انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 95/دار وحبيب. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 95/دار وحبيب. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1935



للأستاذ محمد سعيد العريان

يا دار، ليتني ضللت إليك الطريق. . .! منذ سنوات وسنوات، كنت مغداي ومراحي، وكنت سعادتي وانسي، وكنت دنياي الصغرى، تلتقي عندك أماني الشباب، تستيقظ فيك أحلام الهوى!

فأين يومك من امسك يا دار؟ أما يومك - وا أسفاه - فهذا الذي أرى: كومة من أحجار، إلا جداراً يريد أن ينقض! وأما أمس. . هل تذكريني يا دار. . .؟

أين، أين ألقى اهلك الذين ابتعدت خطاهم على الأيام، وأيان، أيان تعود لياليك التي طواها الزمان؟

هنا. . . منذ سنوات وسنوات. . . أودعت قلبي إلى ملتقى موعود؛ فأين منك الوديعة يا دار؟

ما أظن الأيام على سلطانها بقادرة على أن تهدم ذكراكِ في نفسي!

ومضيت أتخطى الأنقاض وهي تئن من تحتي أنين الواجد، حتى انتهيت إلى الهيكل المستباح!

يا لله! كل شئ حي في هذا المكان، أني لأسمع همس الذكرى يرجع في مسمعي حديث الماضي؛ وإني لأرى أطياف الحب ترف رفيف الحياة؛ وإني لأشم من حولي عبير اللقاء يتخطى بي الزمان والمكان؛ وإني لأراها هي أمامي كأول عهدنا يوم التقينا، فتعارفنا، فأسرت وأسررت النجوى!

مرحباً بك يا فتاة! يا لعينيك الساحرتين! ما لأهدابك تختلج كأنما تغالبين النعاس؛ ومالك صامتة لا تنسين كائناً غريبان في هذا المكان؟ ماذا؛ مالك معرضة منكرة. . .؟

إنني أنا هو فتاتي كعهدك يوم افترقنا على ميعاد. . .

ردي على ليالي، وصلى يومنا بماضينا. . . لقد ابتعدت عني بلا وداع شد ما تسخر الأماني!

وبدأ لي من خلل الدموع شبح شيخ يقترب بين الأنقاض. . . ذاك شيخ يدب على عكازة لوحتها السنون. . . يعلو حجراً ويهبط عن حجر؛ فدنا مني وقد تقلصت شفتاه عن مثل الابتسامة أي منظر موحش. . .؟

قلت: (من تكون أيها الشيخ ومالي بك عهد؟) قال (أنا. . .؟ ما أشد حماقة الفتيان! أنا الزمان. . .! وإنما لي أن أسألك: ماذا تنشد بين هذه الأنقاض؟)

قلت: (في هذا المكان، أودعت شيئاً عزيزاً على، أنه قلبي؛ أفتدري أيها الشيخ أين ألقاه؟)

هنا في هذا المكان، كان لي أهل وأحبة وكان قلبي لديهم وديعة إن الدار لتشهد؛ فإني لأنشد هنا قلبي وشبابي وحبي. . .!

قال: (ويحك يا مسكين! أتسأل؟ الزمان أن يرد عليك ما فات. . .؟ إنك يا بني تؤمن بالحب فأسأل الحب - إن أجاب - أن يرد عليك ما استودعته. . .! ما الحب يا بني إلا خرافة؛ هل هو إلا ارق يراوح بين جنبيك ودموع تقرح بين جفنيك وانتظار يستلب شبابك من عمرك، وحنين يستغرق يومك من تاريخك وغيرة تسلبك الطمأنينة والقرار وشك ينبت في صدرك الشوك؛ وهل هو من بعد إلا الندم واللهفة والذكرى؟ أفرأيت شيئاً من ذلك يعدل ساعة من ساعات الشباب، أو يرد عليك سعادة من سعادات الماضي. .؟

هيهات يا بني هيهات. . .!)

ومضى الشيخ على وجهه وإن صدره لسراً. . .!

وعدوت في اثر الزمان أجاذبه السر فما بلغت إليه نفسي وغاب في جوف الظلام. ورجعت منكسراً لفان أنهنه أدمعي وأغالب نفسي

وإذا على الطريق شاب يبتسم

قال: (مرحباً بك يا صديقي أراك على حيد الطريق فأين أزمعت السير؟)

قلت: (أتراك تعرفني يا فتى؛ فمن تكون؟)

قال: (أنا. . .؟ ما أعجب أن تنسى! أنا رفيق صباك وأنيس أحلامك؛ أنا الأمل. . .! فما أشد أن ينكرني الشباب!)

قلت: (معذرة إليك يا أملي وإنما صرفني عن ذكرك هذاك الزمان!)

قال: (الزمان. . .؟ ويحك! وأين منك الزمان وما تزال في يديك أيامك؟ ألا إن الشباب ليصنع بيديه أيامه ويخط بيديه تاريخه ويملئ على الزمان مشيئته. . .! ألا إن هذا الشيخ الخرف الذي تسميه الزمان لعاجز أن ينالك ومعك الشباب والأمل!) قلت: (فأنني افتقد شيئاً هنا. . . في هذا المكان. . . كان لي أهل وأحبة، أودعتهم قلبي إلى ملتقى موعود؛ فهذه الدار خلا كما ترى إلا أنقاضاً ركمها الزمان حجراً على حجر؛ أفتدلني أين أجد أحبابي وقلبي؟)

قال: (لك الله ولأحبابك! أفحسبت انك وحدك الوفي الذاكر؟ إن فتاتك ما تزال هناك تنتظر وان الوديعة الغالية ما تزال في الحرز الأمين!)

قلت: (فما هذه التي تراءت لي هنا ثم تولت معرضة لم تنبس؟)

قال: (ويحك! ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها تختلج؟ إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)

قلت: (أفتراها مستطيعة أن ترد علي أيامي وقد تولى الزمان وحال المكان؟)

قال: (إن الحب لا يعرف الزمان ولا يحده المكان أنه لشيء من غير دنيانا لا يخضع لنواميس هذه الحياة؛ إن العاشق ليذكر على البعاد من يحب فإذا الماضي كله بين يديه وإذا الذي يهواه تحت ذراعه؛ وإنهما لاثنان هنا: هو خيال من يحب واثنان هناك: هي وطيف من تهوى. أفرأيت الزمان والمكان ساعتئذ قد استطاعا أن يحولا دون هذا اللقاء؛ أو رأيت شيئاً غير الحب يجعل الاثنين أربعة في زمان ومكان. . .؟

(ألم تفهم مقالة عينيها وأهدابها بها تختلج إنها تقول: اتبعني يا حبيبي. . .!)

ولمحت زهرة ترف رفيفها في ظل جدار قائم وهي تناجي أختها نجوى الحزين إلى الحزين؛ كانتا وحدهما في هذا المكان رمز الحياة بين رموز الموت من تلك الصخور المجدلة. وإن للأحجار والجماد لحياة كحياة الناس وموتا كالذي ماتوا، إن البيت الآهل لحي بسكانه ما عمروه فإذا احتملوا وهجروه فما هو حينئذ بيتا حيا وإن بقيت له معالمه وأبوابه ومفاتحه وأقفاله وان في التراب يغطي أرضه وجدرانه لمعنى من معاني القبر!

ودنوت استمع إلى نجوى الزهرتين:

قالت إحداهما لجارتها: (ويلي - يا أختاه - من المقام بين تلك الأنقاض الميتة ما أكاد أشعر إنني زهرة ذات روح وعبير لماذا نمتني الأرض وزينتني بألوان الربيع إذا كنت لا أرى العين التي تتملى حسنى معجبة شهوى؛ ولماذا أنا زهرة إذا انقضت حياتي على وتيرتها بين هذه الأنقاض لا يشم عبيري أحد ولا تتناولني يد رفيقة. . .؟)

قالت أختها: (فإنك لتبطرين النعمة! وإنك في مقامك هنا لأسعد من أخوات لك هناك في الروض؛ ما تكاد تتفتح عنهن الأكمام حتى تتناولهن الأيدي؛ فيوماً في الحرير على الصدر ويوماً في زهرية على المائدة؛ ثم هي بعد مع الزبالة تطؤها النعال. . .!)

قالت: (وهل أنا زهرة إلا أن أكون عطراً يستنثي وجمالاً يشتهي؛ ويوماً على صدر ويوماً في زهرية؟ إلا إن يوماً واحداً هناك يشعرني جمالي - لخير من أيام هنا على هذا الغصن الشائك ما ينفك يخزني كلما مالت به النسمات! ألا إنما السعادة قلب وابتسامة وإنما الحياة أن أكون شيئاً في الحياة!)

وهبت نسمة عاتية فإذا الزهرة ورقات منثورة على التراب. . .!

يا ويلتا! حتى هذه الأشياء تنشد الحب وتستوحش من الوحدة والخراب. . .!

أيتها الزهرة التي انتثرت غضة عبقة لم تنعم بالحب؛ كم من قلوب بشرية كقلبك؛ انتثرت أحلامها بددا على أنقاض اليأس والحرمان قبل أن تستنشي عطر الحب أو تذوق لذة المنى. . .!

عزاءً لك ولي. . .

طنطاً

محمد سعيد العريان