انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 953/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 953/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 10 - 1951



نماذج فنية من الأدب والفن

تأليف الأستاذ أنور المعداوي

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

الأستاذ أنور المعداوي الكاتب المصري المعروف غني عن التعريف فهو ناقد فذ وأديب ممتاز ومن طلائع المثقفين القلائل في البلاد العربية، وأقول القلائل لأننا لو أحصينا الأدباء الذين جمعوا بني الثقافتين الشرقية والغربية وأطلقنا عليها أسم المثقفين كما تدل عليها كلمة الثقافة من معنى لوجدناهم من القلة بحيث لا يذكرون تجاه الأغلبية الساحقة من المتأدبين أشباه المثقفين وأنصاف الكتاب.

عرفه قراء الرسالة الزاهرة منذ سنوات في تعقيباته التي أعجبت كل أديب كما عرفه النقاد الموجودون الآن بين ظهرانيناً فإذا به يختلف وعدم التحيز لصديق أو قريب ومهاجمته الكثيرة من شيوخ الدب الذين يشطون فيما يكتبون:

وقال قائل منهم عنه (إنه عامل هدم في الحياة الأدبية لا عامل بناء) لماذا (لأنه منذ أن تناول قلمه ليكتب تحول القلم في يده إلى معمول ثائر، معول متعصب تنصب ثورته على بعض القيم والأوضاع!)

ولكنه وهو المارد الجبار الذي نذر نفسه ليغير من مناهج النقد القديمة البالية لم يبال بهذا الكلام الفارغ الذي يلقيه على عواهنه من لهم نصيب ضئيل من الثقافة أو من الذين لم يثبتوا أقدامهم في مواضعها؛ راح يكتب ويكتب بكل جراءة وصرامة غير ملتفت إلى نعيب الغربان ونقيق الضفادع، حتى مضت أشهر وإذا اسمه على كل لسان وإذا شهرته تسبقه في كل بلاد تشرق عليها من بلاد الشرق العربي، وإذا هو بين عشية وضحاها معروف وأثير لدي الجميع، وإذا يريد الرسالة يتلقى كل يوم عشرات الرسائل وكلها موجهة إليه، ليعقب على هذا المقال أو يجيب على ذلك السؤال أو يوجه ويرشد أو ينقد ليدل على مواضع القبح والجمال وكنت أحد الذين يقرؤون للأستاذ المعداوي وأحد الذين يعجبون بآراء المعداوي وأحكامه في عالم النقد والأدب، وقد شاء ربك أن تتصل الأسباب بيني وبينه، فإذ بنا نصبح من أول مراسلتنا أصدقاء، ولا عجب فالأدباء إخوان وأقارب تجمعهم رابطة الفن قبل رابطة الدم والقرابة. ورحم الله أستاذ الشعراء حيث يقول:

إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد

أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من الغمام واحد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد

وأمضى أنا إلى باريس ومن باريس أكتب إليه ثم أعود لأشكو له مأساتي فإذا به يقف مني ذلك الموقف المشرف النبيل الذي يفسد عليه صداقة الوزير في سبيل الأدب، وفي سبيل إنصاف شاعر، وآنذاك تتجلى لي أخلاق المعداوي على حقيقته أخلاق سافرة للعيان، وإذا به قلب كبير وروح مثالية تضحي بكل شيء في سبيل الأدب، ومن ذلك الوقت وأنا لا أشك بأن أحكامه في الأدب والنقد والفن لا تصدر إلا عن دراية وثقافة وحق وخبرة واطلاع، ثم تمر الأسابيع وإذا ببريد الكنانة يحمل لي من الصديق الحبيب كتباه الثمين الذي رسمت به هذا العنوان. والكتاب من الحجم الكبير يقع في (250) صفحة طبعته لجنة النشر للجامعيين على نفقتها الخاصة، وقد تصفحته بإمعان فإذا يحتوي على (40) مقالة في مختلف الفنون و (10) منها عن نقد الكتب. . وقد قلت إن تلك الصفحات الفذة في تاريخ النقد في مصر والتي ضمنها الكتاب قد نشرت في مجلة الرسالة الغراء، واطلع عليها القراء في جميع البلاد الناطقة بلغة القرآن، ولكن يسرني أن أشير في هذه الكلمة العاجلة إلى بعضها.

أسلوب المعداوي في هذا الكتاب وفي جميع ما يكتب رصين سهل: لفظ رقيق وديباجة جزلة أنيقة، وهو كما قال فيه أستاذنا الزيات بك في افتتاحيته العظيمة عدد 948 من الرسالة.

(أسلوب المعداوي كما تراه في كتابه من الأساليب التي جاء فيه التأليف بين المعنى واللفظ جارياً على سنن الفن الصحيح؛ فالتفكير قوي عصي حار، والتعبير دقيق أنيق نهذب)

أما آراؤه فناضجة قويمة تقوم على العقل والعاطفة والتجربة والاطلاع، فمن مقالاته التي تغلب عليها العاطفة وأناقة اللفظ حتى لتنسيك نفسك وتأخذك إلى عالم الكاتب والسطور، (شاعرية مصرية تودع الحياة) و (من الأعماق) ولتقف لحظة لنقرأ مرة أخرى قوله في من الأعماق) ص164.

(وأبداً لن ينسى يا دار هواه، يا من كنت وحي قلمه ومهبط إلهامه وحديث أمانيه. . لن ينسى حين غاب عنك أياماً ثم ذهب ليرى أهلك في آخر يوم من رمضان، ملء يديه كما كان بالأمس زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . لقد كنت يا دار واجمة، كئيبة، يمرح في جنباتك الصمت، ويطبق السكوت! أين يا دار من كانت تفتح له أبواب الشعور بالدنيا على مصاريعها؟ أين. . أين. . الخ. .)

فأنت إذ تقرأ هذه السطور تحس كما لو كنت أنت صاحب من الأعماق أيا جئت إلى دار الحبيبة لتزورها فإذا بالدار واجمة، والأهل صامتون والدنيا مظلمة وكل شيء ينطق بالموت، بالخراب، بالدمار. . ورحمة الله على صاحبه ذلك القلب الكبير. . . وعزاء للصديق المفجوع بأعز أمانيه. .

ومن تلك الآراء التي أوافق عليها موقفه (حول مشكلة الفن والقيود) ص16 و (حول مشكلة الأداء النفسي) ص39 و (الفن والحياة) ص85 و (رأي في كتابة القصة) ص172 و (بيتان لجميل بثينة) ص175.

وأكثر آرائه في القسم الثاني من الكتاب بعنوان (كتب في الميزان) من ص179 إلى ص247. اللهم إلا رأيه في أبيات عمر أبو ريشة:

أتريد الوجود، منهتك يرينا أسراره عريانا

ويفض الفدام عن قلبه السمح ... ويجريه للعطاش دنانا

لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله ... في نشوة الشعور عيانا

وأبيات محمد مهدي الجواهري:

على الحصير وكوز الماء يرفده ... وذهنه ورفوف تحمل الكتبا

أهوى على كوة في وجهه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

فأنا أخالفه. . فهو يعتبر أبيات عمر أبو ريشة عادية لا حس فيها ولا حركة، وأبيات أو بيتي الجواهري من الفن الأصيل الذي يهزه ويهتز لها صاحب (تحت المبضع)، فأنا بالرغم من الذين يقدرون موسيقى اللفظ وقوة السبك وأصالة الديباجة لا أظن أن شعر الجواهري مهما سما يصل إلى أخيلة أبو ريشة. ولما كنا في صدر الكلام عن الأبيات المتقدمة فإن الجواهري لولا بيته الثاني:

أهوى على كوة في وجه قدر ... فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

لما بقي جمال أو معنى لبيتيه. .

كما أخالفه مرة أخرى في رأيه بقصة الأستاذ أحمد الصاوي محمد (زوجات) فأنا أعد الصاوي في كل ما ترجم وألف واقتبس لا أثر له في التوجيه أو الإرشاد اللهم إلا إثارة غرائز الشباب باسم الفن والأدب.

وختاماً فإن كتاب الصديق الأستاذ المعداوي في هذه الأيام التي طغت فيها موجة السياسة على الأدب وكثر التهريج والتزمير باسم النقد. ليعد اللبنة الأولى في صرح بناء النقد الحديث على ضوء العلم والفن والتروي. . فهنيئاً للمكتبة العربية بهذا المؤلف النفيس. . وتحية صدق وإعجاب لمؤلفه. . وألف شكر على هديته الثمينة

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري