مجلة الرسالة/العدد 976/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 976/الكتب
في المحراب (ديوان)
تأليف الأستاذ محمد عثمان الصمدي
للأستاذ محمد رجب البيومي
منذ أكثر من خمس سنوات قرأت في مجلة (الكاتب المصري) قصيدة طويلة تحت عنوان (بين المثالية والطبائع البشرية) وقد راقني منها وضوح الفكرة، وقوة النسج، ودقة التحليل، فاضطررت إلى تكرارها مرات عديدة حتى علق بذهني كثير من أبياتها، وأخذت أفتش في مجلاتنا الأدبية، عن شعر آخر لكاتبها المبدع فلم أوفق إلى شيء، حتى وقع في يدي منذ أسبوع ديوان (في المحراب) مبدوءا بهذه القصيدة الفريدة فأخذت أطالعه في كثير من الشغف والإعجاب، وشاهدت بين قصائده نظائر عديدة للقصيدة الأولى، فعلمت أن الينبوع الذي ينحدر منه هذا الشعر الجيد، دافق جياش لا ينضب له معين، وأسفت حين علمت أن ديوان (في المحراب) قد صدر منذ عامين، وسكتت عنه المجلات الأدبية، فلم نقرأ له نقداً في صحيفة، لو تقريظاً في مجلة، مع أننا نطالع في كل يوم كلمات كثيرة تدور حول دواوين ميتة لا تشبع عقلاء ولا تحيي عاطفة، وهكذا يرسب الدر في قاع المحيط، بينما يتناثر على سطحه الأشلاء والعظام.
ومن الخير أن نكشف عن المميزات التي تظهر في شعر الأستاذ الصمدي واضحة بارزة، وقد يكون أهمها ما نلمسه لدى الشاعر من عمق في التحليل، وقوة في التحليق، وجزالة محكمة رصينة،!! وتلك هي الأركان الثلاثة التي ارتفعت بديوانه إلى منزلة سامقة تشرفه وتعلمه، ومما يزيد في قيمتها الأدبية أنها تطرد في سياق واحد، فلا تتخلف ميزة عن أختيها، في قصيدة من قصائد الديوان، بل تظهر ثلاثتها متجاورات متآخيات!!.
وإذا كان الشاعر في جميع قصائده متشائماً متضايقاً، برماً بما حوله من الناس والأحياء، فهذا مما يؤخذ عليه في شيء، لأن لكل إنسان آماله وأحلامه. ومهما أحث السير نحو أهدافه فلن يقرب من مثله وأشواقه، وهنا تكون الحسرة الموحية بالتشاؤم والقلق لدى أكثر الشعراء، وقد يكون الحظ التعس مولعاً ببعضهم فيقف له المرصاد، ينغص عيشه، ويكدر حياته، وينقله من الخفض الناعم، إلى الجدب الموحش ويجسم له أشجانه فتصبح أشباحا قاتمة، تطوف أمامه موترة بالسواد، وتظل طيلة ليلة عابرة أمام عينيه، تشرد نومه، وتهيج بلابله،!! وصاحب الديوان أحد هؤلاء الرازحين في ليل من البلابل والشجون، وتظهر ميزته الأولى في دقة التحليل وعمق الاستقصاء، حين يتحدث عن أشجانه ورزاياه!! فيصف لك البوم الذي ينعب في صدور مولولا، ويسمعك الصخب الهائج بين الضلوع في ظلمة الليل وقد سكنت حركة الأحياء والأشياء، ويربك الأشباح المتواكبة أمامه، وقد ملأت مسامعه بالزمام والرعود، وأسلمته إلى الذكريات البعيدة والقريبة فيعيدها ضعيف الجرس، حار الأنة، وقريبها صاخب ملحاح شديد اللوعة والغرام، والشاعر في حيرة مقلقة بين القريب والبعيد، ولن تقف هذه الحيرة أمام شاعريته، بل أفسحت له مجال الوصف والتحليل فاندفع يقول:
يلف الدجي مني مراح بلابل ... ومثوى شجون لا تريم جثوم
لها صخب خلف الضلوع مبعثر ... فمن ناعب يذكي الأسى ويغوم
كأني ناي في يد الليل جائش ... بما في الورى من رائع ودميم
إذا أذهب الليل الحياة أعادها ... قيامي على أعبائها ولزومي
ألا شد ما أوقرت نفسي بفادح ... أنوء به تحت الظلام جسيم
وأشباح ليل ما تني في هتافها ... أذنت لها من بعد طول وجوم
ففي الشرق منها هاتف بزمام ... وفي الغرب منها هاتف بهزيم
وطورا يشق الليل داع مرزأ ... بصوت من البعيد السحيق سقيم
له أنة حري على ضعف جرمها ... كأنه مصدوع الفؤاد كليم
وتصخب طورا حين أصغى لها معاً ... فأمسي كأني في مناحة يوم
من الطارق المحاح بأبي، وللكرى ... يد في الدجى ألوت بكل نؤوم
وكثير من الناس يسهرون الليل ساهمين محزونين يفكرون في حظوظهم العاثرة، وسيجدون صورة ما يعتادهم من الشجن والرعب في هذه الأبيات، ونظائرها من الديوان، وكم للنفس من خلوة رهيبة، تكنفها الوحشة، وترتعد لها الفرائص الصلاب، ولا فرق بين المسير في غابة رهيبة نائية، وبين التسرب في أعماق الشجون، وتذكر المصائب والويلات، والحزين من هواجسه في مأسدة عالية الزئير، مرتفعة الصياح، فليس عجباً أن يسمع الشاعر في وحدته الساكنة، ومناحة البوم، ورنين الأنات، ويرى تواثب الأشباح أسرابا خلف أسراب!.
وقد استعان الأستاذ الصمدي بخياله المجنح الطائر، فنظم ملحمة طويلة يصف بها يوم البعث كما ينطبع في مخيلته، ولم يشأ أن يصور حلقات سريعة لما يتخيله من الحوادث والوقائع فحسب، بل أراد أن يبرز فلسفته في الحياة والناس في جو من الإيحاء والإبهام، ولم يفارقه تشاؤمه المرير قيد لحظة، بل ظل يظفر بين سطوره من بيت إلى بيت دون أن يخلد إلى الراحة والأطمئنان، بل إن الملحمة تدور حوله رائحة غادية!! فحين نفخإسرافيل في الصور، ونهضت الرمم البالية من الأجداث، وهبت هبوب الذبا فوق المروج والأعشاب، ودبت الحياة على الأرض من جديد، حين كان ذلك، فزعت الملائكة في السماء، وجعلوا يتساءلون عن هذا البعث في قلق وإشفاق؟ كيف حان على غير أهبة؟ وما مصيره وعقباه؟ ولأي غاية كان؟!! ولجئوا إلى إسرافيل يستفسرون عما صنع من جليل الخطوب حين نقر في الناقور، وقد توجسوا الشر إذ أنذرهم ببعث الآدميين من جديد، وظنوا الأظانين بأبناء حواء، واندفعوا يقولون في حسرة وإشفاق.
رويدا ملاك الصور ماذا تقوله ... أهبوا على الطبع القديم المدابر
إذن سوف ينضون السلاح كعهدم ... غلابا على الأخرى غلاب المغاور
فلن يجنحوا للسلم والطبع قائد ... يجاذبهم حرص النفوس الغرائر
غرائز غشت تحتها مشرق الحجى ... ورانت على الأبصار فوق البصائر
وليس الحجى كالطبائع فيهم مؤصلا ... ولكنه للمرء إحدى المفاخر
مضى الناس طرا ما ألموا بقدسه ... سوى نفر منهم قلال عباقر
وسائرهم أسرى الغرائز خطهم ... عليهن من مأثوره - حظ تاجر
وهذه النظرة الجاحدة للإنسان تجد ما يبررها لدى الشاعر من واقع عيشه، وظروف حياته، فقد نازعه بعض الموسرين منازعة قضائية، واغتصبوا منه ظلماً ما لا يجوز أن يقربوه في شيء، والتبس الأمر على القضاء فأيدهم بسلطان القانون، ولم يجد الشاعر غير القريض ينفس به عن ذات صدره، ويبثه تباريحه ومواجعه، فامتلأ ديوانه بهذه القذائف الصائبات.
وقد وفق الأستاذ الصمدي في ملحمته هذه ملحمته هذه توفيقنا حميدا، فبرزت ميزته الثانية في التحليق مع الخيال إلى القمم والأجواز، فلم يبرز يوم البعث، دون مقدمة تمهد له وتؤذن به، فالأثير يدوي بأصداء خفاف عوابر، والأفق موحش يتجاوب فيه الصدى تجاوبا مرهوبا، والسكون الشامل يدفع الأحشاء إلى حركة تؤذن بالانفجار، والأثير يتجاوز الخفق - بعد قليل - إلى الزمجرة والقصف، والضباب يتدجى على الثرى في تكاتف والتحام، والدخان يتنقل مع الريح كالدخان المتصاعد من المباخر العاليات. . . والسحاب والسديم والبحار تأخذ في مرآة الشاعر صورا مهتاجة فزعة. . . تجد هذا كله حين تنصت إلى قوله في مقدمة ملحمته الجيدة.
أذنت إلى خفق الأثير وقد هفا ... يدوي بأصداء خفاف عوابر
وللأفق حولي وحشة أولت الصدى ... وضوح شهاب عابر في الدياجر
سكون تكاد النفس توجس خلفه ... حشاً مستفزا بانفجار مخامر
على صفحتيه ما ينى نبض منذر ... كنبض سراج في السموات ساهر
لآنست إرهاصاً لأمر مروع ... وراء أسارير الأثير الموائر
فلو أن مذياعا يبين ما انطوى ... عليه لأجلى موجه عن زماجر
وما هي إلا أن تدجى على الثرى ... ضباب إلى غيم على الأفق سائر
وصعدت الأرض الغبار كأنه ... على الريح مذرورا دخان المباخر
هنا السدم قد ذرت، هنا السحب بعثرت ... هنا طافر ينزو إلى جنب طافر
وتمضى القصيدة إلى نهايتها في هذا السياق الرصين!!
والقارئ يغتبط كثيراً التآخي الجزالة الرصينة مع الخيال السابح المحلق، في شعر الأستاذ الصمدي، إذ أن التزام الجزالة يصرف الشاعر غالبا عن سبحاته النائية، ومهامهه الشاسعة، ونحن نرى عشاق التحليق والطيران من الشعراء يسرعون إلى مطارحهم النائية، ويرتقون إلى أجوازهم العالية في أسلوب لا يرضى الرصانة والأسر، فالتعبير مفك غير متماسك، والتركيب مضطرب فاتر، واقرأ ما لدينا من الشعر الحديث في الملاحم والأساطير، فلن تجد للرصافة أثراً يرضيك، بل إنها في مذهب أصحاب الملاحم ضرب عتيق من التقليد المظلم الذي يتعذر.
أن يجد سوقه الرائجة في هذا الأفق الطليق، وقد دفعهم إلى هذا الاتهام القاسي ما يجدونه - غالباً. . . لدى أنصار الجزالة من ضيق الثقافة والخيال والتحليل، إذ أن قصائدهم - في الأكثر - تضطرب في نطاق ضئيل من المعاني المتوارثة الشائعة - وإذا جنحوا إلى الابتكار الشائق فلا يتجاوزون حدود الاستعارة والتشبيه، مما يتعلق بالبيت أو البيتين، لا أن يعم الابتكار فكرة القصيدة، وأغراضها وأوزانها، فتكون له الدقة والطرافة والتوثب، وقصيدة الشاعر عن يوم البعث محاولة طيبة لتقريب الشقة بين المذهبين المختلفين، وإن كنا ندعو الأستاذ الصمدي إلى التخلص قليلا من بهارجه اللغوية، التي تبرز بوضوح في صفحات ديوانه. فقارئ الشعر لا يصبر على مراجعة الهوامش كقارئ المنطق والفلسفة، ولكنه يريد فاكهة عذبة مريحة، يلمس في يديه نعومتها الشفافة، ويرىبعينيه صورتها الخلابة، ويذوق بفمه حلاوتها المشتهاة، وهذا ما تحول دونه ألفاظ المعاجم، في بعض الأحايين، ومعاذ الأدب أن يفهم القارئ من هذا الرأي أننا نتنكر للجزالة والأسر، بل نسير معهما إلى أبعد شوط وأقصاه، ولكننا لا نراهما في حاجة إلى الألفاظ الغريبة عن السمع والعين وللفؤاد، وأكثر ما لدينا من شعر الديوان سائغ رائق، قد خلص من الغرابة والإيحاش.
وقد لاحظت أن الشاعر - أقر أم لم يقر - متأثر في بعض قصائده بشاعرية الأستاذ العقاد، فقد اخذ عنه حبة للتعليل والتدقيق، ورغبته في جدله العقلي المترف الذي يندس إلى أغوار الحياة، فيجد فيها مادة للتفلسف والمقارنة، وهذا لا عيب الشعر في شيء - كما يرى السطحيون - ما دام ملموسا واضحا أمام الذهن البصير، بل يرفعه إلى مستوى شامخ تتوائب فيه العواطف والعقول، وقد ظهر في هذا التأثر في كثير من القصائد الديوان، كنجوى الأمل، وعلى رفات البشرية، والله والوجود، وإن لم يلحق الصمدي بأستاذه العقاد في الدقة والصدق والإقناع، بل وقف منه عن كثب يطارحه ويحاكيه، واقرأ دعوة الشاعر إلى خداع النفس، والهروب من الحقائق، ونتناسى الواقع، لتلمس الشواهد الدالة على ما ندعيه في مثل قوله:
قد ضقت بالحق الصراح ... لنفسي بالهراء
والعيش عبء فادح ... إن لم يموه بالطلاء
أحبب بآلك لامعا ... عندي وإن لم ألق ماء إن كنت لم تنقع صدى ... فسواك يغري بالظماء
حسبي بأنك مالئ ... عيني سحرا بالرواء
يا أيها الأمل المنمق ... من أفانين الغباء
أني لقيت بك السعا ... دة وهي حظ الأغبياء
لو أن لي لبا لما ... آنست في أفن هباء
أنا لو وثقت بظلها ... فعليك يا عاقل العفاء
هذا، وقد عاش الشاعر في الريف فخصه بكثير من خواطره فهو يصف طبيعته الفاتنة وسحبه وبروقه وغمائمه، ويشارك أهله ما يجدون من عواطف وأحاسيس، فيرثي أقطابه وذوى الوجاهة فيه، ويرسم ألواحا بديعة للجمال المشترك الموزع بين المروج والحسان والغدران، مما يزين جوانب الريف ويجلو حنادسه المتراكمات، وتعجبني نظراته الاجتماعية الصادقة، وخلجاته الإنسانية التي ألتمعت متوهجة في آخر قصيدة (من صور الريف) فهو يحدثك عن تعس العقل وشقائه، حين لا يجد بدأ من الخضوع للأوهام والأضاليل، بعد أن كابد الداء العضال وأعوزه الشفاء عن طريقه الطبيعي للعلاج، فيلجأ إلى التمائم والرقي والتعاويذ، على يد أناس جهلة مماسيخ!! راميا بآخر سهم في كنانته، وذلك قصارى ما يستطيع!!
وجاء شيوخ الحي والكل ناهض ... بإبلاله من دائه المتفاقم
وقالوا عليه باللحي لكأنها ... لبود ليوث ساء طب الضراغم
ومسوا بأيديهم يديه وأقبلوا ... يلوكون بالأفواه رجع الهماهم
وقال كبير القوم خذ هذه الرقي ... فنطها على اسم الله فوق الجماجم
ونطت بأعلاه، التمائم والرقي ... على سوء ظني في الرقي والتمائم
ورب فتى لم يعصم العلم نفسه ... فيلقى بها ضعفا إلى غير عاصم
ولهذه الوثبات الرائعة نظائر متناثرة في صفحات الديوان، وقد يجمح بنا اليراع إذا تناولناها ببعض التشخيص في هذا النطاق الضيق المحدود!!.
ولعلي بهذا العرض السريع، لأبرز عناصر الديوان، ألفت كثيرا من القراء إلى الإصلاح عليه وتقديره، وقد يكون إعجابي به دافعا إلى التغاضي عن بعض هناته الطفيفة، فعين الرضا عن كل عيب كليلة غضيضة، وحسبي أن أوجه القارئ إلى ديوان لم يسمع عنه، وقد حفل بكثير مما يلذ ويستطاب، راجياً أن يجد فيه ما وجدت من البراعة والطرافة، فيستشعر الأنس والمتعة والارتياح، وذلك شيء له حسابه الدقيق، وقدره الراجح الموزون!!
أبو تيج
محمود رجب البيومي