انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 961/المجد العلمي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 961/المجد العلمي

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 12 - 1951



كلمة حضرة صاحب المعالي الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف في الاحتفال الذي أقيم يوم الخميس 22 نوفمبر سنة 1951 بوزارة المعارف، لمنح الدكتوراه الفخرية في القانون لزعيم إيران الدكتور محمد مصدق من جامعة فؤاد الأول.

سيدي صاحب الدولة الرئيس

يسعدني أن أستقبلك في هذا المكان باسم جامعة فؤاد الأول ويسعدني أن أستقبلك عضوا في جامعتنا، فقد شرفت جامعتنا بانضمامك إليها. لأنك خليق أن تشرف كل هيئة تنضم إليها لأشياء كثيرة.

أولها أنك تمثل الشعب الإيراني العظيم، وللشعب الإيراني العظيم مكانته الممتازة بين الشعوب، فهو من هذه الشعوب القليلة جدا التي استطاعت أن تقهر الزمان وأن تقهر التاريخ. كان لها حظها من تشييد الحضارة حتى بلغت من ذلك أرفع درجات المجد. ثم كان لها حظها من مقاومة الخطوب حتى أصبحت مثلا يضرب للشعوب الحديثة. اختلفت عليها الخطوب الخطيرة الشديدة، وتعاقبت عليها المحن المهلكة المضنية، ولكنها صبرت وصابرت، وثبتت وقاومت وانتصرت آخر الأمر على كل خطب، وتغلبت آخر الأمر على كل صعوبة. وذلك آخر الأمر كل عقبة، واستردت سيادتها في قوة وعظمة ومجد خليقة بالفخر والإكبار.

هذه الشعوب التي قاومت وانتصرت وقهرت التاريخ قليلة؛ أذكر منها شعبك العظيم، وأذكر منها شعبنا هذا المصري الذي تشرفه بزيارتك في وقت من أشد أوقاته خطورة وصعوبة. فلو لم يكن بين شعبك وشعبنا إلا هذه الخصلة خصلة الصبر والاحتمال والمقاومة والظفر والانتصار آخر الأمر، لكنت خليقا أن تشرفنا بانضمامك إلى أسرتنا. ثم إنك تمثل هذا الشعب الإيراني العظيم الذي شارك بأعظم قسط ممكن في تشييد الحضارة حتى حار المؤرخون أي الشعبيين أعظم خطرا في تكوين هذه الحضارة. . أهو الشعب العربي الذي أهدي إلى العالم لغته العربية، وبشر العالم بالدين الإسلامي الحنيف؟ أم هو الشعب الإيراني الذي تلقى هذه الهدية فتقبلها راضيا مسرورا، ونماها مجاهدا في سبيل تنميتها والدفاع عنها، حتى كان هذان الشعبان العظيمان صاحبي الفضل الأول في تأسيس هذه الحضارة وبناء مجدها. فلو لم يكن لشعبك إلا هذا الفضل؛ فضل المشاركة الخطيرة في تشييد الحضارة الإسلامية وخدمة اللغة العربية ونشر هذه الحضارة والغة، لكان ممثله خليقا أن ينضم إلينا في أسرتنا الجامعية فيضيف إلينا شرفا ومجدا. ثم إن انضمامك إلينا يشرفنا لأن شخصك خليق أن يشرف كل من ينضم إليه، يمثل الجهاد في أروع صوره وأقوى مظاهره، يمثل الجهاد في سبيل مجد الوطن، وفي سبيل حريته واستكمال سيادته، ويمثل جهاد النفس في سبيل التغلب على المصاعب، وقهر المشقات، وتذليل العقبات، وتيسير ما لم يكن سبيل إلى تيسيره لولا هذه الإرادة القوية التي تستمد من إرادة الشعب الإيراني، والتي لا تعرف قهرا ولا خضوعا للخطوب. إنك يا سيدي الرئيس قد تعلمت في إيران ثم سافرت إلى أوربا فدرست في فرنسا، ثم عدت إلى إيران، ثم سافرت إلى أوروبا فتخرجت في سويسرا، ثم عدت إلى إيران، وفي كل هذه الرحلات كنت تقاوم الأعباء والجهد، وكنت تقاوم مصاعب الحياة. ثم إنك لم تطمئن إلى ما حصلت من علم، ولم تقنع بما أدركت من مجد، ولكنك تركت العمل الرسمي لاستئناف الدرس في بعض أوقات الشباب. ثم لم يكفك هذا كله ولكنك أبيت إلا أن تكون صورة ناطقة لشعب حر، فقاومت البغي والطغيان، وأبيت أن تذعن للاستبداد مهما يكن مظهره ومهما تكن صورته. واحتملت في ذلك آلام النفي كما احتملت في ذلك آلام السجن كما احتملت في ذلك العزلة القاسية المضنية. والشعب في أثناء ذلك ينظر إليك، محبا لك عطوفا عليك، مكبرا لجهادك ومقاومتك. وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، وها أنت هذا الآن وقد ارتقيت إلى أرفع منصب من مناصب وطنك، تنطق باسم الوطن وترفع صوته عاليا يملأ الدنيا بكلمة واحدة هي التي تشرف بها الشعوب الحرة الأبية، وهي التي تفرض على الدنيا احترام هذه الشعوب الحرة الأبية، وهذه الكلمة هي كلمة (لا). قلتها للقوة الضخمة التي لم تتعود أن نسمع هذه الكلمة. . قلتها وأصررت عليها واضطرت القوة الضخمة لأن تسمع لها إذعانا. فنصرت شعبك الذي تعود النصر وأضفت إلى صفحاته الخالدة صفحة جديدة. فمن الحق أن نشرف بان نضمك إلى أسرتنا الجامعية من اجل هذا كله.

ولكننا قوم لا نتأثر بالمجد السياسي وحده، نحبه ونكبره ولكنا نحب قبل كل شيء شيئاً آخر هو هذا المجد العلمي. وأنت يا سيدي الرئيس عالم قبل أن تكون سياسياً. درست السياسة والفقه والحديث في أوربا، ودرست العلوم الحديثة المختلفة في وطنك، ولم تضع عزلتك ولا عملك في السياسة وحدها؛ ولكنك شاركت في العلم على اختلافه. . شاركت في العلم القديم وشاركت في العلم الحديث. الست قد الفت في اللغة الفرنسية كتابا عن الوصية على مذهب الشيعة؟ فقد الفت أذن كتابا في الفقه الإسلامي القديم. ثم انك قد الفت في الفقه الدستوري المقارن؛ قارنت بين الفقه الدستوري العربي في أوربا وبين الفقه الدستوري الحديث في إيران. ثم الفت في الفقه العالي فقارنت بين التشريع العالي الحديث في أوربا وبين التشريع العالي في إيران، ثم شاركت في الفقه القانوني عامة فالفت في تبعات الموظفين أثناء تأدية وظائفهم، والفت في الشركات المساهمة، والفت في مبدأ تسليم المجرمين السياسيين فأنت فقيه قديم، وأنت فقيه مدني، وأنت فقيه سياسي أداري. فإذا جمع شخص من الأشخاص علم الفقه على اختلاف عصوره ومعانيه ومذاهبه وأنواعه إلى هذا الجهد السياسي الضخم والى هذه المقاومة السياسية الهائلة. . . كانت جامعة فؤاد الأول التي أنشأها فؤاد العظيم لتضرب ارفع المثل لأبناء مصر فيما يرفع الحضارة ويعلي شأنها، وينشر الأخلاق ويحبها إلى الشعوب، ويجيب إلى الشباب البحث العلمي، كانت هذه الجامعة خليقة أن تشرف بضمك إليها. . . سعيدة بان تعدك اليوم أحد أعضاء أسرتها.

طه حسين