مجلة الرسالة/العدد 981/القصص
- لنسخ أخرى، أنظر الخطيب (تشيخوف)
مجلة الرسالة/العدد 981/القصص
من روائع الأدب الروسي
رثاء!. . .
للقصصي الروسي أنطون تشيكوف
في صبيحة يوم صاح مشرق مات (عضو التحكم) (كيريل أفانوف بابيلونوف) صريع الداءين اللذين كثيرا ما أوديا بحياة الروس: إدمان الخمر وفظاظة الزوج. . . وكان الناس في شغل بتشييع موكب جنازته الذي كان في طريقه إلى القبر. . . إلا أن (بولافسكي) وهو صديق حميم للفقيد، أسرع فركب عربة أدت به إلى صديق له يدعى (زايوكين). ولزابوكين هذا قدرة على ارتجال الخطب فائقة فهو يقولها أني كان وحيثما يدعي، فلا تموته سنة ولا حمى ولا سكر عن ارتجالها. . . سواء أكان في مأتم يرثي، أو في حفل يلهج ويشيد، كانت الكلم تتدفق من فيه كالماء عزيزا سلسالا. . .
وكان هذا ما حدا ببولافسكي أن يسرع إليه، ولاسيما والخطب الذي ألم يحتاج إلى خطيب يعدد مناقب الراحل العقيد كزابوكين. . . وقال بولاكسي لزابوكين حينما لقيه:
- إنني آت لأدعوك. . . فهيا يا صاح ارتد معطفك واتبعني. لقد مات اليوم أحد زملائي، موكب جنازته في طريقة الآن إلى القبر. وليس لنا مثل هذه الخطوب غيرك. . . ليس لنا من خطيب راث مفوه سواك. . . ثق يا صاح أنه لو كان الميت وضيعا مركزه لما أزعجتك. ولكنه (الأمين). . . فلا يليق بنا أن نوسده التراب دون مرات تلقي أو خطب تقال. . .
فتتثاءب زابوكين وقال:
- الأمين؟ آه. أتعني ذلك السكير؟ -
- أنه هو. . ولكني لا تنس يا عزيزي أن مأدبة عشاء ستؤدب. وأجر العربة سيدفع، هيا يا صاح فما عليك إلا أن تلقي بإحدى خطبك على القبر. . وستلمس بعينك مدى عجاب المشيعين بك وتقديرهم لك. .
فأجاب (زابواكين) طلبه تردد ولا إحجام. . . وتكلف الحزن العميق تأهباً لما سيلقي. ثم قال لصاحبه: إنني أعرف (الأمين). ذلك الوغد الزنيم. . عليه رحمه الله! وأدركا الموكب وقد بلغ المقادير، وحط النقش على الأرض، ووقفت أم الفقيد وزوجته وأختها تذر فإن الدمع الهتون - تبعاً - وما إن أنزل النعش في القبر حتى أعولت زوجه وصاحت باكية: دعوني أرحل معه. إلا أنها لم ترحل معه؛ مع أن أحداً ممن حولها لم يحل دون ذلك. ولعل ما حال دون أن تشاركه رمسه ذلك الراتب التقاعدي الذي ستتناوله. أما (زابوكين) فقد سكت حتى شمل الجمع السكون، فأدار بصره في الحاضرين وبدأ خطبته قائلا:
يا ترى أبصري وسمعي صادقان؟! أنني أشهد حلماً مرعباً يبدو لي فيه هذا الرمس المظلم الرحيب وهذا الحشد الباكي الحزين وا أسفاه. . . أنها الحقيقة. فليس ما أراه حلماً، وليست أبصارنا - ويا للأسف - بخادعة. . إن من كان حتى الأمس يفيض صحة ونشاطاً. . قد مات وروى التراب وأصبح ذكرى تستدر الدمع الساخن الغزير. لقد سلبه الردى منا، وهو لا يزال في عنفوان قوته وبهائه. . وأوح فتوته ونشاطه وإن بك متقدما في السن. . أية خسارة منينا بها. . من ذا الذي يستطيع أن يحتل مكانه في قلوب عارفيه. لدينا أيها السادة كثير من الموظفين. . إلا أن (بروكوفي أورزبتش) كان جوهرة يتيمة فيما كان يزدهي به ويفخر. وكان أيها السادة - المثل الأعلى للرجل الكامل الرفيع بخلقه، السامي بنفسيته. لقد كان الفقيد يأبى الرشوة فلم يرضيها يوما. وكثيراً يبدي مقته واحتقاره لمن كان يلح في أخذهاوتقبلها. لقد كان يرفضها كل الرفض ويزري ضعاف النفوس ممن كانوا على نقيضه. كما لا أظنكم تجهلون أنه كان يهب راتبه التافه على مشهد منا لزملائه المعزين وها أنتم الآن تسمعون بآدابهم نحيب الأرامل والأيامي اللائي كن يعشن من فيض إحسانه. لقد ذهب ذلك الذي وهب حياته للبر، نفسه للخير، وإنكم لا تعلمون بلا شك - أيها السادة - أنه كان أعزب ولم يزل كذلك حتى وسد التراب. . إنني لأتصوره الآن بوجهه المشرق الحليق وببسماته الحالمة العذاب، ويخيل إلى أنني أكاد اسمع صوته الرؤوف الذي كان يفيض حنانا ويقطر رقة وإخلاصا. فإلى رحمة الله يا (بروكوفي أوزبتش). . . إلى الجنان الخوالد أيها العزيز. . وداعاً أيها الراحل الكريم. .
وكان الخطيب مبدعا حقا في إلقائه فأحرز بها إعجاب السامعين. . إلا أن العارفين منهم بالميت أدهشهم مما قاله أشياء. ذلك أنهم لم يفقهوا علة ذكر الخطيب أسم الميت على أنه (بروكوفي أوزبتش) وثانيا أن الكل كان لا يجهل أن الميت قضى حياته في تعكر صفو حياة زوجه، فكيف يقول الخطيب إنه كان أعزب؟ وأخبراً لقد كانت للميت لحية حمراء كئة ولم يك بحليقها. . فلماذا يصفه الخطيب بأنه كان حليقها؟! واشتد عجب السامعين وتبادلوا الهمس والنظريات. . وهزوا أكتافهم ساخرين.
وتابع الخطيب كلامه: أي (بركوفي أوزبتش) لقد كان وجهك شاحبا مرعبا. . إلا أننا كنا نعرف أن وراء ذلك قلباً طاهراً نبيلاً ونفساً كريمة) وما لبث السامعون أن لحظوا على الخطيب دهشة بلغت حد الذهول. فقد اتجه بصره إلى ركن من الحشد، ثم التفت إلى بولافسكي زائغ البصر، وقال بصوت متهدج: أنه حي!
- من تعني: إنه حي!
- بروكوفي أوزبتش. إنني أراه واقفا عند القبر!
- ومن قال لك أنه الميت.؟ إن الذي مات هو (كيريل إبفانوفتش) أيها الأبله.
- ولكنك قلت لي إن (الأمين) قد مات
- لقد كان (كيريل أفانوفتش) أمينا أيها الأحمق. . لقد حل محل (بروكوفي أوزبيتش) بعد أن نقل هذا ككاتب في مستهل العام المنصرم.
- أني لي أعرف هذا ولم يسبق لي به علم؟!
فأدار زابوكين وجه شطر القبر وواصل رثاءه وعينا (بروكوفي أوزبتش) عالقتان به تحدقان في حنق وغضب. . وما إن انتهى من الدفن وعاد المشيعون حتى أخذ زملاء (زابوكين) يلغطون. . . لقد دفنت رجلا حيا. . . وأسرع (بروكوفي أوزبتش) إلى الرائي حلقاً ساخطاً: لا بأس أيها الغبي الأحمق بخطبتك إذا كانت رثاء لميت. . أما أن ترثيني وما زلت حياة فإنها سخرية بي بليغة وتهكما بخلقي فظيعا. . . لقد قلت إنني لم أقبل الرشوة ولست بذي أغراض ومنافع. . ومثل هذا القول لا يقال عن موظف حي إلا بقصد إدانته واتهامه. . . لم يطلب منك أحد أن تصف وجهي المخيف المرعب. . . إنها إهانة فظيعة سوف ترى مني العقاب عليها)
ف. ع