انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 972/دفاع عن العباسة بنت المهدي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 972/دفاع عن العباسة بنت المهدي

مجلة الرسالة - العدد 972
دفاع عن العباسة بنت المهدي
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 02 - 1952



للأستاذ عبد الواحد باش أعيان العباسي

- 1 -

كلما كشف الكتاب والباحثون النقاب عن وجوه العصر الذهبي للدولة العباسية، وخاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد، تقودهم تتمة البحث أن يتطرقوا إلى البرامكة وأعمالهم ومآثرهم في الدولة. ثم استئصال نفوذهم والتنكيل بهم على يد الخليفة الرشيد. ولقد أضحى هؤلاء الكتاب مرغمين أن يذكروا العباسة بنت الخليفة المهدي وأخت الخليفة الرشيد كلما بحثوا في تلك النكبة وعواملها، لأن بعض كتب التاريخ العربي، ذكرت في اقتضاب، وبعضها قد أسهب في وصف العلاقة بين العباسة وجعفر البرمكي وزير الرشيد وعضده في إدارة أمور الدولة العباسية.

وتلك الروايات وإن تباينت في السرد، تتفق في هذا المعنى: وهو أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ومنادمته في مجالسه الخاصة، وكذلك ما كان يصبر عن أخته العباسة في الوقت نفسه، لذلك ابتدع أمرا فريدا، وهو أن عقد لجعفر على العباسة ليحل له النظر إليها، واشترط - عليها طبعا - أن لا يكون اجتماعهما إلا بحضرته، وأن لا يتعدى - هذا الزواج - الحديث والنظر. . . وبعد هذا كانت العباسة تحضر مجالس الرشيد مع جعفر فتقضي ساعات في هذا السمر البريء. .

ثم يستمر الرواة في تنظيم خيوط الرواية ونسجها لتظهر النتيجة المتوقعة من اجتماع شباب جميل، بفتاة رائعة الحسن وضاءة المحيا.

فقد ذكروا أن قد حدث اتصال سري (وتفنن بعض الرواة في كيفية هذا الاتصال) بين جعفر والعباسة، فأنتج (أطفالا).

ولما كانت قصور الخلفاء والملوك لا تخلو من عيون ودسائس لذلك انكشف للرشيد أمر هذه العلافة (الآثمة) بين جعفر البرمكي وأخته العباسة، فثار غيظا، وانفجر غضبه بنكبة مروعة فقتل جعفر، وحبس أباه وبقية اخوته وصادر أموالهم، واشتط في الفتك بمن كان يمدحهم، أو يقف باكيا على قبورهم، أو يومئ إلى رزيئتهم. . .

افترق المؤرخون والكتاب - قديما وحديثا - عند هذه الرواية التاريخية بين منكر لحدوثها، مشمئز من هذه الفرية الباطلة والتشنيع المدبر للحط من مروءة الرشيد وغيرته، وبين مصدق لها، وغير مستبعد أن تكون واقعة لا محالة، وقد اقتنع البعض بأنها كانت السبب الأول في نكبة البرامكة، وتساهل البعض الآخر فجعل تلك العلاقة من أسباب نكبتهم. . . وقد جاهر بهذا الرأي الأخير الدكتور أحمد أمين بك في كتاب الهلال الذي أصدره عن هارون الرشيد. فقد عدد ثلاثة أسباب للنكبة: (أولها) غيرة الرشيد من سلطانهم و (ثانيا) عطفهم على العلويين و (ثالثا) علاقة جعفر بالعباسة. ولتوطيد صحة السبب الثالث أبدى الدكتور رأيا فريدا لم يسبقه إليه باحث إذ قال:

على أنه ما يدرينا، لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته، ليستثير كره الناس ويستخرج غضبهم ومقتهم. . .

وقد استغربت مع كثيرين أن يطرح الدكتور هذا الرأي بعد أن اعترف للرشيد (بكبر العقل، وعلو الهمة، وكرم النفس. . . وحدة المزاج) فكيف يتفق من كان في هذه السجايا أن يذيع في الناس خبرا يمس عرضه ويحط من كرامة بني هاشم! وما الذي يهم سواد الناس من تلك الرواية سوى التشنيع بها على الخليفة وأهله. وإن كان ما قال الدكتور حقا فليس في الأمر حكمة أو بعد نظر من الرشيد إن يحط من شأن أخته لدعاية لا تثير نقمة، وإنما تبعث على الاشمئزاز والتندر.

ثم نظرة أخرى في أمر - هذه الدعاية - فإنها لو كانت أذيعت في الناس قبل نكبة البرامكة فما من أحد كان يستطيع أن يجهر بالكره والعداء ما دام الخليفة يظهر مودته لهم وحدبه عليهم حتى اللحظة الأخيرة.

لذلك فإننا نستبعد أن يكون لهذا الرأي صلة بالسبب الذي ظهرت تلك الرواية من أجله. ونعتقد اعتقادا جازما بأن هذا الخبر عن علاقة جعفر بالعباسة , كان فرية مغرضة، ليس لها ظل من الحقيقة ولا أساس من الواقع، ونرجح أن يكون قد أذيع قبل أيام النكبة، ومصدره آل برمك أنفسهم إن لم يكن جعفر البرمكي ذاته؛ لغرضين اثنين:

أولا - كسب عطف الناس وتمكين سلطة جعفر من نفوسهم، وليرسخ تمثال الهيبة لوزير الدولة وصهر الخليفة في القلوب

الثاني - أن تجعل الخليفة العباسي، أمام مأزق ضيق فالأمر يمس عرضه وشرف أسرته، فإن فعل ما يضر بجعفر لا يدرك الناس سببا سوى تلك العلاقة بين جعفر وأخت الخليفة عندئذ يهان الخليفة في عرضه ومروءته. وقد تحقق هذا الغرض بعد مقتل جعفر، وما زال حتى اليوم من صدق تلك الفرية الدنيئة.

وفي ثنايا كتب التاريخ ما يشير إلى أن ذلك الخبر كان فاشيا في الناس آنذاك وكان عامتهم ترجح وقوعه، فقد ذكر الجهشياري في كتابه الوزراء والكتاب في الصفحة (204)

(قال عبد الله بن يحيى بن خاقان: سألت مسرورا الكبير - في أيام المتوكل وكان قد عمر إليها ومات فيها - عن سبب قتل الرشيد لجعفر وإيقاعه بالبرامكة فقال - كأنك تريد ما يقوله العامة، فيما ادعوه من أمر المرأة وأمر المجامر التي اتخذها للبخور في الكعبة؟ فقلت له ما أردت غيره، فقال: لا والله ما لشيء من هذا أصل.! ولكنه من ملل موالينا وحسدهم)

إن صحت هذه الرواية للجهشياري - وهي كذلك - فيكون تأكيد مسرور القول الفصل في تفنيد تلك المزاعم وهدمها، لأنه كان أقرب الناس من الرشيد وأعلمهم بخفايا القصر ودسائس الحاشية المقربين! ولتحدث بها (إن كانت حقا) غير هياب ولا وجل.

- 2 -

لقد بحث بعض المؤرخين الأقدمين والمحدثين الذين تبصروا في ظروف وقعة البرامكة في العوامل الجوهرية التي دفعت بالخليفة الرشيد للقضاء عليهم وتعرضوا لخبر علاقة العباسة بجعفر فأنكرته نفوسهم، ولما لم تستسغه عقولهم أن يكون سبباً من أسباب نكبة البرامكة هدموا الخبر وأنكروا أن يكون له ظل في الواقع، كما توصل لذلك ابن خلدون - من الأقدمين - فقد لخص في مقدمته صفحة 15 رواية النكاح والاتصال أولا ثم فندها من ناحية الاعتبارات الاجتماعية والأخلاقية التي تتمتع بها العباسة عن مواليها آل برمك حيث قال: (. . وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس وليس بينها وبينه إلا أربعة رجال، هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده. والعباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السجاد بن علي أبي الخلفاء بن عبد الله ترجمان القرآن بن العباس عم النبي (ص). ابنة خليفة أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، والخلافة النبوية، وصحبة الرسول وعمومته، وإقامة الملة ونور الوحي ومهبط الملائكة، من سائر جهاتها، قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين، بعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش فأين يطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها؟ أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقد من بيتها. . (حتى يقول) وكيف يسوغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم إبائه؟)

ومن مؤرخي العصر الحديث الذين لم يقتنعوا بذلك الخبر المختلق ولم يعتبروه أساساً لنكبة البرامكة أو طرفا منها. المرحوم جورجي بك زيدان، في كتابه تاريخ التمدن الإسلامي فقد ذكر أن: (الرشيد فتك بالبرامكة لأنه خافهم على سلطانه) وهو الوجه الصحيح لتفسير سبب النكبة.

وكذلك توصل الأستاذ محمد فريد وجدي بنتيجة البحث الدقيق والتحليل المنطقي أن علاقة العباسة بجعفر البرمكي، إنما كان خبراً مختلقا للحط من كرامة الرشيد ومروءته، فقد ذكر في بحثه عن (جعفر بن يحيى البرمكي، لماذا قتله هارون الرشيد) بالعدد العاشر من مجلة الهلال التي صدرت في أول أغسطس سنة 1940؛ أن من جملة الروايات في سبب النكبة:

أولا - أن الرشيد كان له أخت تدعى (ميمونة) يحب أن تكون في مجلسه مع جعفر، فرأى أن يعقد لهما زواجا صوريا ليحل لجعفر أن يراها دون أن تكون له زوجة فبلغ الرشيد أنها ولدت منه ثلاثة أولاد وهي حبلى في الرابع، فاستشاط من ذلك غيظا، وأمر بقتل جعفر والتنكيل بأسرته.

ثم فند الأستاذ فريد وجدي هذه الرواية بلباقة ودقة تفنيداً يقرب من وجهة نظر ابن خلدون في الأمر - فقال: (ليس بمعقول، فإن الرشيد لم يصل من قلة التبصر وعدم النخوة إلى حد أن يعرض أخته لأجنبي في مجالس لهو وشرب وغناء وهما في ميعة الصبا. لو كان السبب هو هذا لما كان هنالك من حاجة إلى إحاطته بهذه الأسوار من الكتمان، بل ولعرف ولم يحصل فيه خلاف، فإن مجرد قتل ميمونة أخته وأولادها، كان يفضح الخبر إلى حد بعيد، ولما كانت تضطر (علية) أخته أن تقول - كما حكاه ابن بدرون:

(يا سيدي. . . ما رأيت لك يوم سرور تام منذ قتلت جعفر. فلأي شيء قتلته؟) فأجابها هارون بقوله: (يا حياتي لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته.) فهل كان يخفى على مثل (علية) وهي من أعظم نساء الأسرة المالكة ما حل بأختها ميمونة وأولادها؟ الناس مغرمون بسماع الغرائب وروايتها، وهذا مجال يجد فيه الخراصون مكانا رحبا لإشباع نهمتهم في الاختلاف، فأفرغوا ما في جعابهم حول هذه المسألة وأنتهبه الناس انتهابا وزادوا عليه ما شاءوا)

دحض هؤلاء المؤرخون الثقات تلك الرواية التاريخية المدسوسة عن علاقة العباسة بجعفر بقياس للعاطفة فيه نصيب وافر، وإننا نجد، بالإضافة لذلك أن في استقراء الحوادث والاستنتاج من الوقائع والروايات التاريخية ما يكشف عن بطلان تلك العلاقة ويؤيد الرأي الذي ألمعنا إليه في صدر هذا المقال بأن هذا الخبر قد خلق وأذيع لغرض مقصود.

فلو تعقبنا الخبر في صفحات كتب التاريخ القديم نصطدم لأول وهلة في اضطراب وتباين في تعيين اسم الأميرة العباسية التي كانت لها علاقة أو (زواج صوري) مع جعفر البرمكي، فبعض المؤرخين ذكر اسمها (العباسة) وغيرهم ذكر أنها (ميمونة) وهذا الاختلاف في تعيين اسم بطلة حادثة مروعة - في حينها - هزت الدولة العباسية من شرقيها إلى غربيها لا يصح أن يختلف في معرفة اسمها سواد الناس بل خاصتهم، لذلك فلا حرج أن يرتاب ذوو الرأي بصحة وقوع تلك الرواية.

ومما تزيد فينا الريبة والشك بتلك الوصمة التي ألصقت بالعباسة أن كتب التاريخ والأدب لم تتحدث عن مزايا خاصة للعباسة ترفعها مقاما عن سائر نساء القصر والأسرة المالكة لا في الرأي ولا في الأدب والشعر أو أي شيء آخر، فلم كان الخليفة يصبر عن زوجته زبيدة، أو أخته (علية) التي كانت تجيد أكثر من فن من فنون الشعر والأدب والغناء، أو عن جواريه وإمائه مثل ذات الخال ودنانير، وخاصة في ذلك المجلس الذي كان يعقده للشرب واللهو والسمر مع وزيره جعفر. فإن كان ذلك المجلس - كما ذكر - للشرب واللهو ففي جواريه وإمائه غنى عن حضور أخته العباسة، وإن كان للرأي والمشورة، فالدليل واضح بأن الرشيد قد أبعد النساء عن التدخل في أمور السياسة وشؤون الدولة.

وقد يتبادر هذا السؤال للذهن بأنه: لم كانت العباسة، ولم تكن أختها علية ضحية تلك الدسيسة؟ بلا ريب أن الخبر كان يقبر في مهده آنذاك لشهرة علية ومنزلتها، ولأن العباسة لم تتمتع بشهرة واسعة أو ميزة نادرة بين نساء القصر. فالخبر يوصم العباسة يكون أضمن انتشارا بين العامة وسواد الناس. وآخر ما نستطيع تقديمه لنقض ذلك الخبر المختلق ما ذكره البستاني في دائرة المعارف المجلد 11 صفحة 488 حيث قال: (وعاشت العباسة خمسين سنة، وتوفيت سنة 210 وقيل 209 هجرية، وصلى عليها المأمون ابن أخيها، وقيل كان سبب وفاتها، أن المأمون ضمها إليه وجعل يقبل رأسها وكان وجهها مغطى، فشرقت من ذلك وسعلت، ثم حمت أياما يسيرة وماتت.) إن صحة هذا الخبر هدم تلك الرواية التراجيدية - الخيالية - التي ابتدعها الأقدمون - لغرض خاص - وتفنن فيها كتاب العصر الحاضر فنظموا فصولا رائعة لقلبين عاشقين وحب وارف جميل، واستخرجوا هذا الخيال الجذاب بالسياسة والتناحر للسيادة والسلطة والنفوذ، وابتدعوا لها نهاية مروعة من بكاء ودماء. .

وبعد هذا كله لو صحت تلك العلاقة (الآثمة) بين العباسة وجعفر لكان الرشيد قد أوردها حتفها - كما استنتجت كتب التاريخ القديمة - ولما تركها تعيش أمام سمعه وبصره رمزا للعار والفضيحة والنكبة.

ولكن العباسة عاشت إلى ما بعد حياته، لأنها كانت عفيفة نقية طاهرة.

البصرة - عراق

عبد الواحد باش أعيان العباسي