انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 95/كلمات. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 95/كلمات. . .



للأستاذ محمد روحي فيصل

الشعراء ثلاثة: شاعر موهوب ينفث من صدره معنى الفاظه، ويستخرج من لغته ألفاظ معناه! ينحدر إلى طبعه عند البيان، وينطوي على نفسه لينشرها ويجلو المبهم منها، ويدع العرض العابث، ويفرز المتداخل المتشابك، ثم يسجل الخلجة الجميلة أو الخاطر الأصيل وكأنما يلد من لحمه ودمه جنيناً حياً، يكفله ويحبه ويحرص على أن يكون قوياً نشيطاً صحيحاً، ويأخذه بألوان من التهذيب والرعايا والنضارة حتى يثمر ويؤاتي أكله. ولئن نصب الشاعر في الولادة، وعانى ألم البيان، فلقد يستمتع بمرأى الوليد النضر الجميل يسعى وينطق، ثم يكون له أثره القوي في الوجود، ونصيبه الموفور من الحياة، وفضله العميم على الناس. .!!

وشاعر ميت يتصيد اللفظة الشاردة والكلمة المتأبدة والحرف الناشز من بطون المعاجم، وإنتاج الزملاء، وقديم الشعراء، وكأنما يتصيد الفريسة الدسمة الفارهة السمينة! ويلتزم صنعة البديع وحسن التشبيه ودقة المقابلة ورقة الجناس، وكأنما يلتزم طرائق البيان الخالدة، ويعلن عن ثقافته البالغة وذوقه الصحيح!

وشاعر مفلس لو اجتمع المرثاء، واعتزم التعزية والبكاء، لتصفح المراثي الباكية واحدة واحدة، ومعنى معنى، وبيتاً بيتاً، ثم اختلس هذا، وشوه هذا، وحرف ووجه وزاد. . لقد يقتفى المسكين روائع غيره، ويختبئ وراء نظمه، وينزل عن شخصيته، ويسف بكرامته - حباً للذكر والأحدوثة!

قال التاريخ: (عبثاً ينتج شاعر الصنعة وشاعر السرقة)

الألفاظ! الألفاظ!

أداة المبين، ووكر المعنى، وسر الفن! والشاعر العبقري من عرف كيف يزاوج بينها ثم أحسن التأليف، وأبدع الموسيقى، ونشر الجرس! فإنما الشعر لو تدبرت نغم علوي لطيف يهز الأذن، ويشيع في القلب، ويحيا في النفس، ويخلد في الذاكرة، ويرن في الخيال. كان اللفظ وما يزال الساحر العجيب الذي يلعب بالأهواء والأعصاب كما يلعب المرتاض بكرة القدم، ولعلك تذكر فيما تذكر درامة شكسبير في يوليوس قيصر، وقوة البيان عند انطوان وبروتس، وسلطان اللفظ على العامة والرومانيين

لشد ما يشبه الفنان الإنسان الأول أو الطفل الناشئ! ينظر إلى الدنيا بعين رغيبة، ويشعر بنفس ظمآنة، ويفكر بعقل طلعة. ولكنه يمتاز منهما - إن صح له الامتياز - بأنه يجمع الأسباب وينظم المنثور، ويلمح التناسب، ويتذوق الجمال! ومهمته الكبرى أما هي على التحقيق الانحدار إلى النفس ينفض غبارها، ويكشف اتساقها، وينير زواياها، ثم يخرجها لغة تهز القلب وتفيد العقل

كذلك العالم في استقرائه يدرك المجهول، ويصل العلة بالمعلول، ثم يضع القاعدة ويعمم القانون، فلو خطا أحد أمامه خطوة أو خطوتين لقدّر القوة، وراز الشدّة، وقاس المسافة، ووزن الكتلة، وانتهى من هذا كله إلى تقييد الحركة وإعلان العمل العالم والفنان كلاهما ينظر إلى أبعد من أنفه، ويسبر غور الأشياء. لقد يشتركان في الذات، ويتداخلان في الموضوع، ثم يختلفان بعد هذا في الآلة والطريق. . .!!

أرأيت إلى الحياة في مضطربها كيف تبدلها اللمحة، وتنقلها الملاوة، وتصبغها العاطفة، وتخضعها الظروف؟ ذلك ما يبعث على خلودها وامتدادها وجدَّتها وجمالها، وذلك ما وكل إلى الفن بتصويره. فالحقيقة الفنية تتصل بالمزاج والزمن والموقف، وهذه كلها أبداً في تطور مستمر عجيب، أما الحقيقة العلمية فثابتة على الدهر والأشخاص، ولئن طرأ عليها تحوير أو هدم فإنما يكون لتقريبها من الصحة والدقة والشمول

الدنيا واحدة عند العالم من حيث الجوهر والنظام. ولكنها دنى كثيرة عند الفنان من حيث الشكل والإحساس

ما عجبت لأحد من أبناء الفن عجبي لهؤلاء الأدباء اللذين يزهون بأنفسهم فلا يكتبون إلا لها، ويعنون بعواطفهم فلا يتحدثون إلا عنها، وهم لو سئلوا ما بال الجمهور يقرأ آثاركم وينشد أشعاركم؟ لقالوا: إنه متطفل يحب أن يسمو بقدره إلى منازل الكتاب والشعراء، فيستشعر الذي يستشعرون، ويطوف حيث يطفون. فالجمهور - مهما دقت نظرته وسمت أهواؤه - طفل لدن ما برح في كل العصور والأقوام يلهو ويعبث!!

أدب هؤلاء الأثرين يغشاه في أغلب الأحيان غموض، وتطل عليه فوضى، ثم لا يصح معه مقياس من المقاييس الأدبية المعروفة، وكيف تستطيع أن تقدره وتحكم له أو عليه ما دمت لا تفهمه ولا تتذوقه؟ إنما ينبغي للكتاب والشعراء أن يقطفوا من النفس والحياة ما يشترك في فهمه الناس جميعاً، أو الكثرة الغالبة من الناس، أو الطبقة النيرة منهم. ولئن صادف ألاَّ يكون هذا ولا هذا فهو إلى السخف والهذيان أدنى وأقرب. . .

غاية الفن أن يجلو النفوس ويهز الشعور، النفوس بأسرها والشعور على تلونه، شريطة أن تكون نفسنا وشعورنا في البداءة!

الكلمة الواحدة تدخل في رأسين اثنين، فتحمل إلى هذا النشوة والسلام، وتحمل إلى ذاك الفتنة والآلام!

كل امرئ وإن ثار متصل بالمجتمع، مدني بالطبع. وهذه الوشائج القوية المبهمة التي تربطه بالإنسانية تؤثر فيه ويؤثر فيها، قد لا يلمحها أوساط الناس وطغمتهم، وإنما تلمحها طائفة رفيعة خصها الله بسلامة الفكر، وحسن البصر، وقوة التصور، وهبة التصوير

قد يجيش صدر الأديب بالمعاني حتى ما يستطيع أن يحتملها، وقد ينضب حتى كأنه بلقع قفر. فحياته أبداً في نقلة وتناقض واضطراب، ما أشبه بإسفنجة رخوة لدنة تمتلئ حيناً وتفرغ حيناً! فكل ما خرج على لسانه قد تمثله من قبل ووعاه خياله، قاعدته في البيان: (خذْ وأعط)

قال سنت بوف: نصيحتي إلى أدباء الشباب ألاَّ يقلدوا من يعجبون بهم من أعلام البيان ورجال الفن، فذلك يميت نفوسهم ويشوه شخصيتهم، وإنما يتذوقون آثارهم فحسب، ثم يصورون حياتهم الخاصة كما صورها في صدق وغير تكلف، وليكن لهم مثل أعلى يوجه إنتاجهم ويصحح مقاييسهم ويهذب أهواءهم، ولا غضاضة عليهم - وهم ينشئون في لغتهم الصحيحة متأثرين بالمحيط والبيئة يستمدون منهما الوحي والقوة - أن يتساءلون من حين لآخر، وجباههم مرفوعة إلى السماء، وعيونهم شاخصة إلى الأموات الأحياء: (ترى ماذا يقال فينا!)

تستهل الحياة الأدبية عملها في الفرد والأمة بالشعر، وتدرج على الشعور، ثم تستشرف للتفكير، وتنتهي إلى النثر. ويكاد هذا يكون قانوناً لا يقبل استثناء، فلقد تذكو العاطفة فينطلق الكلام شعراً منظوماً، ويخبو الوجدان فينمو العقل ويستفيض النثر! وهنا السر كل السر في مناعة الشعر الصادق الرفيع، وندرة النابغين فيه من المعاصرين القارئ - هذه قصيدة قديسة قد فرعت من تلاوتها منذ حين. ما أصدقها وما أنور معانيها! إنها الحقيقة بإطارها وإشراقها! لا، إنها قطعة من حياتي! لا لا، إنها مصدر حياتي! ويح نفسي كم أحب أن أعلن هذا الشاعر. . .

المرأة - حذار حين تلقاه أَلاَّ تهمس في مسمعيه ما تريده، وحذار أن يجمد خاطرك ويحتبس لسانك وتنكمش طبيعتك! إنما الشاعر خطيب لسن قد وقف إلى الراديو يرسل معانيه الطلقة كأشعة رفَّافة تنطلق في الفضاء وتتوزع على الأرض، ما يرى جمهوراً صاغياً مشجعاً ولا خيالاً لجمهور، ولكن حياة صامتة هادئة تأخذ السبل وتملأ العيون! أرأيت إلى الحياة الصامتة الهادئة كيف تكون جافة ملولة إذا لم يتخللها الفينة بعد الفينة صراخ النقد أو هتاف الاستحسان! لقد يطل من كوة الفضاء صدى جميل تبرق له أسارير الشاعر، وينطلق بيانه، وتخصب عبقريته، ويسمو إنتاجه، ثم يعلم أن معانيه التي أرسلها شعاعاً قد لامست حياً يسعى، وحسب الفنان هذا من غاية وراحة!!

القارئ - أنا متصل يا عزيزتي اتصالاً وثيقاً بكبار الكتاب وسادة الفن، أما (ع) في الشعراء فقد تلابسينه اليوم واليومين وتجلسين إليه طويلاً، وتتحدثين إليه ما شئت أن تتحدثي، فما يبرح في حضرتك جامداً بكئ اللسان، سخيفاً إذا ارتأى، مضحكا ًإذا أشار، ينشر عليك اضطراباً من رأيه ودمامة من وجهه ووساخة من ملبسه! ولكن ما يكاد يرجع إلى نفسه ويغلق أبواب غرفته، ويستحي شيطان شعره حتى ينقلب مبيناً محدثاً حلواً رائعاً في رأي البصر ورأي البصيرة. لشدّ ما أسكرتني أشعاره وهزتني موسيقاه! فنصيحتي إليك ألا تقربي عظماء الرجال، أو تدخلي بيوتهم وتعيشي في ظلهم، ولكن اعشقيهم إن شئت عن بعد، وكوني معهم على غير اتصال!

المرأة - دع (عيناً) هذا فما أحب أن نتحدث فيمن غبر من الأحياء. إنما الأموات خيوط عريضة قوية تنسج مادة الماضي وتقوّم أحداث التاريخ، وتؤلف وحدة الأمة! هذا ابن أبي ربيعة الكبير كان يدلف إلى الكواعب الحسان في فحمة الليل، وغفوة الناس، وغفلة الحراس، فيقضي لبانته منهن كما شاء الهوى والشباب، ثم يلاقي ناقته في العراء، ويغيب في مطاوي الزمن! ومثله في اجتلاء الجمال جوت وبودلير ولامرتين يسبحون جاهدين في بحر الوجود، لا يستشرفون إلى شاطئ من شطآنه، ولا تريحهم موجة من أمواجه. . .

القارئ - هم يسبحون؟ لا، إنهم أوعية يملؤها الزمان ويختبئ فيها

المرأة - ثق أن الفنان يعطي أكثر مما يأخذ، ويعمل أكثر مما يجب، ويهب أكثر مما يدع

القارئ - ماذا تعنين؟

المرأة - أعني أنك مخطئ حين تجل الفن وتجعله تاجاً جميلاً على رأس الإنسانية، فالفنان كالممثل يصور معالم الحقيقة، ومواضعات الناس، واضطراب الحياة فهو كما ترى (ناقل) لا (مخترع). هو نفس في النفوس، ورجل كالرجال

القارئ - هل دريت إن حفيد الشاعر المشهور (ج) قد مات على أسوأ ما يموت البؤساء من الفقر والوحدة والنكران؟ أنا أرى إلا يعقب الفنان ذرية تعيش من بعده، وتسعى خلف نعشه، وإنما يقوم بعمله الفني أعزب وحيداً في ذاكرة التاريخ

المرأة - أنا لست أرى هذا، فالفنان حلقة في سلسلة الإنسانية ما ينبغي أن يكون آخرها وقاطعها، فلينحدر منه الناس كما انحدر هو من الناس، فأما البؤس فكما يصيب الفنان قد يصيب غيره. .!!

بيروت

محمد روحي فيصل