انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 950/بين الجد والهزل!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 950/بين الجد والهزل!

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1951


للدكتور مختار الوكيل

حينما كنت في فرنسا مطلع هذا الصيف، دار حديث ودي بيني وبين رجل من أوسع الناس ثقافة - ولم يكن إنجليزيا ولم يكن فرنسياُ - ولكنه من أولئك الذين يعطفون على مصر عطفاُ حقيقياُ لطول أقامته في ربوعها، ويرجوا مخلصاُ لها النجاح في كفاحها ضد الاستعمار والطغيان. ذكر لي هذا الرجل الكبير خلال حديثه إن مصر - فيما يبدوا للعالم الخارجي على الأقل - غير جادة - مع الآسف - في طلب الاستقلال الكامل وتحقيق الجلاء والوحدة مع السودان

وضرب لي مثلاُ، أو أمثلة على عدم هذه (الجدية)، بما هو مشاهد وملحوظ من تعاون العمال المصريين مع القوات البريطانية في منطقة القنال تعاوناُ يذيع البريطانيون عنه في آفاق الدنيا انه تعاون اخوي قلبي صادق، وإقبال أولئك الشبان المصريين على العمل مع الإنجليز المحتلين إقبالاُ منقطع النظير. ونوه محدثاُ بما هو ملموس من تهافت التجار المصريين على إرسال سلعهم - وفي مقدمتها المواد الغذائية التي يحتاج إليها الأهلون احتياجاُ شديداُ - إلى منطقة القنال، لأن ربحهم من ذلك المورد التجاري عظيم. وفضلاُ عن ذلك فان الإنجليز المحتلين يعتدون في كل يوم تقريباُ على المواطنين المصريين من عمال معسكراتهم، ومن أهل المنطقة المرزوءة بهم، بل ومن أهل القاهرة والإسكندرية والعواصم الأخرى، حينما تطأها أقدام جنود الاحتلال في نزهة أو رياضة، ومع ذلك فلا تحرك مصر ساكناُ، وإن فعلت ففي نغمة الصديق العاتب والمحب المبقي على حبيبه المتجنى!

واستطرد محدثي المحيط بأحوالنا جميعاُ يقول: لقد شبعت حكوماتكم من مفاوضة الإنجليز في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية، وذهبت إحداها إلى مجلس الأمن بعد انقطاع المفاوضة وعادت بقرار من ذلك المجلس باستئناف المفاوضة فتنفس ساستكم السعداء وكأني بهم قد فرحوا بهذا الحل الموفق السعيد!

وأطرق محدثاُ قليلاُ ثم استأنف حديثه قائلاُ.

لو إنكم فعلتم يا أمة الفراعين والعرب، بعض ما فعله اليهود الذين تسمونهم شذاذ الآفاق وتطلقون على دولتهم لقب (المزعومة)، عندما جلدوا الإنجليز جهاراُ ونهاراُ وحبسوهم ف فلسطين حتى اقضوا مضاجعهم وجعلوا مقامهم في الأرض كريهاُ بغيضاُ ممقوتاُ. . . أو لو إنكم تصرفتم مثل تصرف الثائرين في ايرلندا، على ذلك النحو الفدائي المتطرف، المنظم غاية التنظيم، أو لو إنكم، حتى، جربتم خطة غاندي في (المقاومة السلبية) والمقاطعة المنتظمة المحكمة، لكل ما هو صناعة بريطانية، إذن لوصلتم إلى أهدافكم المحبوبة بسهولة ويسر

وطال تفكيري في قول ذلك الناصح الأوربي الصديق، حتى رجعت إلى الوطن أخيراُ ورأيت كيف لا نزال نتردد في إلغاء معاهدة 1936 حتى بعد ذلك التعنت الصارخ والجهر الصريح الواضح من جانب المسئولين البريطانيين بعدم الوفاء بحقوقنا الأساسية: في الجلاء والوحدة. ورأيت كيف يتقرب بعض الكبراء في أحاديثهم الصحفية إلى الإنجليز ويعرضون خدماتهم عند الاقتضاء متحدين بذلك إجماع البلاد حكومة وشعبا، ومعلنين عن نفسية منهارة رخيصة، وتفكير معاد للوطنية مسموم بغيض. . . ثم رأيت كيف يتهافت الشباب المصري على العمل مع القوات البريطانية في منطقة القنال، وكيف يؤثر التجار المصريون بيع الحاصلات المصرية الصميمة إلى زبانية الاحتلال، ويحرمون منها مواطنيهم، وذلك لقاء ربح هين يسير!

ورأيت بعد ذلك كله كيف نواجه الموقف الضنك العصيب، بالخطب المجلجلة الطنانة الخاوية، وبالتهيج الشعبي الرخيص الذي ملت منه البلاد وسئمته، بالهتاف المدوي تعلو به الحناجر، وبالصفيق الموسيقي الرائع، وبحمل القادة المتزعمين والمتطلعين إلى التزعم على الأعناق، وبالتفكير في الاتجاه - هذه المرة وبعد كل تجاربنا المريرة المحزنة - إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من مجلس الأمن نفسه، وبإعلان الشباب المصري المرجو في يومالصدام الحقيقي والعمل الصحيح بدء الصيام حتى تلغى المعاهدة، وهذا - مع عظم إجلالي واحترامي للفكرة السامية في حد ذاتها - أسلوب في الكفاح عفي عليه الزمان، واصبح لا يقدم ولا يؤخر ولن يزيد المعتدين إلا غلوا وإغراقا في العدوان. وهبنا جمعياً صمنا عن الطعام حتى يخرج المحتلون من الديار فهل ثمة عاقل ينتظر من الإنجليز العطف علينا والإبقاء على حياتنا بتقرير الجلاء حينذاك؟ احسب أن فرحة الإنجليز سوف يكون عظيمة إذا فني الشعب المصري كله عن آخره واستقر لهم الأمر في هذه البلاد استقرارا أبديا! إلا إن هذا الأسلوب أسلوب رجعي لا يليق بالروح الإيجابية التي تشمل الكون كله في هذه الأيام

فهلا فكرنا في الاقتداء بمن كنا لهم في الماضي القريب خير قدوة! أجل، هلا اقتدينا حكومة وشعبا بما صنعته ايرلندا والهند ة إيران، أو حتى إسرائيل التي ظهرت في جنوبنا شوكة مدمية، لا تكف عن وخزنا وإيلامنا لحظة من ليل أو نهار؟!

هلا عمدنا إلى بعض الجد فيحترمنا العالم في الخارج، فالعالم في الخارج لا يحترم سوى الجادين، ويسقط من حسابه المتهافتين والهازلين

دكتور مختار الوكيل