مجلة الرسالة/العدد 96/بنك مصر
مجلة الرسالة/العدد 96/بنك مصر
غداَ في الساعة الخامسة يبدأ الاحتفال القومي بمرور خمسة عشر عاما على مولد بنك مصر. والاحتفال بعيد هذا البنك النامي الخصيب احتفال بالنصر المؤزر في جهاد الأمة لاستقلالها الحق؛ فإن مصر منذ انحسر عن الأرض ذلك الطوفان الدموي الذي غمرها أربع سنين، هبت تقرر في الدول وجودها الطبيعي الحر، فما صغت لها إذن، ولا نهضت بحجتها عدالة. ذلك لأن أوربا الجائعة المجهودة تريد أن تسد فجوات القنابل وحفائر الخنادق وأخاديد القبور بما بقي على الأحداث من أقوات الشرق؛ والشرقي - كما تعلم - يستطيل بالكرم ويستعز بالجاه، فما دمت تحله الصدر، وتبوئه الوظيفة، فلا عليه بعد ذلك أن يكون كرسيه بالاستعارة، ومأكله بالدين، ومسكنه بالأجرة!
حمل المنتجون العجاف من أهل أوربا ثمر نشاطهم الصناعي إلى أسواقنا القاصرة المستهلكة، وقاموا على أرزاقنا مقام القيم يبِضُّون لنا بما لا يكاد يستر الجسم ويمسك الرمق، ثم يحولونها عمرانا في خرائب باريس، وسلطاناً في حكومة لندن، ويسمعوننا نثور في المحابر ونصيح على المنابر، فيقولون اكتبوا ما واتى المداد القلم، وأخطبوا ما أسعف الريق اللسان، فلن ينزع العلق خراطيمه الماصة من الجلد مادامت الجنود مقبورة في الثكنات، والأموال مطمورة في الخزائن! حينئذ قال رجل الساعة محمد طلعت حرب باشا: رويدكم! سنرسلها شعواء بالذهب لا بالحديد!
كانت مصر في العهد الذي أسس فيه بنك مصر في مأزق من مآزق الحياة المشتبهة الخادعة: تنعم في رخاء كاذب وأمن مريب، ووراءها أوزار حرب ضروس، وأمامها لوائح أزمة طاحنة، وشباب البلاد تعصف في رءوسهم نخوة الوطنية والحرية والكرامة، فلا يفكرون إلا في الإحتلال، ولا يعملون إلا للسياسة؛ وأغنياء الأمة جاثمون على أموالهم المكدسة جثوم الدجاجة المرخم على بيضها العقيم، لا يُثمِّرونه بأنفسهم لنقص الكفاية، ولا يكلون استثماره لغيرهم لفقد الثقة؛ ورجال الدولة مشغولون بجباية الخراج، وتحضير الميزانية، واستئناف المفاوضات، وتحرير مشروعات المعاهدة، فلا يملكون حماية التجارة لقيود الجمرك، ولا يستطيعون إنشاء الصناعة لمناوأة المحتل؛ والأجانب عاكفون على منابع الوادي يستنزفونها بالربا، ويكدرونها بالسفه، ثم لا يسمحون للظمآن أن يألم، ولا للمهان أن يغض وكانت عناية الله التي ألهمت سعد زغلول أن يخرج شعبه من رق الاحتلال السياسي، هي التي ألهمت في الوقت نفسه طلعت حرب أن يخرج قومه من رق الاحتلال الاقتصادي؛ وكلا الرجلين منذ نشأ ميسر لما قام له: فسعد باشا بطبعه رجل كفاح وخصومه وزعيم برلمان وحكومة، ورسول من رسول الوطنية الروحية، له عصمته وجاذبيته وإيمانه؛ وطلعت باشا بطبعه رجل إنشاء وعمل، وصاحب تدبير وخطة، ورسول من رسل الوطنية المادية، يهذب النفس برفاهة الجسم، ويرفع العمران بوفرة الإنتاج، ويضمن الاستقلال بقوة الثروة، وله كذلك عبقريته ونزاهته وإخلاصه
وثق الناس بالزعيمين الخطيرين فجادوا للأول بالأنفس فشاد بيت الأمة، وكون الرأي العام، وألف الوفد؛ وجادوا للثاني بالأموال، فشاد بنك مصر، وأنشأت شركات مصر، وكوّن ثروة مصر؛ وربى سعد باشا لوطنه شباب جهاد وتضحية، كانوا منه مكان القلب الشاعر، والحس المدرك، والروح الملهم؛ وربى طلعت باشا لشعبه شباب اقتصاد وروية، كانوا منه مكان البصيرة الحازمة، واليد العاملة، والعقل المنظم؛ ثم كان من هؤلاء وهؤلاء دليل ناهض على يقظة هذه الأمة وشعورها بإرادتها لما تفعل، وسيادتها على ما تملك، وحريتها فيما تريد
لا أستطيع بهذا القلم الموجز في هذا المكان المحدود أن اجمل ما أضفاه بنك مصر وشركاته ومنشآته من النعمة على الأمة؛ وإن في تقرير مجلس الإدارة الذي نشر منذ أيام عن السنة الخامسة عشرة من حياة البنك، والخطبة الخطيرة الذي سيلقيها المدير الجليل في احتفال الغد عن حياة البنك، لبلاغاً لمن لم يسمع إلى اليوم ذلك اللحن القومي القدسي الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في البنك، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في المحلة!
إن نجاح بنك مصر وشركاته هو وحده الحجة الدامغة على نضوج هذا الشعب، لأنه نسق من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئا وراء الزعامة الرخوة؛ فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، نجد هذا البنك ينمو نمو النبات بَرَكة على بَرَكة، ويتضاعف تضاعف الحياة شركة بعد شركة، ويجذب الوجود المصري معه إلى السبيل التي يأمن فيها الفناء، ويخرج منها إلى العافية!
أحمد حسن الزيات