انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 964/الثورة المصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 964/الثورة المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 12 - 1951


9 - الثورة المصرية 1919

للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

وحشية الإنجليز:

فقد الإنجليز كل معنى من معاني الإنسانية وانقلبوا وحوشا آدمية يسفكون الدماء بغير مبرر ويهاجمون العزل الأبرياء لغير ما سبب. وليس هذا بجديد عليهم فتاريخهم الطويل يشهد بأنهم أمة من السفاحين والقراصنة. وإني أحدثك أيها الأخ الكريم اليوم عن فظائع الإنجليز في مصر قديما وحديثا.

من 29 نوفمبر - 6 ديسمبر 1951:

أستيقظ سكان بور سعيد في الساعة السادسة صباحا من يوم 29 نوفمبر 1951 على أزيز الرصاص يتجاوب في أنحاء مدينتهم فقد انطلقت سيارتان بريطانيتان خرجتا من باب الجمرك وراحتا تطلقان النار على كل من تصادفه في الطريق. ومرت السيارتان بمبنى قسم أول وأخذ جنودهما يطلقون الرصاص على القسم وجنود البوليس وأستشهد جنديان ومات بعض المدنيين. وكان طبيعيا أن يرد البوليس المصري العدوان بمثله. حدث هذا في الوقت الذي كان يسعى فيه المسئولون المصريون والإنجليز في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس إلى العمل على وقف حوادث العدوان المتبادل بين المصريين والإنجليز، والذي ذكر فيه أن الجنرال أرسكين قائد القوات البريطانية في منطقة القنال قد أصدر أوامره باعتبار (بور سعيد والإسماعيلية والسويس) من المناطق المحرمة على الجنود البريطانيين.

وقد أتفق المسئولون المصريون والإنجليز في هذا التاريخ على جلاء الجنود البريطانيين عن المدن الثلاث وترك شئون الأمن فيها لرجال البوليس المصري فهدأت الحالة نوعا ما في الإسماعيلية. ولكن متى كان للإنجليز وعد؟ لقد حنثوا بوعدهم في نفس اليوم وبلغ بهم التجرد من الإنسانية أن انتهكوا حرمة الموتى وعبثوا بجثة ميت كانت منقولة من القاهرة إلى السويس وراحت قواتهم تجوب السويس بصورة استفزازية.

وفي يوم الاثنين 4 ديسمبر 1951 روعت السويس بحرب إجرامية بشعة شنها عليها الإنجليز السفاكون استشهد فيها عشرون من المواطنين الأبرياء وبلغ عدد جرحاها ثمان وستين جريحا، وقضت السويس يومها من الحادية عشرة صباحا إلى التاسعة مساء وكأنها ميدان حرب لا تسمع فيه إلا طلقات المدافع والبنادق وأزيز الطائرات!

وفي يوم الثلاثاء 4 ديسمبر أصبحت السويس المجاهدة وفي أرجائها صمت رهيب يتوج جلال حدادها على شهدائها الأبرار، بتشييع جنازات الشهداءَ في أربعة مواكب وطنية رائعة سارت فيها جميع طبقات الشعب ومختلف الهيئات وقد قدر عدد المشيعين بنحو 15 ألفا

ولكن الإنجليز ارتكبوا أشنع العدوان في هذا اليوم أيضا، فلم يكفهم ما أراقوا من دماء في اليوم السابع بل زادوا إثمهم إثما وعدوانهم وحشية وفظاعة: فقد خرج الأهلون يشيعون جنازة أحد الشهداء قبل نقلها إلى الزقازيق وكانت بعض الطائرات الاستكشافية البريطانية تحلق في السماء فأبلغت القيادة البريطانية الأمر على أنه زحف شعبي على المعسكرات فخرجت قوة من ثلاث دبابات وأربع مصفحات وبضع سيارات مسلحة أخرى وأخذ جنودها يطلقون النار على المشيعين والأهلين ورجال البوليس والدور القريبة. وسقط في هذه المجزرة 14 شهيدا وجرح ثلاثون. وقد ثبت أن الإنجليز يستخدمون رصاصا من طراز (الدمدم) الشديد الفتك

وفي يوم الأربعاء شيعت السويس شهداء المجزرة الثانية واشتركت جميع هيئات الشعب في الجنازة وكان يتقدمها محافظ المدينة.

وقد رفضت السلطات البريطانية الترخيص بنقل جثث الشهداء من غير أبناء السويس إلى بلادهم.

وبرغم هذا لم يكف المعتدون عن عدوانهم فأطلقوا في الجو أسرابا من الطائرات الاستكشافية والنفاثة ذات الأزيز المفزع وسيروا قافلة كبيرة من الدبابات والمدرعات واللوريات لمحاصرة المدينة.

وقد دفع جمود الحكومة المصرية إزاء هذه الحوادث المحزنة الطلاب إلى القيام بمظاهرات في القاهرة والإسكندرية والجيزة احتجاجا على هذا العدوان الغاشم. وقد قررت الوزارة تعطيل الدراسة بتلك المدارس. ونحن نحب أن يخلد الطلاب إلى الهدوء حتى تتمكن الحكومة من مواجهة الموقف ولكنا نقول لرجال الحكومة: تحركوا وإلا فسينفجر غضب الشعب. إن المصريين لا يطيقون صبرا أن يروا دماء مواطنيهم تسفك دون أن يحركوا ساكنا.

ويعزينا بعض العزاء أن أبطالنا من المقيمين بمدن القنال والفدائيين قد أخذوا بثأر قتلانا فقتلوا من الأعداء 42 اثنين وأربعين قتيلا وجرحوا 67، وأن شهداءنا في الجنة وقتلاهم في النار.

أيها الإنجليز:

أعلموا أن مصر أقوى منكم وأن قواتكم مهما بلغت عددا ومهما جلبتم لها من عدة وعتاد لن تقهر مصر لأن مصر مؤمنة بحقها في الحياة الكريمة الحرة، ولن تخضع لقوتكم وجبروتكم ومهما بغيتم فمصر صامدة وهي منتصرة بإذن الله.

فظائع 1919:

في 8 مارس 1919 بدأت ثورة مصر باعتقال زعمائها ونفيهم خارجها فهبت مصر من أقصاها إلى أقصاها تطالب بحريتها واستقلالها وعودة زعمائها، وقامت المظاهرات في كل قرية ومدينة ثم خرب الشعب طرق المواصلات فقطع خطوط السكك الحديدية وأسلاك البرق والتليفون ومنذ البداية لجأ الإنجليز إلى القوة الغاشمة وإلى سفك دم الأبرياء المطالبين بحريتهم.

وفي 21 مارس 1919 عين المارشال اللنبي قائد عام الجيوش البريطانية في مصر إذ ذاك مندوبا ساميا فوق العادة ومنح السلطة العليا في جميع الأمور المدنية والعسكرية، وفي اتخاذ ما يراه من الإجراءات لإعادة النظام والأمن إلى البلاد مع تثبيت الحماية.

ولما وصل اللنبي إلى القاهرة جمع الأعيان والوزراء وأوضح لهم مهمته وهي تنحصر على حد قوله في وضع نهاية للاضطرابات القائمة وإزالة أسباب الشكوى وطالبهم بمساعدته على أداء مهمته.

وطبقا لهذه الخطة أذاع العلماء والوزراء والأعيان نداء إلى الأمة المصرية في 24 مارس دعوا فيه الشعب إلى التزام الهدوءَ والإخلاد إلى السكينة، ولكن المصريين لم يخدعهم ما قاله اللنبي ولم يؤثر فيهم النداء واستمروا في كفاحهم.

وحدث أن ألقى اللورد كرزون وزير خارجية بريطانيا إذ ذاك أجوبة عن أسئلة وجهت إليه في مجلس العموم بشأن الحالة في مصر فقال إن الحالة أقل خطورة من ذي قبل، وأطرى موظفي الحكومة المصرية ورجال البوليس والجيش لإخلادهم إلى السكينة وحسن سلوكهم. وأستنتج من سلوكهم أن صفوة المتعلمين والعقلاء في مصر ليسوا في صف الحركة الوطنية. وإزاء هذا التصريح أحرج الموظفون واضطروا وقد طعنوا في وطنيتهم إلى تقديم احتجاج على تصريحات كرزون وقرروا الإضراب عن عملهم ثلاثة أيام وقدموا عرائض الاحتجاج إلى السلطان وإلى معتمدي الدول الأجنبية ونفذوا قرارهم.

وقد ظلت الاضطرابات قائمة، وحاولت السلطة العسكرية إصلاح الخطوط الحديدية. ولما أصلح الخط الحديدي الرئيسي بين القاهرة والإسكندرية وقنال السويس حرم السفر إلا بترخيص من السلطة العسكرية.

وقد نزل الجنود البريطانيون في مختلف أنحاء القطر سواء لإصلاح الخطوط الحديدية، أو القضاء على الاضطرابات، أو للمحافظة على النظام، فارتكبوا فظائع تقشعر منها الأبدان وتنبو عنها النفوس.

العزيزية والبدر شين:

قريتان من قرى مديرية الجيزة كانتا تنعمان بالراحة والسكون. وفي الهزيع الأخير من ليل 25 مارس أو حوالي الساعة الرابعة من صباح ذلك اليوم انقض نحو مائتي جندي إنجليزي على القريتين وأحاطوا بهما وقصدت شرزمتان صغيرتان منهم منزلي كل من عمدتي القريتين شاهرين أسلحتهم وطلبوا من العمدتين تسليم ما لديهما من سلاح، فسلم أحدهما مسدسا كان عنده، وأما الثاني فلم يكن لديه سلاح. ومع هذا انقض العساكر داخل المنزلين واقتحموا غرف النساء غير مبالين بما في هذا العمل من خروج على الآداب والأخلاق، واضطر النساء إلى الاختفاء تحت الأسرة. ولم ينس القراصنة الاستيلاء على ما وجد من مال وحلي، بل إنهم زادوا فجذبوا النساء من شعورهن وانتزعوا حليهن. وبلغت بهم القسوة أن أحدهم مزق أذن سيدة وهو يسلب قرطها.

وبعد تفتيش داري العمدتين أنتقل الجنود إلى دور مشايخ البلدتين وقاموا بالتفتيش وبالسلب والنهب المعتادين، ثم أعلن الضباط بعد ذلك أنهم سيضرمون النار في البلدتين (وأنه مسموح لكل امرئ أن يأخذ ما في داره من مال وحلي قبل مغادرته) وبعد قليل أشعلوا النار في القريتين وساعد على اشتعال النار ما كان على سطوح المنازل من قش وحطب، وخرج الأهالي المروعون من قريتهم الآمنة لتتلقاهم قوات القراصنة (الأشراف) ولتسلبهم ما حملوا من مال وحلي. ولم يأخذهم حياء في تفتيش ملابس النساء وأجسامهن!

وكان نصيب من حاول إخماد الحريق أن يصاب برصاصة ترديه قتيلا، وقد احترقت المواشي حية في مرابطها.

وعند الصباح أنصرف الجند عن القريتين وقد أصبحتا قاعا صفصفا، وقبض على العمدتين وسيقا إلى الحوامدية؛ وكانت التهمة التي وجهت إلى العمدتين وقريتهما الاعتداء على أحد الضباط البريطانيين وإتلاف محطتي الحوامدية والبدرشين. ورغم براءة العمدتين والقريتين فقد عوقبت القريتان بتخريبهما وحوكم العمدتان.

وقد أحرق الجنود في نفس اليوم وبنفس الطريقة قرية الشبانات مركز الزقازيق بعد نهبها.

ونزلة الشوبك:

في 30 مارس 1919 أرسل مركز العياط إشارة إلى عمدة نزلة الشوبك بإحضار العمال اللازمين لإصلاح الخط الحديدي. وفي الساعة الرابعة بعد الظهر وصل قطار حربي ووقف قرب القرية المذكورة ونزل منه الجنود وأرادوا دخول القرية فنصحهم العمدة بالعودة وأخبرهم أنه جلب العمال اللازمين ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ودخلوا القرية وأخذوا ينهبون ما يصل إلى أيديهم من مال وذهب بل وطير ودواجن ولم يتعرض لهم أحد.

ورأوا إحدى نساء القرية فأسرعوا إليها وراودوها عن نفسها، فاستغاثت بزوجها الذي أسرع إلى نجدتها، ونزلت هراوته على رأس الجندي الذي كان ممسكا بزوجته فصرعه؛ ولكن رصاصة جندي آخر أردته قتيلا. وقامت معركة بين قوم عزل يدافعون عن أعراضهم وبين قوم نسوا كافة الفضائل وتجردوا من صفات الإنسانية. أنطلق الجند يهاجمون القرية ويقتلون من يصادفهم بلا تمييز وينهبون ما يجدون ثم يشعلون النار في المنازل.

وكان القطار الحربي بعيدا عن القرية فرجع القهقري حتى حاراها وصب عليها وابلا من رصاص مدافعه الرشاشة، واستمر إطلاق النيران طول الليل، واختبأ العمدة في داره ولكن الإنجليز أخرجوه في صباح اليوم التالي ونهبوا داره وأحرقوها وساقوه إلى السجن.

وقد أرتكب الإنجليز فظاعة وإنما لا يتصوره عقل، فعلاوة على ما سبق قبضوا على أحد مشايخ القرية ومعه أربعة من الأهالي ودفنوهم حتى أنصاف أجسامهم، ثم شوهوا وجوههم بوخزات الحراب، وبعد ذلك أطلقوا عليهم الرصاص فأراحوهم من هذا العذاب.

أرأيت وحشية وفظاعة أكثر من هذا؟ إن أحط أنواع البشر لا يمكن أن يصل في وحشيته إلى هذا الدرك، وإن مجازر الإسماعيلية وبور سعيد والسويس لسلسلة متممة لحوادث العزيزية والبدرشين ونزلة الشوبك؛ ولكن مهلا وصبرا فإن نهاية هؤلاء الطغاة قريبة إن شاء الله.

أبو الفتوح عطية