مجلة الرسالة/العدد 979/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 979/رسالة النقد
بطلة كربلاء
للدكتورة بنت الشاطئ
للأستاذ محمد رجب البيومي
حين علمت أن الدكتورة الفاضلة بنت الشاطئ قد أخرجت كتابا عن بطلة كربلاء، زينب بنت علي، أخذت أسأل نفسي عما يمكن أن يحويه الكتاب من مواد، وجعلت أتخيل ما يجوز أن تسطره الكاتبة القديرة، فلا يطوف بذهني غير الدور المحدود الذي مثلته البطلة الهاشمية على مسرح كربلاء!! وقد سارعت بقراءة الكتاب وفي ظني أن الدكتورة الفاضلة تعلم عن صاحبتها الكريمة ما لا أعلم، وستتيح لنا قراءة كتابها الجديد أنباء طريفة لم تجد من يهتم بتسطيرها للقراء، ولكن هذا الظن تبدد حين طالعت الكتاب من آلفه إلى يائه، دون أن أجد ما يغيب عني من أنباء السيدة الهاشمية، وبقيت منفردة بدورها الفريد الذي قامت به يوم كربلاء
فبأي حديث شغلت المؤلفة الفاضلة قراءها بضع ساعات؟! لقد بدئ الكتاب بحديث عن زينب بنت الرسول، وكيف تزوجت العاص بن وائل بمكة، ثم تركته إلى المدينة مهاجرة لدى والدها العظيم، كيف وقع الزوج أسيرا يوم بدر ثم افتدته زوجته الحبيبة وكيف أسلم بعد ذلك ثم تزوجها ثانية بعد أن زال المانع الديني!! كل ذلك قد شغل فراغا من الكتاب لتوافق السيدتين الهاشميتين في الاسم فقط! ولإيضاح السبب في تسمية زينب باسمها الكريم!! وكنا نتجاوز عن السيدة المؤلفة لو أسهبت في حديثها - بلا مناسبة ملحة - مرة أو مرتين أو ثلاثا، ولكنها تمضي في الكتاب على هذه الوتيرة فما تكاد تلم بموقعة أو حادثة حتى تسهب في تسجيلها وتسطيرها، لاهون سبب واضعف داع، مما جعلني أعتقد أن الدكتورة الجامعية قد ظلمت كتابها ظلما عنيفا، حين أسمته بطلة كربلاء، وماذا عليها لو استبدلت به عنوانا ينطبق على مدلوله فلا يصطدم القارئ بأنباء يعدها غريبة دخيلة!! أم أن السيدة الكاتبة تحب أن تتحدث في غير موضوع كما يقال
ولقد كان للمؤلفة الفاضلة عذرها في الاستطراد والإسهاب لو تحدثت عن بطل عاص جميع الحوادث المسطورة في الكتاب كعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مثلا، فهي بإسهابها ترسم صورة صادقة للجو الذي يحيط بعلي، والحوادث التي تقع من حوله، وتتناقل إليه فيستجيب لها، وتحول سلوكه، وتفسر أعماله، ولكنها تتحدث عن أمور لا صلة لها بسيدة جاء دورها التاريخي بعد ذلك بعشرات السنوات في كربلاء! فلم تكلف نفسها هذا العناء؟ وإذا كانت المؤلفة وهي أدبية ناقدة لا تجيز لكاتب يضع مؤلفا عن شوقي مثلا أن يكتب ثلاثة أرباع صحائفه عمن سبق أمير الشعراء من زمن محمد علي إلى البارودي. فيتحدث عن العطار والخشاب وشهاب واليازجي والليثي وأبى النصر والساعاتي ثم يخص شوقي بعد ذلك بفصل أو فصلين لا يشغلان غير اليسير الهين من الكتاب!! إذا كانت المؤلفة لا تجيز لمؤلف أن يفعل ذلك، فلم تصنع هذا الصنيع في كتاب تاريخي يكشف عن بطلة واحدة، ويوحي عنوانه شيء واحد لا ينتظر القارئ سواه، هذا ما لا أدركه بحال
وقد فطنت المؤلفة الفاضلة إلى ما يجره استطرادها المتواصل في الحديث من شطط وجموح، فاندفعت تقول في تبرير هذه الإسهاب (وقد تمر فترة طويلة تغيب زينب خلالها في غمرة الأحداث؛ بل قد نفقد أثرها أحياناً في ضجة الدوي الراعد الذي كان يصم الآذان، ويدير الرءوس، لكننا سنجدها أخيرا بعد أن تكون الأحداث العنيفة قد هيأت المسرح لظهور كربلاء!
(ومن هنا يبدو عذرنا إذ نطيل الحديث عن معارك سياسية قد يظن ظان أنها لا تلمس زينب من حيث صلتها بالقادة والأقطاب؛ على حين نرى في كل هذه المعارك مقدمات لها خطرها في توجيه حياة زينب وأثرها في إعدادها لدورها الرهيب!!) ونحن نرى الدكتورة بعد ذلك تختار حوادث خاصة تسهب في تسطيرها وتدوينها، وتترك حوادث أخرى لا تقل عنها أهمية وتأثيرا ونتيجة، دون أن نلحظ فائدة حقيقية لهذا الاختيار، فهي مثلا تطنب في وصف معركة الجمل فتتحدث في لجب عن عائشة وقد قدحت في عثمان أولا، ثم خرجت تطلب بثأره ثانيا، وتذكر النقاش الذي دار بين أم المؤمنين وفريق من المسلمين، بشأن موقفها من علي، وتعلل هذا الموقف ما يمكن أن يكون بين علي وعائشة قبل ذلك من خصام، والقارئ يلم من ذلك كله بحديث الجمل وأسبابه ونتائجه، ثم ينتظر بعد ذلك فلا يجد سطرا واحدا عن موقعة صفين أو النهروان، وهنا يسأل نفسه أكانت موقعة الجمل ذات أثر في نفس زينب يعظم عن أثر صفين؟ وهل لا تستحق الموقعة الأخيرة أن يكتب عنها سطر واحد، بجوار ما كتب عن الأولى من صفحات!! أم أن الكاتبة الجامعية تختار ما تتحدث عنه كما يتهيأ لها دون أن ترتبط بخطة ومنهاج!!
وندع الحديث عن الاستطراد الحائر في سطور الكتاب وفصوله نتحدث عن ظاهرة أخرى تلوح في مؤلف السيدة، وهي تتجه بنا إلى صميم بنائه وتجعلنا نتساءل عن حقيقته أهو تاريخي علمي في أسلوب سلس مشرق، أم قصة أدبية اتخذت أبطالها وحوادثها من التاريخ؟ إن المؤلفة تجيب عن هذا السؤال في أول سطر من المقدمة فتقول (هذا الكتاب ليس تاريخا بحتا، وإن أخذ مادته كلها من مراجع تاريخية أصلية، كما أنه ليس قصة خالصة، وإن اصطنع الأسلوب القصصي - غالبا في العرض والأداء) ثم تقول المؤلفة في نهاية المقدمة (وهذا الكتاب لا يعدو أن يكون صورة لحياة تلك السيدة رسمها المؤرخون الثقاة قبلي، ثم جاء المنقبون، فأضافوا إليها ظلالا شبه أسطورية، لها روعتها وعميق إيحائها، وقوة دلالتها، وقد حرصت ما استطعت على أصالة الألوان التاريخية دون أن أهدر هذه الظلال أو أهون من شأنها، لأنها - مهما يكن رأي العلم والتاريخ فيها - عنصر في صورة السيدة، كما تمثلها السابقون وكما رأوها، ولا أرى من حقي أن أسخر بأي ظل منها إلا إذا كان من حق الدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام)
والقارئ حين يطالع هذه السطور يلمس تناقضا تاما ينكره ويأباه، فالدكتورة الفاضلة تعلن من جهة أنها حرصت على أصالة الألوان التاريخية كما رسمها المؤرخون الثقاة، وتعلن من جهة ثانية أنها لم تستطع أن تغفل الظلال الأسطورية أو تهون من شأنها، لما لها من الروعة والإيحاء، وأن الذي يحرص على أراء المؤرخين الثقاة لا ينبغي أن يلتفت إلى الأساطير والخرافات!! فإن فعل ذلك فقد ودع التاريخ والبحث العلمي، وانتقل إلى الفن الأدبي، يحلق في أخيلته، ويهيم بأوديته، فلا ينتظر من القارئ بعد ذلك أن يعتمد على نتائجه وأحكامه، بل ينتظر منه أن يعجب ببراعة اللوحة، ودقة التحليل، وأناقة التصوير. وهذا ما ينبغي أن يتوجه إليه ذهنه دون سواه!! لذلك كان من العجب أن تحدثك المؤلفة عن الأسطورة البلقاء، ثم تعقبها بذكر مصدرها التاريخي القديم، لتوهم القارئ أنها تتقيد بنصوص المؤرخين الثقاة!! ومن الصعب أن تجد من يؤمن بمصادرها الأسطورية من الناس!! وربما يتضح ما نعنيه من هذا المثال
لقد أرادت الدكتورة أن ترسم صورة للمهد الحزين الذي تقلبت فيه الوليدة الجديدة زينب حين استقبلت الحياة، فوفقت الكاتبة في شيء وخانها التوفيق في شيء آخر. . وفقت حين ذكرت أن الزهراء رضى الله عنها لم تكن أثناء الحمل مشرقة مطمئنة، فقد كانت تعتادها نوبات من القلق والاكتئاب، وأخذت تزداد بعد موت والدتها خديجة، ثم اشتدت حين حلت عائشة مكان الراحلة العزيزة، وهو المكان الذي ترك بضع سنين لفاطمة، ثم كان بين الابنة وزوجة الأب، ما يشبه الذي يكون بين مثيلاتهما من الناس، وفي هذا القلق المضطرب، والنزاع الحائر، ولدت الطفلة العلوية، فتأثرت بما يحيط بها من حيرة ونزاع، وأظل مهدها الوديع سحاب من الحزن والاكتئاب!!
هنا ندرك التوفيق لأن الكاتبة تنتزع فروضها ونتائجها من الواقع المشاهد، أو المحتمل أن يكون، ولكننا نتلمسه بعد ذلك في بقية الفصل فلا نجد ما يدل عليه، إذ أن المؤلفة تنزع إلى الأسطورة المكشوفة، لتكمل بها صورة رهيبة للمهد الحزين، فوالد الطفلة، ووالدتها خائفان متحسران إذ سمعا من الرسول ما ينبئ بمصرع الحسين في كر بلاء، فقد أعطى النبي زوجته أم سلمة زجاجة بها تراب حمله إليه أمين الوحي، وقال لها: إذا صار التراب دماً في القارورة فقد مات الحسين!! وهنا تحول بيت الزهراء جمرة موقدة من الحزن والهلع، وجاءت الوليدة لتتأثر بما يغمر البيت من لوعة واكتئاب
والدكتورة الفاضلة تضيف إلى خبر أم سلمة خبرا مثله عن زهير بن القين البجلي، ليتم لها صورة قاتمة للمهد الحزين، ثم تنقل شكوك المستشرقين في صحة هذين الخبرين، وما يجري معهما في مضمار واحد، وتعقب على ذلك بأنها - بنت الشاطئ - لا تحيل أن يكون شيئا من هذه الشائعات قد شاع!! وأن المؤرخين المسلمين لا يشك أكثرهم في أن هذه الروايات صادقة كلها!!! وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا مثل هذه الروايات عن الشك، بل أن من كتاب العصر من لا يقل عنهم أيمانا بتلك الضلال!! كل ذلك ليكتمل للمؤلفة موضوعها الطريف الذي اختارت لعنوانه هذه العبارة الأنيقة (ظلال على المهد) ولا أدري لم جنحت المؤلفة إلى تسطيره وهو وحده يمل بالقراء إلى الشك في جميع فصول الكتاب!! إن هذه الأساطير - كما تقول الدكتورة - تصور زينب رضى الله عنها كما تمثلها السابقون من الرواة، ولكنها لن تجعل وحدها المهد المستقر الوادع حزينا قلقا يغشاه الاكتئاب، فإذا أرادت المؤلفة أن ترسم صورة لمكانة السيدة في النفوس، فلتعمد إلى هذه الأساطير مستمدة منها الظلال والأضواء، ولن يعارضها في ذلك ناقد يجهر برأيه للقراء، أما أن اتخذت منها الكاتبة مادة لإيقاد الحزن والكآبة في مهد الوليدة المسكينة فهذا ما لا تقبله العقول مهما امتلأت به الصفحات!!
ونحن نسخر بهذه الأساطير دون أن نبيح للدارس النفسي أن يسخر بالأوهام والأحلام، كما تقول الكاتبة الفاضلة. لأن المحلل النفسي يتخذ مادة أبحاثه من أحلام المريض وأوهامه، فهو لم يخرج عن النطاق في شيء، وهنا يجب ألا نسخر به، أما إذا لجأ إلى أحلام مريض آخر ليصل بها إلى تشخيص علاج حاسم لمريض الأول، فهنا يجب أن نوجه إليه النقد المخلص، وهذا ما فعلته الدكتورة المؤلفة، حيث استدلت بأساطير ملفقة وضعها القصاصون حول سيدة كريمة لا لتصور مكانتها لدى هؤلاء القصاص، بل لتتخذ منها دليلا على ما صادف المهد من لوعة واكتئاب، وكأن الكاتبة بذلك تمحو الشقة الواسعة بين الواقع والخيال، ودونهما المطارح النازحة والمهامه الشاسعات
هذا وقد كانت المؤلفة تخط كتابها عن بطلة كربلاء، وفي ذهنها أنه سيكون من بين كتب الشهر التي تصدر عن دار الهلال، ونحن لا نشير إلى ذلك عبثا، بل نعني أن الدكتورة كانت مقيدة بعدد معين من الصفحات يتحتم ألا تنقص عنه ليخرج الكتاب في حجمه المعتاد، ولعل هذا الوضع الحتمي قد قذف بها مضطرة إلى ما أخذناه عليها من الاستطراد الحائر المتذبذب، كما دفع بها إلى نوع من التحليل يقوم على الفرض البعيد، والتأويل المتكلف، وللقارئ أن يطالع حديث الكاتبة عن الصبا الحزين، فسيجدها تتحدث عن زينب وهي في الخامسة من عمرها، كما لو كانت تناهز العشرين، فتفرض أنها انعطفت إلى أبيها بعد موت الرسول، فسمعته يتحدث عن الحق المغتصب للأسرة في بخلافة، ويتألم للمكانة المجحودة، والقربى المهدرة، كما تنس الصغيرة ذات الخمس منظر عمر وقد اقتحم بيت الزهراء ليحمل عليا إلى البيعة!! وما تبع ذلك من نقاش بين الزهراء والصاحبين الراشدين، فليت شعري أبمكفى أن تكون هذه الأحداث ذات علاقة ماسة بالصغيرة الطفلة!! إننا نعلم ما يقرره علماء النفس من أن أحداث الطفولة ذات أثر هام يصحب المرء طيلة حياته، فلا يستطيع أن يتخلص من تأثيرها الساحر، مهما امتد الزمن وتطاولت الحياة!! ومن هنا كنت العناية بتنشئة الطفل مقدسة محتومة. ولكن أي الأحداث تنفرد بالتأثير والبقاء طيلة الحياة؟؟ من المؤكد أن ما يتعقله الطفل، ويلمسه بيده، ويخالط شعوره وإحساسه، هو ما ينطبع في مخيلته، ويصاحبه في مراحل عيشه، أما ما يحيط به دون أن يدرك مراميه واتجاهاته، فلا يأخذ مكانه من الشعور والإحساس، بل يمر مراً سريعا طائرا دون أن يخلد إلى ركون واستقرار، وما أرى أن بيعة المسلمين لأبى بكر دون علي قد خالطت شعور الطفلة الناشئة، أو جالت بخاطرها بضع لحظات، فلم نتخذ منها مقدمة لنتيجة لا تؤدي إليها بحال، وقد يكون ما ذكرته السيدة عن وفاء الزهراء، وزواج علي بأخريات بعد فاطمة، قد ترك أثره المحزن في نفس الطفلة، لأنها تحسه تمام الإحساس، أما حديث البيعة والنقاش بين فاطمة والصاحبين فما لا يقام له حساب في هذا الموضوع بالذات، إلا أن يكون الغرض تسويد الصفحات
هذه بعض ملاحظات عابرة لا تغض من قيمة الكتاب، وقد تحاشيت أن أناقش كثيرا من الجزئيات التاريخية، فاعرض لها بتأييد أو تفنيد، مكتفيا بالملاحظات الرئيسية التي تشمل الأساس والتصميم دون أن افحص أحجار البناء المتراصة، حيث كان الهش اللين منها محاطا بأعمدة صلبة تعوقه من التداعي السريع، ولا ننكر في النهاية ما بالكتاب من سلاسة مترقرقة تجذب القارئ إلى مطالعته في شوق وارتياح، وتحمل آلافا من الكسالى الخاملين على القراءة المثمرة والاطلاع المفيد؛ بدل أن يعكفوا على الروايات البوليسية، والقصص العاطفية، وما تزخر به الصحافة الماجنة من تبذل واستخفاف
(أبو تيج)
محمد رجب البيومي