مجلة الرسالة/العدد 966/العالم الإسلامي حقيقة واقعة
مجلة الرسالة/العدد 966/العالم الإسلامي حقيقة واقعة
للأستاذ سيد قطب
الذين يتحدثون اليوم عن (العالم الإسلامي) بوصفه كتلة ثالثة تملك أن تلعب دورا أساسيا في سياسة العالم، وتملك أن يكون لها وضع خاص متميز لا يرتبط بسياسة الكتلة الشرقية ولا بسياسة الكتلة الغربية.
هؤلاء لا يتحدثون عن مسألة تاريخية قد انقضى أوانها، ولا يتحدثون عن أمل في ضمير الغيب البعيد يتعلق به الخيال. . إنما يتحدثون عن حقيقة واقعة. حقيقة قائمة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا سبيل إلى المغالطة فيها. .
إنها حقيقة تاريخية، وحقيقة جغرافية، وحقيقة اقتصادية، وحقيقة فكرية وشعورية. . فلها كل مقومات الحقائق الواقعة التي لا تجدي في دفعها المغالطة والنكران. . .
إنها حقيقة تاريخية. . فالعالم الإسلامي كان كتلة واحدة ذات ثقل واحد في ميزان التاريخ، وميزان الاتجاه العالمي، وميزان السياسة الدولية، وميزان الأحداث الإنسانية. . ولقد ظل كذلك منذ القرن السابع إلى أوائل القرن التاسع عشر. أي حوالي ألف ومائتي عام على الرغم من كل ما حاق به من محن، وكل ما أصابه من ويلات، وكل ما دب في كيانه من تمزق. والفترة الوحيدة التي خف فيها وزن الكتلة الإسلامية هي هذه الفترة الأخيرة التي لا تتجاوز قرنا واحدا من الزمان وهي حقيقة جغرافية؛ فالكتلة الإسلامية تمتد في حدود متصلة أو شبه متصلة من مراكش إلى تونس، إلى الجزائر، إلى طرابلس، إلى وادي النيل، إلى فلسطين، إلى سوريا ولبنان، إلى شرق الأردن والعراق، إلى نجد والحجاز، إلى اليمن، إلى إيران، إلى تركيا، إلى أفغانستان، إلى باكستان، إلى أندنيسيا. وتكون حاجزا كاملا يفصل بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، بحيث يصعب تصور أي التحام بين هاتين الكتلتين لا يمر بذلك الحاجز الطويل العريض المتصل الحدود.
وهي حقيقة اقتصادية؛ فهذه الرقعة الفسيحة من الأرض تحوي من الخامات والموارد الطبيعية والإنتاجية ما يكفي لتكوين وحدة اقتصادية متكاملة، تكاد تكفي نفسها بنفسها. فإذا احتاجت إلى شيء فهي تمتلك أن تقدم نظيره، ويبقى الميزان الاقتصادي العام في صالحها. وقد برهنت الحرب العالمية الماضية على صحة هذه الحقيقة؛ حينما تعذر الاستيراد من أوربا أو أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط، وأقيم بها مركز تموين لتحقيق كفاية نفسها بنفسها. . فإذا أضيفت إلى منطقة الشرق الأوسط تلك المساحات الإسلامية من الشرق الأقصى تمت الكفاية الذاتية، وثبتت تلك الوحدة الكاملة الاقتصادية.
وهي حقيقة فكرية وشعورية؛ فهذه الكتلة المترامية الأطراف يجمع بينها رباط فكري واحد ورباط شعوري واحد. رباط العقيدة الإسلامية، والتفكير المنبعث منها، والنظام الاجتماعي المتأثر بهذه العقيدة، حتى بعد أن طغت عليها النظم الغربية، وبعد ما بعد الكثير من حكوماتها عن حكم الإسلام وتعاليم الإسلام. وما تزال هذه الكتلة تملك ذلك الرباط الواحد الذي تستمسك به جميعا
إن هذه المقومات المتعددة المتكاملة لا يجتمع مثلها لواحدة من الكتلتين الشرقية أو الغربية. فهذه أو تلك تمتلك بعض هذه المقومات، ولكنها لا تملكها مجتمعة، كما تملكها الكتلة الإسلامية، أو العالم الإسلامي. . وإذن فلا مجال للتشكيك في قوة المقومات التي تملكها هذه الكتلة، ولا في قيمتها، ولا في أنها مقومات طبيعية، غير مصطنعة ولا متكلفة. وليست ناشئة من مجرد الرغبة في تكوين كتلة ثالثة؛ وإنما هي تفرض نفسها فرضا، وتحتم قيام هذه الكتلة المستوفية لكل شروطها ومقوماتها هذه بديهية واضحة لأنها تعتمد على الواقع المشهود. . ولكن الكثيرين يحاولون التشكيك فيها بشتى الوسائل. ففريق يزعم بأن العالم اليوم ينقسم إلى كتلتين اثنتين: الشيوعية في جانب، والرأسمالية في جانب. ويزعم أن لا سبيل إلى اختيار طريق ثالث، فإما أن ننضم إلى الكتلة الشرقية أو أن ننضم إلى الكتلة الغربية. . وليس أكذب من هذا الزعم ولا أبعد منه عن الحقيقة الواقعة التي ينطق بها الواقع المجرد من وجود كتلة ثالثة لها كل مقوماتها، ولها كل إمكانياتها.
وفريق يزعم أن الكتل لا تقوم على أساس الوحدة الجغرافية، ولا الوحدة الفكرية الشعورية. . إنما تقوم على أساس النظم الاجتماعية. والنظم الاجتماعية التي يعرفها العالم هي الشيوعية في الشرق والرأسمالية في االغرب. ولا سبيل إلى الحديث عن أي نظام اجتماعي آخر. فإلا تكن الشيوعية فهي إذن الرأسمالية ولا ثالثة لهما. . وليس أبعد من الحقيقة عن هذا الزعم القائم على الجهل، وإن كان يلبس ثوب العلم! فهناك نظام اجتماعي ثالث مستقل كل الاستقلال عن النظام الرأسمالي وعن النظام الشيوعي. نظام كامل شامل، له رأيه في الحكم، ورأيه في توزيع الثروة، ورأيه في العلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبين الملاك والفلاحين، ورأيه في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الأفراد مع الدولة، وعلاقة الدولة بالدول الأخرى. . وهو يصدر في كل هذا عن فكرة مستقلة غير الفكرة الرأسمالية وغير الفكرة الشيوعية. وقد يلتقي بهذه أو بتلك في بعض الجزئيات، ولكن له في النهاية هيكله الخاص، وفلسفته الخاصة، وتنظيماته الخاصة. . وهو حين يقاس إلى الرأسمالية أو إلى الشيوعية تبدو هذه كما تبدو تلك نظما متخلفة بالقياس إلى النظام الإسلامي الاجتماعي مشحونة بالأخطاء والمظالم والتعسفات. كما تبدو أقل قدرة على التطور وعلى مسايرة نمو البشرية من النظام الإسلامي.
وفريق يزعم أن هذه الكتلة الإسلامية من الضعف اليوم بحيث لا تملك أن تصبح كتلة ثالثة تقف تجاه الكتلتين أو إحديهما. وأن العالم الإسلامي قد أدى دوره قديما ولم يعد له دور جديد. . وهذا الزعم قد يكون مفهوما حين تردده إحدى الكتلتين المتعاديتين. لأن الكتلة الغربية المستعمرة تردده لتقتل كل محاولة للتخلص من ربقة الاستعمار البغيض. والكتلة الشرقية تررده كي تفهم الشعوب الإسلامية المستعمرة أو وسيلتها الوحيدة للتخلص من الاستعمار هي الارتماء في أحضان الشيوعية، وأنه لا أمل في أن يكون لها هي نفسها كيان خاص ستقل. . هذا مفهوم. . فأما حين نردده نحن، أو حين نؤمن به، فهذا هو العجب المنافي للرغبة البشرية الطبيعية في أن يكون للمرء كيان خاص، واحترام خاص. وإن هو إلا المسخ الذي يصيب الفطرة. وما يقول بهذا إلا الممسوخون الذين حولتهم دعاية هذه الكتلة أو تلك إلى فئات آدمي وحطام! إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وإن كانت هذه الحقيقة قد خف وزنها فترة من الزمن، أصاب الكتلة الإسلامية فيها ما أصابها من الوهن والضعف، حتى وقعت في قبضة الاستعمار. . فإن كل الدلائل تشير اليوم إلى أن هذه الفترة قد انقضت، وأن البعث قد آن أوانه، وأن القوة الكامنة في هذه العقيدة ما تزال تعمل؛ وأن هذه القوة لم تمت ولم تنطفئ، ولكنها كانت تجتاز فترة تكون وتجمع. وقد اجتازتها الآن. .
لقد انبعثت دول إسلامية جديدة، ولقد نهضت أمم إسلامية وشعوب. ولقد انبعثت الشعلة المقدسة تضيء من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه. ولقد تناءت شعوب العالم الإسلامي كله كتلة واحدة، وراحت تتجمع تحت راية واحدة. . الراية التي أظلتهم أول مرة، فاندفعوا تحتها إلى أقطار الأرض جميعا. .
ولقد خفتت أو كادت تلك الأصوات المنكرة التي كانت تدعو إلى القومية الهزيلة الضيقة وراء الحدود الصغيرة المصطنهة. وتبين للغالبية الساحقة أن القومية الإسلامية هي القومية الحقيقية التي تجمع بين هذه الشعوب. وإن حدود الوطن الإسلامي هي الحدود الحقيقية، وما عداها كله فخاخ وضعها الاستعمار ليقع فيها الغافلون والمغرضون. ثم يتفرق الوطن الإسلامي إلى دويلات صغيرة ضئيلة عاجزة. تحت عنوانات القوميات! ثم لا يفيد من هذا أحد كما يفيد المستعمرون الذين واجهوا العالم الإسلامي وما يزالون يواجهونه بروح صليبية وبسياسة صليبية، يتابعهم فيها أعداء هذا العالم الإسلامي في الشرق والغرب سواء.
إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة. وما عاد يجدي أحد أن يقف في طريق بروزها بعد اليوم. والكتلة الثالثة ضرورة إنسانية لتحقيق غرضين أساسيين من أغراض البشرية في هذا الطور من التاريخ:
الغرض الأول:
هو تحقيق استقلال جميع الشعوب المستعمرة، والقضاء على الظل الاستعماري البغيض في الأرض. فلقد استطاع الاستعمار أن يتصيد الشعوب الإسلامية واحدا واحدا، حينما تمزقت وحدتها الكبرى، وضعفت عن حماية أنفسها فرادى. فإذا ارتدت اليوم إلى نوع من الوحدة في صورة تكتل ذي كيان جغرافي واقتصادي واجتماعي. . ثم عسكري أمكن أن تصمد للاستعمار، وان تتخلص من براثنه، دون أن ترتمي في أحضان الشيوعية. . وإن كان هذا لا ينبغي ان تمد يدها إلى الكتلة الشرقية من الناحية السياسية لا الناحية الاجتماعية، فيما تتفق فيه مصالحهما. ومصالحهما تتفق عند مكافحة الاستعمار. وفي هذا المجال تستطيعالكتلتان الشيوعية والإسلامية أن تؤديا دورا مشتركا في هذا المجال وحده. وفيه الكفاية والخلاص من الاستعمار
الغرض الثاني:
هو تجنب البشرية ويلات حرب ثالثة - أو على الأقل تأخيرها إلى أطول أمد ممكن.
فالكتلتان المتعاديتان اليوم إنما تتنازعان على ارض الكتلة الثالثة وخاماتها ومواردها. والذين يقولون على إحدى الكتلتين: إنها مجموعة من الملائكة ذوات الأجنحة البيض التي لا تبغي في الأرض إلا السلام البريء، بلا مصلحة ولا غاية، إلا غايات القديسين والملائكة الأبرار. . إنما يحتقرون عقولهم أو عقول الناس. وإنما يقولون كلاما سخيفا لا يصدقه حتى الأطفال. . وحين تبرز إلى الوجود كتلة العالم الإسلامي. ستفكر كل من الكتلتين مرتين قبل الإقدام على الحرب. لأن أرض الكتلة الثالثة ومواردها لمن تكون يومئذ صيدا رخيصا سهلا. يسيل له لعاب الشرقيين أو الغربيين. فضلا عن أن هذه الكتلة الثالثة تملك إيجاد التوازن بين القوتين، وتملك أن تهدد الفئة الباغية بأنها ستكون ضدها. ولن تقدم على الحرب كتلة تقف لها كتلة العالم الإسلامي بالمرصاد، وتنضم إلى خصومها فترجح الكفة ترجيحا لا شك فيه.
وبعد فأحب أن أقرر في نهاية الأمر أن الحديث اليوم عن الكتلة الثالثة ليس دعوة لقيامها. ولكنه تقريرا لوجودها. وجودها الذي لن يملك أحد ولا قوة أن تعدمه. لأن طبائع الأشياء، وتطورات التاريخ، وضرورات الإنسانية. . كلها تدعو إليه وتنادي به. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون
سيد قطب