انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 975/لا تخافوا (الأخوان) لأنهم يخافون الله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 975/لا تخافوا (الأخوان) لأنهم يخافون الله

مجلة الرسالة - العدد 975
لا تخافوا (الأخوان) لأنهم يخافون الله
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 03 - 1952


أحمد حسن الزيات

الفكر واللغة

للأستاذ الدكتور إبراهيم بيومي مدكور بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

اللغة ابتكار من إبداع ما وصل إليه الإنسان، وأداة تمتاز بكثير من الإتقان والأحكام، ووسيلة ناجحة من وسائل الترابط والتفاهم بين الأفراد والجماعات. وهي ظاهرة متشعبة النواحي والأطراف قد أثارت ألواناً شتى من البحث والدراسة. وإذا تركنا جانباً ما يتصل بها من دراسات أدبية ونحوية وصرفية، فإنها وجهت إلى بحوث أخرى متعددة.

فعرض لها علماء وظائف الأعضاء ليعرفوا كيف تؤدى، ويبينوا أعضاء النطق والصوت، ويوسعوا في اختصار الجهاز العضوي للغة. وعالجها علماء النفس لما رأوا من صلة وثيقة بين العمل الذهني والدلالات اللغوية. وعنى بها علماء الإجتماع مبينين نشأنها وتطورها، ومقارنين بين اللغات البدائية واللغات المتحضرة، ومعلنين أن اللغة ظاهرة إجتماعية تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من عوامل ومؤثرات، ونظر إلى اللغة أخيراً على أنها جزء من التأريخ يسجل الماضي، ويحكى الأحداث، بل هي نفسها قطعة تاريخية متحركة يجب دراستها وبحث معالمها.

ودون أن نعرض لهذه النواحي المتعددة، نود فقط أن نوجه النظر إلى ما بين الفكر واللغة من صلة. وفي هذه الصلة ما يلقي كثيراً من الضوء على مناقشاتنا وعملنا المجمعي، وخاصة فيما يتصل بالمصطلحات ووضعها، والمترادفات وقيمتها، وألفاظ الحضارة وتجددها، والتعبيرات المبتكرة ومدى الحاجة إليها.

ولا شك في أن المعنى وثيق الصلة باللفظ الذي يؤديه، لأنه ثوبه ووعاؤه، وبدونه يضل ويصبح كأن لا وجود له. فلا يمكن تبادله بين الأفراد، بل ولا استحضاره في ذهن الفرد الواحد. وقديما قالوا: التفكير حديث نفسي. ومن هنا ارتبط التفكير باللغة، وبالأخص في صوره السامية كالحكم والاستدلال.

وإذا تأملنا الفكر واللغة وجدنا أن كل واحد منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به. فاللغة في نشأتها تخضع إلى مدى بعيد للنشاط الذهني والميول والاتجاهات النفسية. وما لغة الأطفال إلا حركات وإشارات تبعث عليها غرائز واستعدادات، يدفع الطفل يده إلى الأمام مشيراً إلى التقدم إلى الخلف، أو مشيراً إلى التراجع، وكل تلك حركات تعبر عن انفعالات داخلية. ولا تلبث هذه الحركات أن تتحول إلى إشارات، والإشارات إلى أصوات، والأصوات إلى ألفاظ وجمل. وبذا تنشأ في تدرجها الطبيعي، وتقوم على أساس سيكولوجي.

لم يؤثر الفكر في نشأة اللغة فحسب، بل ساهم أيضاً بنصيب ملحوظ في حفظها والإبقاء عليها. ذلك لأن تعلم اللغة بين أبناء الجيل الواحد يعتمد على السماع والحفظ، وتبادلها بين الأجيال المتلاحقة لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية. ودعامة ذلك كله الذاكرة والحافظة، ولولا الذاكرة ما كانت لغة كما يقولون. وقد يكون في الكتابة ما يرفع عن كاهلنا اليوم بعض عبء الاحتفاظ باللغة، ولكن كم من جماعات عرفت لها لغات تداولتها وتوراثتها دون أن يكون للكتابة فيها أثر ملحوظ، وإنما عولت على الذاكرة وحدها. وكلنا يعلم أن قوة التذكر أوضح في حياة البداوة منها في حياة الحضر، لأن المتحضرين في اعتمادهم على القلم والقرطاس يضعفون الذاكرة ويقللون استخدامها. على أن الكتابة نفسها لا يمكن أن تتعلم وتكتسب إلا بقسط ضروري من الحفظ والتذكر.

وللحياة الفكرية أثر آخر في نهضة اللغة ونموها، إذ لولا تجدد المعاني وتباينها ما تجددث الألفاظ، ولا تنوعت التراكيب. ولولا عمق الفكرة وتحددها ما كانت دقة اللفظ وتخيره. وكم يشعر المتكلم أو الكاتب أن اللفظ أو التعبير الذي استعمله لا يؤدي تماماً المعنى الذي يريده، فيحاول البحث عن غيره ليكون أكثر ملاءمة. وثروة اللغات تتفاوت فيما بينها تبعاً لنشاط الحياة الفكرية وتقدم العلوم والفنون. ولسنا في حاجة إلى أن نشير إلى أن عصر ازدهار اليونانية قد اقترن بتلك النهضة الفلسفية والفنية التي عرفتها أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. وقد لوحظ أيضاً أن أسماء الذوات تغلب أسماء المعاني في اللغات البدائية، لأن البدائيين لا يلجئون كثيراً إلى التعميم والتجريد. وتساهم فكرة الزمن بنصيب أوضح في لغة المتحضرين منها في لغة الشعوب الهمجية. وتبادل العلوم والفنون بين الأمم لا يقتصر على تبادل الأفكار، بل يصاحبه أيضاً تبادل بعض الألفاظ والأساليب الدالة عليها، وكثيراً ما كشفت هذه عن أصل تلك.

وللغة بدورها أثر قوى في التفكير، فهي إلى مدى بعيد مادته ودعامته؛ ذلك لأن الدال والمدلول متلازمان، وقل أن يستحضر أحدهما في الذهن بدون الآخر. وقد سبق لأرسطوا أن قال تلك الجملة المشهورة التي قدر لها أن تحيا مع الزمن، وهي: ليس ثمة تفكير بدون صور ذهنية. وفي مقدمة هذه الصور تجيء طبعا الرموز اللغوية. ولم يحاول أحد نقض هذه القضية إلا في القرن التاسع عشر، يوم أن جاءت مدرسة فورتسبورج، وذهبت إلى أن هناك ضرباً من التفكير مجرداً من تلك الصور الذهنية، كتفكير الأطفال الذي تمليه طائفة من الميول والغرائز، أو كتلك اللمحات والخواطر التي تمر بالذهن عابرة وكأنها معنى مجرد من كل كساء.

ودون أن نقف طويلا إزاء هذين الرأيين المتقابلين، نود أن نلاحظ فقط أن الحدس ليس إلا ضرباً من التفكير. وهناك ضروب أخرى ذات حلقات لا يمكن ربط بعضها ببعض إلا بواسطة الرموز اللغوية.

على أن الحدس نفسه قد يستصحب لفظاً أو ألفاظاً، ولذا قالوا إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره إن المرء يفكر في كلامه قبل أن يتكلم عن تفكيره.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالتفكير السامي أو التفكير المنطقي الذي هو سلسلة من الحكم والاستدلال لا غنى له عن اللفظ والعبارة.

والألفاظ فوق هذا هي الوسيلة لتحديد الأفكار وتميز بعضها من البعض. وإذا كانت المدلولات متنوعة، فأن اللازم أن تتنوع الدوال تبعاً لها. ولا شك في أن الأفكار متفاوتة معنى ومدلولا، عموماً وخصوصاً، جنساً ونوعاً. ولولا الألفاظ ما أمكن تقسيمها وتصنيفها، ولا تحليلها وتركيبها. وآية الفكر الدقيق تعبير دقيق يؤديه. والعبارة المحكمة تؤدي عادة إلى تفكير محكم، وبذا تنوعت العلوم، وتحددت موضوعاتها، وامتاز كل منها بمصطلحاته. وما العلم إلا لغة أحكم وضعها.

واللغة أخيراً سبيل تداول الأفكار وتبادلها، فهي التي تنقلها من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، وإلا بقيت وقفاً على أصحابها ومحبوسة في أذهانهم. وإذا كان التفكير الفردي يخضع للمجتمع ويتأثر به، فإن للغة دخلاً كبيراً في هذا الخضوع والتأثير. ومن أهم مزايا اللغة قدرتها على أداء المعاني وتيسير تبادلها، وفضل لغة على أخرى يرجع في قسط كبير إلى اتساع تداولها وكثرة المتخاطبين بها.

في وسعنا أن نقرر إذن أنه إذا كانت اللغة ثمرة للتفكير، فإنها هي أيضاً شرط أساسي لوجوده وتحققه على وجه كامل. هذه هي صلة الفكر باللغة، وهي فيما يبدو صلة تفاعل وتلازم، وقد ترتبت عليها آثار عدة، يعنينا أن نشير إلى اثنين منها فقط. أولهما أنه يمكن أن تدرس الحياة العقلية في ضوء الحياة اللغوية. فمثلاً ضعف النطق أو بطؤه يؤذن بضعف ذهني. والأطفال لا يعبرون عن أحكامهم عادة بجملة، وإنما يكتفون بكلمة أو بعض كلمة. ومن هنا نشأ علم النفس اللغوي الذي يرمي إلى تفسير بعض الظواهر النفسية في ضوء الدراسات اللغوية. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حاوله (دي شوسير) بالنسبة للغة الكبار، و (بيابجيه) بالنسبة للغة الأطفال، و (ليفي بريل) بالنسبة للجماعات البدائية. وإذا كانت الدراسات السيكولوجية قد أفادت كثيراً في الخمسين سنة الأخيرة من تقدم البيولوجيا والفسيولوجيا والباثولوجيا، فإنها استمدت أيضاً في هذه الفترة مادة لا بأس بها من الدراسات اللغوية.

وفي تاريخ الأدب ظواهر لها دلالتها السيكولوجية، فيلاحظ أن أزدهار الآداب يقترن دائماً بازدهار العلم والحياة العقلية، وأنه حين يعتدي على الحرية الفكرية ويعم الظلم والطغيان ينتشر الغموض والرمز في الألفاظ والأساليب. ولتلك الحرية الفكرية التي نعم بها الأثينيون القدامى شأن في وضوح لغتهم وصفائها.

وإذا كانت المترادفات تُعد ثروة لغوية في بعض العصور، فإنها في عصور أخرى تعتبر سرفاً لا محل له ولا داعي إليه.

ومن جهة أخرى شغلت علاقة الفكر باللغة المناطقة منذ أن وضع علم المنطق إلى اليوم. ونحن نعرف أن منطق أرسطو نبت في جو البيان والجدل السقسطائي، وكان ذا صلة بالنحو اليوناني، بل والعربي. ولأمر ما نطلق كلمة (لوجوس) اليونانية على العقل واللغة على السواء. وقد درج المناطقة منذ أرسطو على أن يعتبروا دراسة الألفاظ والقضايا مقدمة ضرورية لدراسة البرهنة والاستدلال. ولم يقنع المناطقة المحدثون بهذا، بل شاءوا أن يحصروا المعاني كلها، ويجمعوا (ألف وباء) الفكر الإنساني، ويضعوا لكل معنى رمزاً خاصاً به، وبذا تتكون اللغة العلمية العالمية.

قال بذلك (ليبنتز)، فتنبأ بالمنطق الرياضي، وسبق عصره بنحو قرنين، وأثار لأول مرة فكرة اللغة العالمية. ولا غرابة فقد كانت اللاتينية لغة العلم والعلماء لعهده. هذا إلى أنه كان عالمي النزعة إن في العلم أو في السياسة. وفي هذه اللغة المنشودة ما يقرب المسافة بين بني الإنسان، وما يحول دون أخطاء كثيرة؛ لأن الخطأ في الحكم والاستدلال كثيراً ما ينشأ عن خلاف لفظي أو غموض في التعبير؛ ويوم يتوفر لكل معنى رمز خاص به نستطيع أن نقول: لنحسب، بدل أن نقول: لنبرهن.

وقد عادت فكرة اللغة العالمية إلى الظهور مرة أخرى قوية متحفزة في أول هذا القرن؛ وكان من أكبر مناصريها رياضي وفيلسوف فرنسي بارع انتزع فجأة في الحرب الكبرى الأولى، وهو (كونورا) الذي كان يرمي إلى تهذيب الاسبرنتو وتكوين (الإبدو) تلك اللغة الدولية التي تفرض نفسها على جميع العقول وجميع الشعوب. وقد وضع في ذلك معجماً خاصاً، أخذ عنه كثيراً الأستاذ لالاند في معجمه الفلسفي المشهور.

والرياضة أقل العلوم حاجة إلى الألفاظ والتراكيب، لأنها أبعدها مدى في العموم والتجريد. فإذا ما حصرت حقائقها، واختير لكل حقيقة رمز معين أمكن تكوين لغة رياضية كاملة. وعلى غرار هذه اللغة الرياضية يمكن وضع اللغة العالمية. وقد كان كونورا فوق تخصصه في المنطق والرياضة ملماً بأطراف الدراسات اللغوية المقارنة، فأخذ يبحث عن وصول عامة يمكن أن تتخذ أساساً للغة الدولية، وحاول فعلاً أن يكوّن هذه اللغة ويعد لها نحوها الخاص.

ولم تلبث محاولته هذه أن تثير ثائرة علماء الاجتماع الفرنسيين، وعلى رأسهم دركايم. فلم يرتضوا ذلك المنطق الإنساني الذي يقود إلى لغة عالمية، وقرروا أن هناك أسرا لغوية بقدر ما هناك من مجتمعات إنسانية. وسواء أصبحت الأسس التي بني عليها كونورا مقترحه أم لم تصح، فإن فكرة اللغة الدولية قد ازدادت في ربع القرن الأخيرة قوة ووضوحا. ولعل في سرعة الاتصال العالمي اليوم ما ييسر سبلها. ويتيح لها الفرصة لتخرج من دائرة الرغبة والأمل إلى عالم الحقيقة والوجود في هذا العرض السريع ما يلقى بعض الضوء على عملنا المجمعي ومنه نستخلص دروسا نافعة. وفي مقدمتها أن الأصل في المصطلح العلمي أن يؤدي بلفظ واحد، كي يتوفر لكل معنى رمزه اللغوي الخاص به. فلنتحاش إذن الدوال المتعددة للمدلول الواحد منعا لتكرار لا داعي إليه، وربما أدى إلى شيء من اللبس. والمصطلح المجمع عليه وإن لم يؤد المعنى المراد تماما سينتهي بأن يستقر ويستحضر مدلوله كلما ذكر.

ونحن أحرص ما نكون على أن نؤدي المعنى العلمي الجديد بلفظ عربي، فإن تعذر ذلك فلا ضير في التعريب، لا سيما إذا كانت الكلمة المعربة ذات صبغة عالمية، وهذا هو المنحى العلمي في مختلف اللغات. ومن ذا الذي يذكر مذهب ليبتنز مثلا ولا يذكر معه كلمة مناد إنا نراها في اللغات الأوربية على اختلافها دون تغيير أو تبديل.

وما يقال عن الألفاظ يمكن أن يقال عن الأساليب. فإذا كانت المعاني المفردة تجدد فإن المعاني المركبة التي تعتمد على الرابطة والإسناد تتجدد أيضاً. وإذا كنا نحس بحاجة إلى ألفاظ جديدة، فأنا في حاجة أيضاً إلى أساليب جديدة. قد تصادف هذه الأساليب من الرفض والمعارضة ما تصادفه الألفاظ المبتكرة، فتستنكر حينا وترد حينا آخر. بيد أنا إذا كنا في حل من ابتكار اللفظ فلا غضاضة علينا في ابتكار الأسلوب، ما دام يلتقي مع الأوضاع العربية. والفكر، في خلقه وابتكاره، في حركته وتنوعه، يتطلب دون انقطاع من الألفاظ والأساليب ما يؤدي المعاني المختلفة والمتنوعة.

وأخيراً إنا نعيش في عصر من أخص خصائصه محاولة الاقتصاد في المجهود الجسمي والذهني وذلك لتزاحم الأعمال وضيق الوقت، وكلنا يود أن ينتج أكبر كمية ممكنة في أقصر وقت ممكن. وأنفع الحقائق ما يمكن توصيله عن ايسر السبل وأقربها. وإذا كان العلم قد اتسع صدره قديما للدراسات الطويلة والمجلدات الضخمة، فإنه يعنى اليوم بإحكام المعنى والمبنى. وإذا كان الأدب يباهى فيما مضى بالسجع والترادف والكناية والمجاز، فإنه أضحى يحرص الحرص كله على السهولة والجزالة والدقة والوضوح

هذه هي روح العصر، وتلك هي مقتضياته، ولا سبيل للخروج عليها

إبراهيم بيومي مدكور

-