصر والعزة والمنعة والتوفيق. . وهتفت من أعماق ضميري: ألا إن هذا الدين لواحد، ألا وإنه لن يصلح آخره إلا بما صلح به أوله. . ألا وان هذا هو الطريق. . .!

(الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل) انهم لم يقولوا: نحن قله ضعيفة في كثرة باغية، فلنصبر على الذل، ولنرض بالهوان، ولنجامل الشر، ولنتق الطغيان. .

حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. . فالمؤمن يوقن: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وإن أمر الله إنما يتم بعبادة الذين ينفذون أمره، وان السماء لا تمطر على الناس عزاً ولا نصر إنما هم يصلون قلوبهم بجبار السماء فتهون عليهم قوى الأرض، وتهون معها حياة الأرض. وعندئذ ينقلبون بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. وعندئذ يمكن الله لهم في الأرض، لأنهم صدعوا بكلمة الله، ولم يخشوا غير الله.

ذكرت هذا كله وأنا احضر اجتماعاً يقول دعاته: انهم اجتمعوا لتجديد شباب الإسلام والعم لنصرة الإسلام، وإعزاز العالم الإسلامي. . فلما أن جاء ذكر الحكم بالإسلام والعمل بشريعة الإسلام، انتفض منهم الكثيرون مذعورين، أن يثير عليهم هذا القول ثائرة الاستعمار وغير الاستعمار، وان يسبب لهم متاعب وعوائق ليس إلى اجتيازها من سبيل. وقال أوسطهم إنما نحن مؤمنون بان الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام، ولكننا نؤجل هذا إلى حينه، ونأخذ فيما هو اسلم واحكم!

قلت في نفسي: كيف ينتصر المنهزمون في ضميرهم منذ اللحظة الأولى؟ وكيف يكافح قوى الشر والطغيان من يفرق أن يجهر بالحق في كلمات على الورق، أو كلمات على اللسان؟

وعلم الله ما عجبت لشيء عجبي لدبلوماسية الأقزام التي يزاولها منا الرجال. لا في ميدان الدعوة الإسلامية وحدها، بل في ميدان الصراع القومي مع الاستعمار، والصراع الاجتماعي ضد الطغيان، والصراع الإنساني ضد الشر كله وهو ألوان. .

انهم يسترون الضعف دائماً بستار (العقل) ويسترون الهزيمة دائماً ستار (المناورة) ويسترون حب السلامة دائماً بستار (المصلحة العامة)

وإذا جاز لرجال السياسة العصرية الكاذبة الخادعة أن يعتذروا بتلك المعاذير، فإنها لكبيرة أن يستعيرها منهم الدعاة الإسلام. الإسلام الذي يقول ربه لرسوله (فاصدع بما تؤمر) ويئسه ن رضى مخالفيه عنه مهماً جامل وحاسن، لأنهم لن يرضوا عنه إلا إذا ترك دينه جملة وعقيدته: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)!

إن الذين نداورهم امهر منا في المداورة، والذين نحسبهم أنفسنا نخدعهم، اكثر منا يقظة واشد خداعاً. فلم يبق إلا ذلك الطريق الواضح الصريح النظيف: أن نقول كلمة الحق التي نريد، وان ندعها تقرع الأسماع والقلوب، وان نؤمن بالله الذي يقول: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور)

وبعد فإن الإسلام الذي ندعو إليه عقيدة ننبثق منها شريعة، ويقوم على هذه الشريعة نظام اجتماعي، ونظام دولي، ونظام إنساني. ولا سبيل فيه لفصل العقيدة عن الشريعة، ولا فصل الشريعة عن النظام الذي ننشئه وتحكمه. فهذه العقيدة لا تتم، بل لا توجد، إذا لم تنشأ معها آثارها الطبيعية التي لا فكاك منها. فليتحسس عقيدته وليفتقدها من يرى الشريعة غير الشريعة الإسلام تحكم، ثم لا يبذل جهده في رد الأمر إلى شريعة الإسلام؛ ومن يرى نظاما غير النظام الإسلامي يسود، ثم لا يعمل عملاً أو يقول قولاً، يصحح به الأوضاع، ويحقق به الصواب.

إن الإسلام لا يعيش في الظلام، فهو نور يعيش في النور. وإن الإسلام لا يخادع ولا يداور، فهو كلمة الحق التي تكره المداورة والخداع. وإن الإسلام حقيقة واقعة تعيش في الأرض، لا سراً ولا مؤامرة تتواري عن الأنظار.

نحن نريد عالماً إسلامياً. . فلندع إلى هذا العالم على أسسه الواضحة الصريحة: شريعة إسلامية، ومجتمع إسلامي. . ولقد مضى - والله الحمد - ذلك العهد الذي كانت الببغاوات تثرثر فيه بان الدين رجعية، وبان الإسلام تعصب. . فقد اعترفت مؤتمرات (الخواجات) الذين تقلدهم الببغاوات بان الشريعة الإسلامية مرجع هام للتشريع الدولي. ولقد أعجبني الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف ضرار مدير الأزهر، وهو يقول هذه الحقيقة منهكما على أحد ببغاواتنا (المثقفين)!

فمن قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فاصطكت أسنانهم، وارتجفت مفاصلهم، فلينظروا: أين هم من ذلك الطريق الذي رسمه الله، في كتاب الله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) فلينظروا أين يتجه بهم الطريق!.

إن أضواء النصر تلوح في أفق الفكرة الإسلامية فتجذب إليها الكثيرين. منهم من يبتغي وجه الله، ومنهم من يحسبها تجارة كاسبة. ولكن الطريق طويل، والعقبات كثيرة، والقرح والابتلاء ولاستشهاد ينتظر المجاهدين. وسيحق على بعضهم قول الله: (لو كان عرضاً قرياً وسفراً قاصداً لاتبعوك. ولكن بعدت عليهم الشقة) وسيق على الآخرين قوله الكريم:

(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا)

وأولئك هم الفائزون.

سيد قطب