انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 968/مسيو بتلان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 968/مسيو بتلان

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1952



بقلم الأديب عبد الغني الأنباري

مسيو بتلان بطل مسرحية فرنسية ظهرت في القرن الخامس عشر، وقد لاقت نجاحاً منقطع النظير، ولا زالت تلاقي إقبالاً عند تمثيلها. وأما مؤلفها فقد تضاربت الآراء في معرفته. ومسيو بتلان بطل مسرحية محام ولكنه يمثل الشخص الخبيث الماكر الذي يوجه ذكاءه ونشاطه لخدمة مآربه الشخصية. ويطلق الفرنسيون اسم بتلان على كل إنسان يتصف بهذه الصفة. والعرض الذي أقدمه للمسرحية هو عن اللغة الإنكليزية.

نحن الآن في فصل الأول من المسرحية حيث نرى ميسو بتلان بطلها وقد التزم داره، آنسة إنسان مغرور يظهر على سيماه الخبث والمخادعة، وهو كسول في نفس الوقت، لا يريد أن يكلف نفسه مشقة الخروج للبحث عن مورد أو دعوى يتوكل فيها. وقد أزعجت حالته هذه زوجته (جيميت) - ولعلها أخبث منه - فآلمها ما يبدو من زوجها من التراخي والكسل إذ لا يبدو عليه أي اهتمام بحلول العيد وما يتطلب من ملابس جديدة. فتأخذ في انتهاره وإيذائه بقارص الكلم وتوجه إليه لوما وتقريعاً قائلة له: ما الفائدة في أن يكون محاميا عظيماً كما يدعى، بينما هو يعجز عن تدبير المال الكافي لشراء ملابس العيد؟ وكأنها بهذا الكلام أي بوصفها إياه. . . محامياً عظيماً - قد مست فيه الوتر الحساس من نفسه المغرورة. فهتف بها أنه نعم لا تزال ذلك القانوني والمحامي ذو الاسم اللامع في عالم القضاء، وسيريها إلى أي حد سيوفق في يومه هذا.

ثم يأخذ نفسه بالحزم والشدة فيلبس ملابسه. إلى أين؟ لا يدري. وأخذ يقدح فكرة طوال الطريق. من أين يدبر المال اللازم وأين السبيل إلى ذلك؟ أين يجد ذلك المخلوق الأبله الذي يرضى أن يوكله في قضية، وهو ذلك المحامي الذي عرف بالخسة وضعه النفس فضلا عن أنه محام فاشل.

وما زال بأفكاره هذه حتى باغ السوق. وانتهى بتفكيره على أن رغبة زوجته تنحصر في الحصول على الملابس فقط. ولا يهمها إن كان محاميا عظيما أو فاشلا، كما لا يهمها مطلقا المصدر الذي يحصل به على القماش المطلوب.

إذن فالمسالة هينة إلى بعيد. هداه تفكيره إلى رأى عزم على تنفيذه، إذ كان قد وصل إلى حانوت بائع للأقمشة اسمه (جيوم جوكوم). أما جيوم هذا فقد عرف عنه أنه رجل حريص شديد البخل. فاقترب منه بتلان وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة ملؤها الثقة بخبيثة، فسلم على جيوم وحياه وأخذ يصافحه بشدة وإخلاص، متظاهر بأنه صديق مخلص له عزيز عليه. فأخذ جيوم بهذه المفاجأة ودهش إذ أن هذا السيد يدعى أنه يعرفه ويدعي أكثر من هذا أنه صديق عزيز عليه، فيبعد جيوم قليلا من حذره الذي عوده إياه بخلة الشديد وسوء ظنه بالناس، وتتفتح نفسه رويدا لهذا الإخلاص العميق الذي يبديه بتلام ولا يزال به بتلان هاتفاً هاشاً باشاً حتى يضطر جيوم إلى دعوته إلى الجلوس، فيتحدث بتلان عن الصحة والمزاج والأحوال ثم ينتقل إلى الحديث عن العائلة وعن المرحوم الوالد العزيز الذي ٍكان صديقا مخلصا له، ثم أخذ يتحدث عن علاقته بالراحل الكريم وكيف أن جيوم كان لا يزال صغيراً عندما كان هو يزورهم، ثم يزيد مؤكداً كيف أنه - أي جيوم - يشبه أباه في حركاته وفي ملامحه وفي رقة أخلاقه أيضاً. وما زال كذلك حتى يتحول الحديث فجأة إلى القماش قائلاً: ياله من قماش بديع وجميل! ولكنه في هذا لا يظهر أنه جاد في حديثه عن القماش فينتقل ثانية سائلا عن عائلة جيوم ويقول: إن وزوجتي يسرها جدا أن تزورنا بل أن تتفضل بالغذاء معنا. ولكن جيوم وقد تحركت فيه نفسية التاجر فيعود بالحديث عن القماش مطنباً ومادحا لهذا القماش الثمين فيؤيده بتلان في ذلك وإن كان قد أظهر عدم المبالاة، ومع هذا فإنه يقول أنه سيرى نفسه مضطرا أن ينزل عن عشرين جنيها ثمنا لما سيشتريه اليوم من صديقه العزيز. ثم يعود للحديث عن الوليمة التي ستقيمها زوجته لصديقه جيوم، وفي هذه الأثناء يمد يده إلى قطعة أخرى ويختبرها ويقول: كيف أن القماش الفاخر يجتذب الزبائن اجتذابا، وكيف يستولي على النقود فيسلبها من أصحابها راضين بذلك. ولكنه يقول يا للأسف لقد نسيت محفظة النقود في البيت. ولكن هذا لا يهم وإن كان الخير في ذلك، لأن جيوم سيستلم أثمان القماش عند حضوره للغداء، ويتفقان على القماش. وعندها يعاود جيوم حذره وحرصه على النقود فيطلب أن يأتي هو بالقماش معه عندما يحضر للغداء، ولكن صديقه الكريم بتلان لا يرضى بهذا العناء إذ كيف يكلف صديقه العزيز جداً يحمل ما يخصه؟ وما يزال به حتى يرضخ جيوم للأمر ممنيا نفسه بغداء دسم مع استلام النقود.

ونرى بتلان في الفصل الثاني وقد عاد إلى بيته متأبطاً القماش الفاخر فتفرح بذلك زوجته فيحدثها عن القصة وعن كيفية الحصول على القماش، ثم يطلب منها أن تتكفل بالباقي فقد جاء دورها، إذ أن جيوم سيحضر مطالباً بثمن القماش عند الغداء. وهنا يظهر خبث الزوجة فإذا هي أبرع من زوجها كأنهما شن وطبقة، فيتفقان على أن يتظاهر بتلان بالمرض وتدعي هي أنه مريض منذ أيام ولم يخرج أبداً، ويبدأن بتنفيذ الخطة فيخلع بتلان ملابسه ويستلقي على السرير. وعندها يطرق الباب فيعلمان أنه جيوم بائع الأقمشة والضيف الكريم، فتذهب جيميت إلى باب الدار وقد أخذت تسير على أطراف أصابعها متصنعة الاهتمام فتفتح الباب وتبدأ مهمتها فترحب بجيوم على أنه الطبيب وتدعوه للدخول وهي تشغله بالحديث عن المريض وكيف أنه يتألم وكيف أنه لا يدعها تذوق طعم الراحة.

فيدهش جيوم قائلاً إن بتلان كان معه قبيل نصف ساعة، وأنه اشترى منه قماشاً وأنه مدعو للغداء، فتصرخ فيه جيميت: أي قماش وأي غداء؟ هو إذن هو ليس بالطبيب المنتظر وإنما شخص غريب جاء يدعى أن زوجها المسكين قد خرج واشترى وعاد. ما هذا الهراء؟ ولكن جيوم يؤكد لها أن مسيو بتلان كان في دكانه قبل مدة وجيزة، وأنه جاء يريد ثمن القماش، فصاحت به أن يمتنع عن هذا الهذيان وعن هذا الاتهام وليلزم الصمت لكي لا يقلق راحة المريض، ثم يصلان إلى غرفة بتلان فإذا هو يتقلب على فراشه متألماً. ويحدث جيوم على اعتبار أنه الطبيب ويشكو إليه حاله وما يصيبه من الآلام، فيتوسل إليه جيوم أن يتذكره ويتوسل إليه أن يعطيه ثمن القماش، ولكن جيميت تصيح به وتدفعه بعيداً عن المريض. فيعرف أخيراً أنه وقع ضحية محتالين، فيخرج مسرعاً إلى دكانه ليتأكد من طول القماش، فيقيسه فيجد أنه حقيقة قد قطع منه بضعة أمتار، فيعود مسرعاً مرة أخرى إلى دار مسيو بتلان ويدخل مؤكداً صدق مطلبه وملحاً أن يأخذ ثمن القماش أو يستعيده. ولكن بتلان لا يجيبه إلا بالتأوهات، وعندها تعود جيميت إلى انتهازه واتهامه باقلاق راحة المريض، فيخرج جيوم متوعداً أن سيشكوهم إلى القضاء.

وفي الفصل الثالث نرى التاجر جيوم وقد خرج متوعداً، ويتفق أن يلاقي الراعي توما. أما توما هذا فإنه يشتغل راعياً لأغنام المسيو جيوم، ويعرف توما بالأبله ولكنه خبيث أيضاً وماكر، استغل أمانة سيده لأغنامه فأخذ يبيع بعضها ويتصرف بثمنها فشكاه جيوم إلى القضاء، ونرى توما الراعي قادماً إلى دار المحامي بتلان لكي يوكله عنه.

وهنا يظهر خبث المحامي بتلان على أروع صورة فيتفق مع الراعي توما أن يدعى أنه أخرس ولا يجيب على أسئلة القاضي إلا ب (آآ آ) أي مثل أصوات الغنم.

والمنظر الآن في المحكمة حيث الفصل الأخير وقد ظهر القاضي والتاجر جيوم. وعندها ينادي الحاجب الراعي توما فيتقدم هذا إلى القاضي فيسأله عن أسمه فلا يجيب إلا (آآ آ) فيمتلك جيوم الغيظ والغضب وينكر أن يكون توما الراعي أخرس. وعندها يطلب القاضي بمناداة وكيله ومحاميه فينادي الحاجب (المحامي بتلان) فيستغرب جيوم أن يكون بتلان حاضراً إذ قد تركه منذ وقت ليس بالبعيد مريضاً أو متمارضاً على الأصح. ولكنه يفاجأ بل يكاد يصعق عندما يرى الباب يفتح ويدخل مسيو بتلان، فيثور ويترك مسألة الغنم والراعي توما ويشكو بتلان إلى القاضي متهما إياه بالسرقة فيدهش القاضي؛ ولكن جيوم يقول إن المحامي بتلان محتال ومخادع وماكر كان قد أخذ منه قماشاً عند الصباح وعندما جاء ليأخذ ثمنه في البيت أنكره عليه وكان يدعى المرض بل كان مستلقياً على الفراش وأنه قد اتفق مع الراعي توما على انتهاك حرمه ماله. ثم يعود فيشكو الراعي توما إلى القاضي وكيف أنه سرق أغنامه وتصرف بها كما يشاء؛ ثم ينتقل إلى الكلام عن بتلان وما زال ينتقل من بتلان إلى توما ومن الأغنام إلى القماش حتى ضجر القاضي وطلب إليه السكوت. وهنا تظهر براعة المحامي بتلان ويظهر خبثه ومكره ويستند إلى حالة جيوم النفسية وما ظهر عليه من اضطراب ويتأسف بأن تسمع المحكمة الموقرة إلى مثل هذا المجنون الذي يخلط في كلامه ويتهم الناس الأشراف. فيحتد جيوم ويصرخ مطالباً بقماشه ومطالباً بأغنامه ويظهر اضطرابه في كلامه، فينتهره القاضي ويطلب إليه بل يأمر بإخراجه من قاعة المحكمة فقد سقطت دعواه لسخافته.

وهنا ينتصر المحامي بتلان وتبرئ المحكمة ساحة الراعي توما ويخرج الظافران. ثم يأخذ المحامي بتلان الراعي توما ناحية ويطلب إليه أن يسلمه ثمن أتعابه، فيقهقه الراعي توما ويجيبه كما أجاب القاضي مقلداً صوت الأغنام (آآ آ) فيجن بتلان من الغيظ ويحتد مزمجراً ويطلب ثمن الأتعاب فلا يجاوبه الراعي الخبيث إلا ب (آآ آ).

عبد الغني الأنباري جامعة فؤاد الأول كلية الآداب