مجلة الرسالة/العدد 966/الرسالة والدعوة
مجلة الرسالة/العدد 966/الرسالة والدعوة
تستقبل الرسالة بهذا العدد عامها العشرين وهي تحمد الله على أن فسح لها العمر حتى رأت أكثر ما دعت إليه يتحقق رأت الوحدة بين أمم العرب في الشعور والهوى والرأي والأمل والغرض قد تمت بفضل الصحافة والثقافة والأدب. فهم يتآلفون في القرب، ويتعاطفون في البعد، ويتناصفون في الخلاف، ويتحالفون في الكريهة، ويشد بعضهم بعضا في مجاهدة العادي ومجالدة الباغي. والوحدة بين دولهم توشك أن تبلغ التمام ولولا ما يعوقها الحين بعد الحين من وساوس يلقيها شيطان خادع من الإنجليز، في صدر إنسان مخدوع من العرب! ووسوسة الشيطان، لا تبقى مع الإيمان. وإيمان العرب بربهم وبأنفسهم قواه الوعي حتى غلب على إيمانهم بأصنام السياسة وطواغيت الحكم. فهيهات بعد اليوم أن يستكينوا لزعيم منّهم، أو يستنيموا لخصيم مخاتل!
ثم رأت الرسالة فيما رأت تباشير الجامعة الإسلامية تلوح في أفق باكستان. ولن تلبث هذه التباشير أن تسفر في آفاق الشرق المحمدي كله، فيتصل نور بنور، ويمتزج شعور بشعور، وتتحد قوة بقوة. ولباكستان إذا تكلمت العربية خطر خطير في مستقبل الأمة الإسلامية. إنها قبلة رجاء الإسلام كما أن مصر قبلة رجاء العروبة. وهي للمسلمين خير العوض من تركية الذاهبة!
وأجمل ما رأته الرسالة في سنواتها القريبة انبعاث الإسلام الصحيح الخالص في قلوب المثقفين من أهله. كان الإسلام منذ ضعف في العالمين سلطانه، واستعجم على أشباه المسلمين قرآنه، قد أصبح رسما محيلا في قلوب بعض، وصورة شوهاء في أذهان بعض. فالخاصة قنعوا بمظهره، ثم جعلوا شرعهم غير شرعه، ودستورهم غير دستوره، وقبلتهم غير قبلته. والعامة عبثوا بجوهره، فقبلوه صوفية حمقاء خرقاء لا صلة بين شعوذتها وعباداته، ولا نسبة بين سلبيتها ومعاملاته
وكانت (الرسالة) منذ حملت أمانة الدعوة إلى السبيل التي عناها الرسول الأعظم بقوله: (تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) ما فتئت تذكر المسلمين بأنهم الأمة الوسط التي نزهها الله عن مادية اليهود وصوفية الهنود ورهبانية النصارى، (وأن دينهم مصحف وسيف، وشرعهم دين ودنيا، وتاريخهم فتح وحضارة، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة، وحياتهم عمل وعبادة) حتى أراد الله لدينه أن يستبين ولطريقه أن يتضح ولحبله أن ييتجدد، فتألفت (الإخوان المسلمون) على موثق الدعوة الكبرى، وأخذوا يدعون إلى الله على بصيرة. في أيمانهم المصحف للعقل، وفي شمائلهم السيف للهوى؛ ويحاولون أن يبعثوا في الهيكل الواهن المنحل وروح الإسلام الفتية القوية التي نقلت البدو الجفاة الحفاة من بوادي الجزيرة رعاة غنم، إلى حواضر الدنيا قادة أمم
فالإخوان المسلمون الذين يسمون أنفسهم رهبان الليل وفرسان النهار، هم وحدهم الذين يمثلون في هذا المجتمع الممسوخ عقيدة الإسلام الخالص، وعقيلة المسلم الحق
إنهم لا يفهمون الدين على أنه صومعة منعزلة، ولا الدنيا على أنها سوق منفصلة؛ وإنما يفهمون أن المسجد منارة السوق، وأن السوق عمارة المسجد. وكيف تفترق الروح عن الجسد إلا في الموت، وينقطه الهادي عن الركب إلا في الضلال، وينفصل الدين عن الدنيا إلا في الكفر؟ لذلك كان للإخوان المسلمين في الإرشاد لسان، وفي الاقتصاد يد، وفي الجهاد سلاح، وفي السياسة رأي وهم لا يؤمنون بالحدود السياسية والجغرافية في وطن الإسلام الأكبر! إنما يبسطون تآخيهم على كل رقعة من الأرض يذكر فيها أسم الله. فلهم في كل بلد من البلاد العربية أتباع، وفي كل قطر من الأقطار الإسلامية أشياع.
وبفضل هذه الروح القدسية المحمدية التي بثها الإخوان في العالم الإسلامي بالدعاية والقدوة، دبت فيه الحرارة، وغلا به النشاط، واستولى عليه القلق، وعصفت به الحمية؛ فهو يثور على المستعمر، ويتمرد على المستبد، ويتنكر للمفسد. وما يقظة الوعي العام في مصر والسودان، وفي العراق وسورية وفي اليمن والحجاز، وفي الجزائر ومراكش، إلا شعاع من هذه الروح سيكون له بعد حين نبأ!
أما الجماعات الدينية أو الصوفية التي لا تفهم من الإسلام إلا أنه أوراد تتلى، وأذكار تقام، ولحى تعفى، وشوارب تخفى، وعذبات ترسل، فهي من الشوائب المخدرة السامة التي علقت بالإسلام حين صده الجهل والضعف عن سبيله، فتراجع فيضه وسكن تياره. والماء إذا ركد تأسن وفشت فيه الجراثيم. ودعوة الإخوان عسية أن تزيل حواجز الباطل من وجه التيار، وأن تنقى مشارع الحق من هذه الأكدار
كذلك رأت الرسالة في عامها المنصرم مظهرا من مظاهر الوعي الإسلامي تجلى في ثلاثة أحداث جسام روعّت الساسة وفزعّت الجيوش وشغلت المجالس: تأميم البترول في إيران، وإلغاء المعاهدة في مصر، وقيام الدولة العربية الثامنة في ليبيا! شيء جديد في حياة العرب والمسلمين لم يكن لهم به في التاريخ الحديث عهد!
من كان يظن أن إيران تصفع قذال الأسد، وأن مصر تبصق في وجهه، وهما الدولتان اللتان خضعتا طويلا لنفوذه خضوع العبد الوليه، أو القاصر لوصيه؟ لقد مزقت الدولتان عرض (جون بول) يوم مزق (مصدق) عقد الاستغلال، ومزق (النحاس) عهد الاحتلال. ولم يمزقهما الرجلان بقوة الجيش وسلاحه، وإنما مزقاهما بإرادة الشعب وكفاحه! إنه الروح الذي أرهب الموت! وإنه الوعي الذي أذهب الغفلة!
هذه بسمة الأمل في أول العام عبرت عنها بهذه الكلمة شكر الله على تحقيقه، وطلبا للمزيد من عونه وتوفيقه
أحمد حسن الزيات