انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 952/عقدة الأب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 952/عقدة الأب



في رأي الفيلسوف ابن خلدون

للأستاذ أمين محمد عثمان

آمنت ولازلت أؤمن بأن في التراث العربي العريق، كنوزاً مطمورة، تحتاج إلى من ينقب عنها، يخرجها من كهوف النسيان، إلى عالم النور والعرفان. وقد بينت في مقالي الأسبق (صحيفة مطوية في البلاغة العربية) أن نظرية الإدراك بالإجمالي والتفصيلي، لم تكن وليدة القرن العشرين، ولا هي بنتاً من بنات أفكار علماء النفس المحدثين، بل سبق إليها عالم من علماء العرب منذ تسعة قرون، وهذا مثل آخر من آلاف الأمثال أسوقه للأدباء والباحثين الذين بهرهم زخرف الحضارة الأوربية، علهم يعطون الحضارة الإسلامية التي أساءوا الظن بها، قسطاً وافراً من العناية.

لقد كانت الفلسفة المسيحية تذهب إلى عهد قريب، إلى أن الطفل الشرير بطبعه، وأنه يولد محملاً بكثير من السرور والآثام فيجب أن يقمع ذلك فيه بالشدة والعنف، وأن يسلك به سبيل التعذيب والإيلام. وقد نحا المتنبي هذا المنحى في شعره فقال:

والظلم من شيم النفوس فإن تجد=ذاعفة فلعلة لا يظلم

وهذا عين الخطأ، فلا الطفل شرير بطبعه كما تقول الفلسفة المسيحية، ولا هو خير بطبعه كما يقول (جان جاك روسو) كما أن عقليته ليست كالصحيفة البيضاء يسطر المربي عليها ما يشاء، كما ذهب إلى ذلك (جون لوك).

ولكن الطفل يولد مزوداً بالغرائز والنزعات الفطرية، وهي ميراثه من أبويه ومن النوع الإنساني، فعلينا أن نعمل مع هذه النزعات لا ضدها، وأن نحاول إعلاءها، وتكوين العواطف النبيلة فيها.

وهناك مرحلتان من مراحل النمو لهما أكبر الأثر في حياة الناشئ فإن هو جازهما بسلام، فقد اجتاز العقبة كلها إلى شاطئ الأمان، وإن تعثرت خطاه فيهما أو لعبت بنفسه أعاصير التربية الصارمة فإنني أخشى أن تهوى بنفسه أمواج الأمراض النفسية إلى قرار سحيق.

أما أولهما: وسنقتصر الكلام عنها الآن: فهي مرحلة الطفولة المبكرة ويعلق فرويد عميد علماء التحليل النفسي، و (آدلر) مؤسس مدرسة علم النفس الفردي أهمية كبرى على هذه المرحلة، ففيها تتكون أهم قوالب السلوك عند الإنسان وهي التي تحدد الخطوط الشخصية الأساسية فيما بعد، ولقد دلت البحوث النفسية على أن كثيراً من الانحرافات النفسية الحقيقية والخطورة التي يصاب بها الشاب أو الرجل، ترجع إلى صدوع نفسية في الطفولة الأولى، وفي هذه المرحلة يأخذ الطفل فكرة عن نفسه، مما نوحي به إليه نحن. فالطفل الذي ننعته بأنه شقي وبأنه مجرم، وبأنه لا يفلح سرعان ما يتشرب هذه الفكرة عن نفسه ويعمل على أن يسير بمقتضاها، وعلى العكس إذا أخذنا نصف الطفل بأنه مهذب، وبأنه شجاع فإنه يتقبل عن نفسه هذه الفكرة ويتشبع بها، ويجهد نفسه في تنفيذها، وفي هذه المرحلة يتكون لدى الطفل سلطة داخلية هي ما نسميها بالضمير أو الرقيب أو النفس اللوامة، أو الحافظ، كما يقول الله تعالى (إن كل نفس لما عليها حافظ) هذا الضمير أو الرقيب إن هو إلا خليفة الأبوين ويتكون لا شعورياً عن طريق الأوامر أو النواهي التي تصدر منهما إليه، فإن كان الأب من الصنف الصارم الجافي الذي يحاسب على اللفتة والحركة ويعاقب على السهوة، ويسرف في الأمر والنهي، والصفع واللكز، ويفرط في التأنيب واللوم، فإن هذه التربية كما يقول الدكتور عزت راجح في كتابه (الأمراض النفسية). . تصبح لها صدى في ضمير الطفل اللاشعوري يمثل السلطة الأبوية، فترى قد أصبح يتطلب من الطفل ما يتطلب ذلك من الأب التعسف وأكثر، يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، ويحرم عليه القيام بأشياء لا ضرر منها، ولا ضير عليها، فترى الطفل يشب وقد أمسى شديد الحساب لنفسه وللناس، شديد الحذر والتوجس من نفسه ومن الناس، يغشاه شعور صريح أو مضمر أنه مخطئ أو آثم) وبهذا تتكون عنده عقدة الإثم والحاجة إلى عقاب النفس.

وجاء في كتاب (أسس الصحة النفسية) للدكتور عبد العزيز القوصي، عند الكلام على (عقدة الأب)، منشأ هذه العقدة قسوة السلطة وصرامتها، وشدة الجو المنزلي ويترتب على قسوة السلطة وامتصاص الطفل لها، أن يعكسها على نفسه، ويعكسها على نفسه يكون قاسياً عليها شديد النقد لها، كثير التبرم بها، غير راض عنها، شاعراً بخطئه على الدوام، يخشى لوم الناس ونقدهم، ويحسب لهم ألف حساب، وعندما يعكسها على الناس يكون أيضاً شديد النقد لهم، قاسياً عليهم، يتمتع بإبراز خطاياهم).

وقد ذكر علماء النفس: أن هذا باب جديد، فتحه فريق من أصحاب (التحليل النفسي) وخطوا فيه خطوات موفقة، واستطاعوا به تعليل كثير من مظاهر السلوك الزائغ والاعتلال النفسي.

وفات هؤلاء، أن هذا الباب الجديد، قد طرقه الفيلسوف ابن خلدون واستقصى فيه منذ ستة قرون، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته المشهورة أن (الشدة على المتعلمين مضرة بهم) وعلل هذا بأن من كانت نشأته في أحضان القهر، وتربيته في مهاد القسوة والعنف لا سيما إذا كان صغيراً، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها؛ وذهب بنشاطها ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعمله المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين).

ولم يكتف ابن خلدون ببيان الأثر الذي تحدثه سياسة الشدة بالأفراد، بل قال إن أثرها في الأمم أشد خطراً وأبعد أثراً، فالأمة التي تقع فريسة للاستعمار، صديقة للشدة والعنف، هي أمة تنشأ على الذل والخوف، وتربى في أحضان الفساد الخلقي فيصير ذلك خلقاً وطبيعة لها. انظر إلى بني إسرائيل، وقد لبثوا تحت حكم الفراعنة أحقاباً يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فلما أذن الله لهم، وأخرجهم موسى بعصاه، من أرض الفراعنة إلى صحراء سيناء، أوحى الله إلى موسى بأن يستعد هو وقومه لدخول الأرض المقدسة ومقاتلة من فيها من العمالقة. ولكن الخوف كان قد استبد بهم، وذهب الرعب بقلوبهم كل مذهب وقد تعود زعماؤهم أن يكونوا عبيداً المستعمرين (قالوا إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين). وبين ابن خلدون بعد ذلك أن الحكمة في وقوعهم في التيه أربعين سنة، هو انقراض هذا الجيل الذي نشأ في أحضان القهر والعنف، ومجيء جيل آخر تربى في أحضان الصحراء، تحت سمع الحرية وبصرها، وكان على يديه فتح الأرض المقدسة.

وكما يحلوا لعلما النفس، أن يوجهوا نصائحهم وإرشاداتهم إلى مربي النشء فإننا نرى كذلك ابن خلدون، بدل المربين على الطريقة المثلى في التربية الصحيحة فيقول: فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب. ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمد إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه. وثمرة قلبه. فصير يدك فيه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. . أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة.

أمين محمد عثمان

دبلوم معهد التربية العالي