مجلة الرسالة/العدد 956/الثورة المصرية
مجلة الرسالة/العدد 956/الثورة المصرية
1 - الثورة المصرية 1919
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
8 أكتوبر 1951:
إذا تلفتت مصر في غدها إلى أيامها الخالدة في تاريخها الحديث فسيكون يوم الاثنين 8 أكتوبر 1951 أعظمها شأناً وأسماها قدراً، ذلك لأنه اليوم الذي حطمت فيه أغلالها واستردت حريتها واستقلالها وحققت وحدة واديها، ووقفت مصر صفاً واحداً في وجه الغاصب الأجنبي، وأعلنت إلغاء معاهدة التحالف والصداقة مع بريطانيا التي وقعتها 1936 وكذلك ألغيت اتفاقيتا السودان الموقعتان سنة 1899.
ومما يدعو إلى الغبطة والرضا أن نذكر أن المصريين على اختلاف أحزابهم ونزعاتهم قد وقفوا جميعاً صفاً واحداً إزاء هذا الحادث التاريخي المجيد، وأحب أن أسجل هنا أقوال أبناء مصر الذين شهدوا جلسة البرلمان في مساء ذلك اليوم العظيم الذي ألقى فيه رفعة رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا بيانه التاريخي:
(من أجل مصر وقعت معاهدة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها) مصطفى النحاس.
(إن المعارضة تتقدم بالشكر للحكومة ممثلة في شخص الوطني العظيم مصطفى النحاس باشا إن مصر بجميع أحزابها ستكون وراءه فيما عقد العزم عليه ولا أحزاب بعد اليوم) حامد العلايلي بك (دستوري).
(إن أي مصري لا يستطيع إلا أن يقف خلف الحكومة مناصراً هذه الخطة الوطنية السليمة فقد استجابت لما طلبه الرأي العام منذ زمن طويل. إن الخطوة التي خطاها رفعة رئيس الوزراء هي حد فاصل بين سياستين، سياسة مهادنة الإنجليز، وسياسة مكافحتهم) دكتور نور الدين طراف (وطني).
وقال النائب الاشتراكي أن حزبه يؤيد الحكومة تأييداً كاملاً، وطالب بوضع تشريعات أخرى تنص على اعتبار من يعاون الإنجليز خائناً لبلاده لأنهم أعداء مصر، وقد كانوا دائماً أعداءها.
وقال النائب السعدي الأستاذ فوزي سيف (إن المعارضة مستعدة لبذل آخر نقطة من دماء رجالها لتحقيق ما قاله رفعة النحاس باشا).
وأخيراً وقف معالي المصري العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا وقال: (إن هذه الأيدي التي مدت لمعاونة الحكومة هي الدليل الحق على أن المصريين يعرفون كيف يوحدون صفوفهم، وإذا وحدت الصفوف في البرلمان توحدت صفوف الأمة كلها).
هذا ما كان من الأمر في داخل مجلس النواب، ولم تكن حماسة الشيوخ ولا ابتهاجهم بتحرير مصر أقل من حماسة النواب وابتهاجهم.
أما في خارج البرلمان فقد هرع المصريون إلى المذياع ليستمعوا إلى بيان رئيس الحكومة، وقد هزهم البيان فعانق بعضهم بعضاً بعضا والتهبت أيديهم بالتصفيق وانطلقت ألسنتهم تهتف بالحياة الحرة للدولة المصرية السودانية، ولملكها المفدى فاروق، وقامت المظاهرات في مساء الاثنين وفي أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس، وانهالت برقيات التهاني على رفعة رئيس الحكومة من جميع الطوائف والهيئات.
ووقفت الدول العربية بجانب شقيقتها الكبرى وأعلنت تأييدها لها ومؤازرتها.
أما الدول الغربية: إنجلترا وأمريكا وفرنسا فقد وقفت تعترض على القرار واستهجنت خطة مصر، وهذا أمر طبيعي فإن الغاصب لن ينزل عما اغتصبه بمحض إرادته. إن الحقوق والحريات تؤخذ ولا تعطى، ومصر قد قدرت كل شيء. وأعدت عدتها للجهاد والنضال، ولن تستطيع قوة أن تحول بينها وبين حريتها ووحدة واديها، وهذه هي بداية الكفاح والجهاد.
الليلة والبارحة:
هذا هو يوم 8 أكتوبر 1951، وهذه هي مكانته في تاريخ مصر، وإن مصر إذا تلفتت إلى ماضيها القريب تبحث عن خير أيامها الخالدة لوجدته ماثلاً في يوم 13 نوفمبر 1918 فإن هذا اليوم كان بدءاً لثورتها الخالدة المعروفة بثورة سنة 1919.
وجدير بنا نحن المصريين أن نهتم اهتماماً كبيراً بدراسة هذه الثورة لأمور ثلاثة:
أولها: إن الواجب على كل أمة أن تعنى بتاريخها عناية كبرى إذا أرادت لنفسها بقاء ومجداً. وأعتقد أنه يحب عليها أن تعنى بدراسة تاريخها المعاصر عناية خاصة لأنه من غير شك يؤثر في حاضرها وفي مستقبلها، والثورة المصرية سنة 1919 هي من غير شك أبرز حادث في تاريخ مصر المعاصر.
وثانيهما: إن كثيرين من أبناء مصر المعاصرين قد ولدوا إبان الثورة أو بعدها ولم يشهدوها، ولهذا قصدت إلى أن أضع أمام أعينهم صورة رائعة لجهاد آبائهم في سبيل تحرير بلادهم وصفحة بيضاء مطهرة من صحف مصر المعاصرة، وإذا أردنا لمصر حياة حرة كريمة فعلينا أن نكون أمة مجاهدة وهذا هو جهاد الآباء، فليحمل الأبناء اللواء فإن هذا هو الطريق الوحيد اللائق بها بين الأمم.
وثالثها: إنني معجب حقاً لموقف مصر وبالمصريين في تلك الفترة من التاريخ، فقد وقفت مصر صفاً واحداً وكتلة واحدة تطلب استقلالها، وقد كان يتزعم تلك الحركة الوطنية المباركة رجال جدير بمصر أن تفخر بهم على مر الأيام وكر السنين وهم سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعدلي يكن وعبد الخالق ثروت وحسين رشدي وغيرهم، هؤلاء الرجال كتبوا بأعمالهم أسمائهم في سجل الخلد:
وليس الخلد مرتبة تلقى ... وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى هم كبار ... إذا ذهبت مصادرها بقينا
وآثار الرجال إذا تناهت ... إلى التاريخ خير الحاكمينا
13 نوفمبر 1918:
في 14 سبتمبر 1882 احتلت بريطانيا مصر، ورغم أنها أعلنت منذ الساعة الأولى عزمها على الجلاء بمجرد استقرار الحالة في مصر فإنها حتى هذه الساعة لم تف بوعد من وعودها بالجلاء التي بلغ عددها خمسة وستين وعداً.
منذ ذلك التاريخ فقدت مصر استقلالها، وعانت بريطانيا في واديها إثماً وعدواناً وفساداً، وقد قاومت مصر هذا العدوان الآثم ما استطاعت ولم تقبله بتاتاً، وكان الزعيم الأول الذي رفع راية الجهاد مصطفى كامل باشا، وسقط مصطفى كامل شهيد الواجب في فجر الشباب فحمل الراية بعده الوطني الغيور محمد بك فريد.
ولم تأل إنجلترا جهداً منذ الساعة الأولى في تثبيت أقدام الاحتلال فاعتدت على سلطة خديو مصر الشاب الخديو عباس الثاني وأذلته أكثر من مرة، وأذاقت المصريين ألوان الهوان والعذاب، وما يوم دنشواي ببعيد عن الأذهان. ثم اضطهدت زعماء الجهاد الوطنيين الأحرار فنكلت بهم ونفي محمد فريد ومات شريداً طريداً بعيداً عن الوطن الذي أحب. مات يحتطب في ألمانيا.
وفي 1914 قامت الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل، فهي حرب قامت بين ألمانيا والنمسا وتركيا في جانب، وبين إنجلترا وفرنسا في الجانب الآخر، ولكن مصر ذاقت منها الكوارث والويلات، وتتابعت عليها المحن والكوارث فأعلنت الأحكام العرفية والعسكرية، وعزل الخديو عباس الثاني لميوله العدائية نحو بريطانيا، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر. لقد كانت مصر ترجوا فكاكاً من الاحتلال فجاءها ما هو أدهى وأمر إذ ابتليت بالحماية. ثم سيق أبناء مصر قسراً باسم التطوع إلى ميادين القتال فاستشهد منهم كثيرون دون ذنب جنوه ودون أن تشترك بلادهم في الحرب، وأبيح للقوات البريطانية أن تباشر جميع حقوق الحزب في أرض مصر وموانيها. وعم الغلاء وانتشر الوباء نظراً لقدوم الجند من مختلف بلاد الإمبراطورية البريطانية.
وأكثر من هذا لجأت السلطة إلى الاستيلاء على الحبوب والأقوات من الأهالي بأثمان حددتها ولم تترك لهم ما يكفيهم من أقوات، وزادت فجمعت الدواب ووضعت يدها قسراً على الممتلكات. وبلغ عدد المتطوعين من أبناء مصر 000ر002ر1 جندي وأرغمت مصر على أن تقدم ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه كهدية.
وقد كانت مصر وكان رئيس وزرائها حسين رشدي باشا يتوق إلى أن تقف مصر على الحياد في هذا النزال، ولكنه لم يكن حراً في اختيار السياسة التي يتبعها فقد كانت الحراب البريطانية تهدده، ولذلك اضطر إلى التسليم بما طلبته بريطانيا في 5 أغسطس 1914.
وقد ارتاحت بريطانيا لموقف مصر هذا فإن مصر المعادية خطر يهدد بريطانيا.
وظلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ. اشتد الغلاء وصودرت الحريات وكمت الأفواه ومنع المصريون من إبداء رأيهم في نوع حكومتهم. وقد كان أكبر أسباب استياء المصريين الحماية. لقد كانوا يعملون على التخلص من الاحتلال فإذا به ينقلب إلى حماية، وانتظر المصريون بفارغ الصبر نهاية الحرب ليعرفوا مصيرهم ومصير بلادهم.
وأخيراً في 1918 آذنت شمس الحرب بالمغيب وأعلن الرئيس ولسن - وكان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية - مبادئه وأهمها أن (لكل قوم الحق في تقرير مصيرهم).
استبشر المصريون خيراً واعتقدوا أنه عندما تضع الحرب أوزارها سيطبق عليهم هذا المبدأ لأن مصر قد وقفت بجانب الحلفاء وضحت معهم بالمال والأبناء وإذن فلم لا تتمتع بحريتها كاملة ما دامت قد قامت بنصيبها من أعباء الحرب التي أعلن الحلفاء أنهم ما قاموا بها إلا نصرةً للحرية وللديمقراطية وحماية للشعوب الصغيرة من الشعوب الكبيرة!!
وفي شهري سبتمبر وأكتوبر من 1918 بدأ كبار المصريين ومفكروهم يتشاورون في موقف مصر وفي مصيرها، وكان من السباقين إلى هذا الأمير عمر طوسون وسعد زغلول باشا. وقد خاطب الأمير سعداً (لأنه رأى فيه جرأة وإقداماً وقدرة على المناقشة والجدال).
وفي 11 نوفمبر 1918 أعلنت الهدنة وتخلص العالم من الكابوس الذي كان يجثم على صدره.
وفي 13 نوفمبر 1918 قرع سعد ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي أبواب دار الحماية، وقابلهم السير ريجنالد ونجت وتحدثوا إليه وسألوه عما تعتزمه بريطانيا إزاء مصر، وذكروا له صراحة أنهم قد جاءوا يطلبون استقلال مصر.
قال شعراوي باشا: نريد أن نكون أصدقاء بريطانيا صداقة الند للند لا صداقة الحر للعبد.
فأجابه ونجت: إذن أنتم تطلبون الاستقلال!
فصاح به سعد: نعم ونحن له أهل.
لم يعد المعتمد البريطاني زعماء مصر بشيء وإن أظهر عطفاً على مطالبهم ووعداً بمخاطبة حكومته. والمهم أن نذكر أن سعداً ورفاقه قد طلبوا الاستقلال التام.
أخذ سعد هذا يعمل على تنظيم (الوفد) وتم له ذلك ووضع القانون الأساسي للوفد وأهم ما جاء فيه:
1: تألف وفد باسم (الوفد المصري) من حضرات: سعد زغلول. عبد العزيز فهمي. علي شعراوي محمد علي بك.
عبد اللطيف المكباني بك. محمد محمود. لطفي السيد. إسماعيل صدقي. سينوت حنا. حمد الباسل. جورج خياط. محمود أبو النصر بك. مصطفى النحاس. حافظ عفيفي.
2: مهمة هذا الوفد هي السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً.
3: الوفد يستمد قوته من رغبة أهالي مصر التي يعبرون عنها رأساً أو بواسطة مندوبيهم.
4: لا يجوز للوفد أن يتصرف في المهمة التي انتدب لها.
وفي 13 يناير 1919 ألقى سعد خطبة في دار حمد الباسل باشا زاد فيها مبادئه وضوحاً فذكر أنه يطلب الاستقلال التام لمصر والسودان (لأن السودان ألزم لمصر من الإسكندرية).
للكلام صلة
أبو الفتوح عطيفة