انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 98/الانتحار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 98/الانتحار

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1935


4 - الانتحار

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال المسيب بن رافع: ومد الإمام عينه وقد رفع له شخص من المجلس؛ ثم جلى بنظره كأنما يتطلع إلى عجيبة كالحق إذا بطل، والصدق إذا كذب؛ ثم رد بصره علي كأنه يعجبني من عجبه؛ ثم سجا طرفه كأنما أنكر رأى عينيه فهو يلتمس رأى قلبه. وتبينت في وجهه انقباضاً خيل إلى أن الشيطان جاءه بهذا الرجل يفحمه به يريه كيف يجعل أحد المؤمنين الصالحين يتحمس في دينه ليرجع بعد ذلك أصلاً لا غنى عنه في إنشاء قصة كفر!

هذا هو ضيفنا (أبو محمد البصري) يتخوض الناس ليجيء فيحدثنا حديثه في قتل نفسه والأثم بربه؛ فلو قيل لي: إن قوس السماء بأحمره وأصفره وأزرقه وأخضره، قد وقع إلى الأرض واصطبغ من ألوانه أوحالاً وأقذاراً - لكان هذا كهذا في تعاظمه وإنكاره والعجب منه؛ فأبو محمد من الرجال الخمس الذين لو كفر أحدهم ثم قيل (إنه كفر)، لقصر اللفظ أن يبلغ الحقيقة أو يصف شنعتها، كما يقصر لفظ الجنون عن وصف حكيم تآلى أن يعمل عملاً يخرج به من الكون، فلا يبقى في أرض ولا سماء ولا تناله يد الله! إن يف لفظ الكفر مع ذاك، وفي لفظ الجنون مع هذا - شيئاً من نفاق العقل وتأدبه في أداء المعنى الأخرق الذي لا يشبهه جنون ولا كفر

ونعوذ بالله من خذلانه؛ فلقد يكون الرجل المؤمن في تشدده وإيغاله في الدين - كالذي يصنع حبلاً يفتله فتلاً شديداً فيمره على طاق بعد طاق، ليكون أشد له وأقوى، ثم يجاذبه الشيطان حبله، فإذا هو كان في الوهن مثل العنكبوت اتخذت بيتاً في سقف حداد؛ فرأته يصب الحديد المصهور يجعله سلسلةً حلقةً في حلقة، فذهبت تحكيه وترسل من لعابها خيطاً في خيط تزعمه سلسلة. . .!

إن مع كل مؤمن شيطانه يتربص به، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يكون في كل ساعة كالذي يشعر أنه لم يؤمن إلا منذ ساعة، فهو أبداً محترس متهيئ متجدد الحواس مرهفاً يستقبل بها لدنيا جديدة على نفسها بين الفترة والفترة؛ ومن هذا حكمة أن يؤذن المؤذن وأن تقام الصلاة مراراً في اليوم، فكلما بدأ وقت قال المؤمن: الآن أبدأ إيماني أطهر ما كان وأقوى

وقال الأمام هيه يا آبا محمد! فقال البصري وقد رأى الكراهة في وجه الأمام: لا يفز عنك أيها الشيخ؛ فإن الله تعالى قد يجعل ما يحبه هو فيما نكره نحن؛ وليس للأقدار لغة فتجرى على ألفاظنا؛ وقد نسمي النازلة تنزل بنا خساراً وهي ربح، أو نقول مصيبة جاءت لتبديل الحياة، ولا تكون إلا طريقة تيسرت لتبديل الفكر. إنما لغة القدر في شيء هي حقيقة هذا الشيء حين تظهر الحقيقة؛ وكأين من حادثة لا تصيب أمراً في نفسه إلا لتقع بها الحرب بين هذه النفس وبين غرائزها، فتكون أعمال الطبيعة المعادية أسباباً في أعمال العقل المنتصر

وكثير من هذا البلاء الذي يقضي على الإنسان، لا يكون إلا وسائل من القدر يرد بها الإنسان إلى عالم فكره الخاص به؛ فإن هذه الدنيا عالم واحد لكل من فيها، ولكن دائرة الفكر والنفس هي لصاحبها عالمه وحده. والسعيد من قر فيعالمه هذا واستطاع أن يحكم فيه كالملك المطاع في مملكته، نافذ الأمر في صغيرتها وكبيرتها؛ والشقي من لا يزال ضائعاً بين عوالم الناس، ينظر إلى هذا الغني، وإلى ذاك المجدود، وإلى ذلك الوفق؛ وهو في كل هذا كالأجنبي في غير بلده وغير قومه وغير أهله، إذ كل شيء يصبح أجنبياً عن الإنسان ما دام هو أجنبياً عن نفسه

لقد كنت ضالاً عن نفسي وعالمها، فكنت في هذه الدنيا أستشعر شعور اللص، أشياؤه هي أشياء الناس جميعاً؛ واللص ينظر إلى أموال الناس بعيني شاعر متحبب كلف، وهي تنظر إليه بعيني مقاتل متربص حذر

كنت والله إن ضقت بالناس أو وسعتهم - رأيت في ذلك معنى من ضيق اللص وسعته؛ هو على أي حاليه لا ينظر في أعماق نفسه إلا شخصاً متوارياً تحت الظلام يتسلل في خشية وحذر!

وكنت نزقاً حديد الطبع سريع البادرة؛ ومن فقد عالم نفسه، وكان في مثل اللص الذي ذكرت - فإن هذه الطباع تكون هي أسلحته يدفع بها أو يعتدي. وما قط تمكن إنسان من نفسه وأحاط بها ونفذ فيها تصرفه - إلا كان راضياً عن كل شيء، إذ يتصل من كل شيء بجهته السامية لا غيرها، حتى في اتصاله بأعدائه من الناس وأعدائه من لأشياء؛ فما يرى هؤلاء وهؤلاء إلا امتحاناً لفضائله وإثباتاً لها. وقد يكون عدوك في بعض الأمور عيناً لك في رؤية نفسك؛ ففيه بركة هذه الحاسة ونعمتها ولو نحن كنا مسلمين إسلام نبينا () وإسلام المقتدين به من أصحابه - لأدركنا سر الكمال الإنساني؛ وهو أن يقر الإنسان في عالم نفسه ويجعل باطنه كباطن كل شيء إلهي، ليس فيه إلا قانونه الواحد المستمر به إلى جهة الكمال، المرتفع به من أجل كماله عن دوافع غيره؛ فنظر الإنسان إلى نقص غيره هو أول نقصه. والمؤمن كالغصن؛ إن أثمر فتلك ثمار نفسه، وأن عطل لم يشحذ ولم يحسد واستمر يعمل بقانونه

ولقد نشأت في مغرس كريم، وعلى صورة من الحياة تشبه صورة الثمرة الحلوة، اجتمع لها من طبيعة مغرسها ومرتبتها ما تتعين به من حلاوة ونكهة ومذاق؛ فلما عقلت وعرفت الناس بعد فجاريتهم وخالطتهم، رأيتني منهم كالتفاحة ملقاة في البصل. . . وكانت التفاحة حمقاء فزادت حمقاً، وكانت حدية فزادت حدة -، وظنت أن الحكمة قد مسخت في الدنيا وبدلت إذ خلقت البصلة بعد أن خلقت التفاحة؛ وما علمت الخرقاء أن الكمال في هذه الحياة مجموع نقائص، وأن للجمال وجهين: أحدهما الذي اسمه القبح؛ لا يعرف هذا إلا من هذا؛ وأن البصلة لو أدركت ما يريد الناس من معناها ومعنى التفاحة لسمت نفسها هي التفاحة، وقالت عن هذه إنها هي البصلة!

ولما رأت تفاحتي أنها عاجزة أن تجعل الشجر كله في مثل مرتبتها ومغرسها - قالت: إن الأمر أكبر من طبيعتي، ومادام سر الكون مغلقاً فلا تعريف له إلا أنه سر مغلق، وليبق كل شيء في طبيعة نفسه، فعلى هذا يصلح كل شيء ولو في نفسه وحدها

قال أبو محمد: ولكن بقيت وحشة الدنيا وجفوتها، إذ لم أكن اهتديت إلى عالمي، ولا تأكدت عقيدتي بنفسي؛ فكان كل ما حولي منبجساً في روحي بشره، وكانت الدنيا بهذا كالمتطابقة في رأيي على معنى واحد، وزادني أني كنت رجلاً عزباً متعففاً؛ وما أشبه فراغ الرجولة من المرأة بفراغ العقل من الذكاء؛ هذا هو العقل البليد، وتلك هي لرجولة البليدة! والمرأة تضاعف معنى الحياة في النفس، فلا جرم كان الخلاء منها مضاعفة لمعنى الموت؛ علم هذا من علم وجهله من جهل، فكنت أعيش من الكون في فراغ ميت، وكنت أحس في كل ما حولي وحشةً عقلية تشعرني أن الدنيا غير تامة؛ وكيف تتم في عيني دنيا أراها غير الدنيا التي في قلبي؟

وعرفت أن كل يوم يمضي على الرجل العزب المتعفف لا يمضي حتى يهيء فيه مرض يوم آخر. ومن هذه الأيام المريضة المتهالكة، تعد الحياة انتقامها من هذا الحي الذي نقض آيتها وافتات عليها، وجعل نفسه كالإله لا زوجة له ولا صاحبة!

وأيم الله إن الشيطان لا يفرح بالرجل الزاني وبالمرأة الزانية ما يفرح بالرجل العزب والمرأة العزباء؛ لأنه في ذينك رذيلة في أسلوبها، أما في هذين فالشيطان رذيلة في أسلوب الفضيلة. . .! هناك يلم الشيطان ويمضي، وهنا يأتي الشيطان ويقيم!

وقد عشت ما عشت بقلب مغلق وعقل مفتوح؛ وليتني كنت جاهلاً مغلقاً عقله، وكان قلبي مفتوحاً لأفراح هذا الكون العظيم!

ومضت أيامي يضرب بعضها في بعض، ويمرض بعضها بعضاً حتى أنهت منهاها، وجاء اليوم المدنف الهالك الذي سيموت. . .

أصبحت فقلت لنفسي: كم تعيشين ويحك في أحكام جسد مختل لا تصدق أحكامه، وما أنت معه في طبيعتك ولا هو معك في طبيعته؛ ففيم اجتماعكما ألا على بلائي ونكدي؟

لم تصطلحا قط على واجب ولا لذة، ولا حلال ولا حرام؛ فأنتما عدوان لا هم لكليهما إلا إفساد المسرة التي تعرض للأخر. وما أدرى بمن يسخر الشيطان منكما؟ فالعابد الذي يوسوس باللذات يتمنى اقترافها، كالفاجر الذي يواقعها ويقتحمها!

ويحك يا نفس! إني رأيت هذه الدنيا الخرقاء لم تقدم لي إلا رغيفاً وقالت: املأ بهذا بطنك وعقلك وعينيك وأذنيك ومشاعرك. آه آه! ممكن واحد معه أربعة مستحيلات؛ إن هذا لا يلبثني أن يذهب مني بالأربعة التي تمسني على الحياة: الأمل والعقل والأيمان والصبر

لقد استوى في هذه الكآبة صغير همي وكبيره، وما أراني إلا قد أشرفت على الهلكة التي لا باقية لها، فإن وجهي المتكلح المتقبض يدل مني على أعصاب محتضرة تهكتها أمراضها ووساوسها، وإنما وجه الإنسان في قطوبه أو تهلله هو وجهه دنياه تعبس أو تبتسم

وتالله لقد عجزت عن كفاح الدنيا بهذه الأعصاب المريضة الواهنة، فإن حبالة الصيد، صيد الوحش، لا تكون من خيط الإبرة. . .! وأراني أصبحت كإنسان حجري ليس في طبيعته الالتواء إلى يمين الحياة ويسارها؛ ويخيل إلى من صلابتي أني الأسد، ولكني أسد من حجر، لانقرض قوته الفرار منه على أحد!

قال أبو محمد: ورأيت نفسي في هذا الحوار كالميتة، لا تجيب ولا تعترض ولا تنكر؛ وكنت أظنها تراودني على الحياة أو تردني عن غوايتي؛ فملأني سكونها جزعاً، وأيقنت أن الشيطان بيني وبينها، وأنه أخذ بمنافذها، فأرادت الصلاة فثقلت عنها ورأيتني لا أصلح لها، بل خيل إلى أني إذا قمت إلى الصلاة فإنما قمت لأتهزأ بالصلاة!

وجعل الشيطان يأخذني عن عقلي ويردني إليه، ثم يأخذني ويردني، حتى توهمت إني جننت، وكأنما كان يريد اللعين بقية إيماني يجاذبني فيها وأجاذبه، فلم ألبث أن مسني خبال وألقيت هذه البقية في يديه!

ثم أفقت إفاقة سريعة، فرأيت (المصحف) يرقبني من قريب، فعذت به وعطفت عليه وقلت له: امنع الضربة عن قلبي. بيد أني أحسست أنه خصمي في موقفي لا ظهيري؛ كأني جعلته مصحفاً عند زنديق، فكان كل أيماني الذي بقي لي في تلك اللحظة أني ضعفت عن حمل المصحف كما ثقلت عن الصلاة، فبقي الطاهر طاهراً والنجس نجساً

ولم تكن نفسي في ولا كنت فيها؛ فرأيت الدنيا على وجه لا أدري ما هو، غير أنه هو ما يمكن أن يكون معقولاً من تخاليط مجنون تركه عقله من ساعة: بقايا شعور ضعيف، وبقايا فهم مريض، تتصاغر فيهما الدنيا ويتحاقر بهما العقل

فلما انتهيت إلى هذا لم أعقل ما عملت، وكانت الموسى قد أصابت من يدي عرقاً ناشزاً منتبراً، ففار الدم وانفجر منه مثل ينبوع ضرب عنه الصخر فانشق فانبثق

وتحققت حينئذ أنه الموت، فنظرت فرأيت. . .

قال المسيب راوي القصة: وتجهم وجه الرجل فأطرق وسكت، وكان على وجهه شفق محمر فأظلم بغتة عندما قال: (فنظرت فرأيت)

وأرتج المسجد بصيحة واحدة: فرأيت ماذا، رأيت ماذا؟ وبعثت الصيحة أبا محمد فقال: رأيت ثلاثة وجوه أشرفت من المصحف تنظر إلي كالعاتبه، وكان أوسطها كالقمر الطالع، لو تمثلت آيات الجنة كلها وجهاً لكانته في نظرته وبشاشته. وغمغمت بكلمات لم أسمع منها شيئاً، ولكن نظرها إلى كان يؤدي لي معانيها وكأنها تقول: (أكذلك المؤمن. . .؟) ثم غابت وتخلت عني وبرزت ثلاثة وجوه أخرى، كأنها نقائض تلك، وأعوذ بالله من أوسطها، لو تمثلت آيات الجحيم كلها وجهاً لكانته في نكره وهوله، وخيل ألي أن الوجه الأصغر منها وجه سورة من سور المصحف، ففكرت، فوقع لي مما قام في نفسي من اللعنة أنها: (تبت يدا أبي لهب وتب. . .)

وطمس الظلام هذه الرؤيا وتغيمت الدنيا، فأيقنت أن آثامي قد أقبلت على ظلمة بعد ظلمة، والتمع شيء أحمر، فنظرت فإذا الدم يتخايل في عيني كأنه شعل تتلوى، فجزعت أشد الجزع، وحسبتها طرائق ممتدة لروحي تذهب بها إلى الجحيم

وماتت كل خواطري بعد ذلك إلا فكرة واحدة بقيت حية تأكل في قلبي أكل النار، وهي: (كيف تجرأت فوضعت بيني وبين الله حمقي؟)

ويقولون: إن أختي قد رأتني أتشحط في دمي فصاحت، وجاء الناس على صوتها، وكان فيهم طبيب، فبعد لأي ما استطاع حبس الدم، واحتال حيلته حتى أسف الجرح دواء وضمده، فجعلت أثوب نفساً بعد نفس، وراجعت قليلاً قليلاً. . .

ثم طافت الحياة على عيني ففتحتهما، فإذا الأشياء تبدو لي وليس فيها حقائق ولا معان، كأنها تتخلق جديدةً تحت بصري، وكأنها خارجة لساعتها من يد الله!

وتماثلت شيئاً بعد ساعات، فأحسست أن نفسي قد رجعت إلى ساخرة مني تقول: كيف رأيت عمل العقل أيها العاقل؟

وبدأت الحياة تتجدد، فأقسمت بيني وبين نفسي أن أجدد إيماني بالله. ولم أكد أفعل حتى أحسست كأن قوة الوجود كلها مستقرة في روحي، وخيل إلى أني أنا وحدي القوي على هذه الأرض قوة جبالها وصخورها، على حين كان جسمي ممدداً كالميت لا يتماسك من الضعف!

فأيقنت حينئذ ما لم أعرفه قط من الدنيا ولم أشعر به قط في الحياة ولم يأتني به علم ولا فكر: أيقنت أنها معجزة الأيمان الجديد الغض، المتصل بالله لتوه كأيمان الأنبياء دون أن تلمسه شهوة، أو تعترضه خاطرة، أو تكدره ذرة واحدة من فكر أرضي دنس

قال المسيب: ثم جلس المتحدث، وكان الناس في آخر كلامه كأنما غادروا الدنيا ساعة ورجعوا إليها على مثل حالته ومثل إيمانه؛ فسكت الأمام ولم يتكلم، ليدع كل نفس تكلم صاحبها

(للمجلس بقية)

(طنطا) مصطفى صادق فهمي