انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 947/رحلة إلى الحجاز للشيخ مصطفى البكري الصديقي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 947/رحلة إلى الحجاز للشيخ مصطفى البكري الصديقي

مجلة الرسالة - العدد 947
رحلة إلى الحجاز للشيخ مصطفى البكري الصديقي
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1951



للأستاذ سامح الخالدي

في هذه الرحلة يصف لنا الشيخ في أسلوبه الخاص رحلته إلى الحجاز، وزيارته قبر الرسول، وأدائه مناسك الحج ثم عودته

وقد دعاه إلى الحج وهون عليه الأمر، صديقه الوزير رجب باشا وقد كان أميراً للحج. فأذعن الشيخ، ويلاحظ الشيخ أن رجب باشا كلمه (بالتركي المعرب) وعرض عليه أن يستصحبه ففعل

ثم يصف لنا الشيخ وصوله إلى المدينة، وزيارته الحجرة المطهرة ثم مكة، ومناسك الحج. وقد اجتمع وهو في مكة بالشيخ محمد التافلاني (مفتي الحنفية) في القدس ودعاه إلى مرافقته إلى القاهرة فاعتذر

ويستدل من الرحلة، على عدد من الأمور الشيقة، فمنها أن الحج المصري كان قائماً في ذلك العهد، وأنه والحج الشامي يؤلفان أهم موكبين من مواكب الحجاج، وكيف كان الحرم في مكة يفتح في الليل خصيصا لأمير الحج الشامي، وقد فات الشيخ استمتاعه بهذه الفرصة النادرة لانشغاله في الوضوء، إذ لم يكد يستعد لدخول الحرم في الليل حتى أقفلت أبوابه

وكان أمير الحج، قد أقام مولداً وفرق الدنانير، ويصف لنا الشيخ تأثراته في المدينة ومكة، وقد أخذه الحال، حتى كاد يتأخر عن الركب الراجع بعد الحج

ويظهر من وصف الشيخ أن قوافل الحجاج كانت تحرسها الجنود، ويصفهم بالجردة، ويقول أن تأخر وصولهم أقلق الحجاج، ولما أطلوا، عادت إليهم طمأنينتهم

كما يصف لنا الشيخ ما فعلته الأمطار في (الحسا) من اضطراب، ونقص في الجمال

وإننا نترك الآن للشيخ البكري أن يصف لنا رحلته الشيقة في حجه المبرور:

وبعد: فيقول أفقر الأنام وأحقر الخدام بكثرة الآثام مصطفى بن كمال الدين بن علي الصديقي، لما كان الحج على المستطيع من الأمة فرضا، كانت النفس تشوق لأدائه لتكون ممن الحق أرضى، ونتشوق لزيارة تلك الأماكن، التي إليها القلب متحرك غير ساكن، لكن عدم وجود الاستطاعة لها مانع، وكلما هم العبد أعجزته الأقدار وأقعدته الموانع، إلى أن فتح الحق الوهاب بابا لزيارة البيت المقدس المستطاب، وذلك عام (1122هـ - 1710م) وذكرت ما اتفق لنا في هذه الخطرة في الرحلة المسماة (بالخمرة المحسية في الرحلة القدسية) ثم عدنا إلى الديار، وأقمنا فيها مدة بحكم الاضطرار، فهاجت بنا دواعي الشوق، ودبت فينا نشوة التوق، إلى تلك الآثار المقدسة وثارت الأشجان إلى لقاء الأخوان في سنة (1126هـ - 1714م) وأودعت ما وقع هذه الكرة وما جرى هذه المرة، في كراسة وسميتها (الخطرة الثانية الأنسية للروضة الدانية القدسية) وكرينا على الأوطان، وأعددنا أنفسنا من القطان، في شهر رمضان سنة (1127هـ) وأقمنا إلى شهر رجب من شهور عام ثمانية وعشرين، فحرك الحق سبحانه الهمة إلى زيارة علم الشرق وما حواه العراق من السادات المتكاثرة. ولما وصلنا إلى محروسة حلب لم تقسم الزيارة لأمر محتم، فقصدنا زيارة سلطان الزهاد سيدي إبراهيم بن أدهم، ومكثنا في طرابلس الشام نحو سبعة أشهر وأيام، وتراجعنا للآثار المقدسة، لعلاقة لا تنسى، وضمنت بعض ما شهدناه في جزء سميته (الحلة الذهبية في الرحلة الحلبية) وعطفنا على المرابع السامية الشامية؛ عام ثلاثين راجين القرب من رب البرية وازداد وارد الأدكار والأفكار، كيف الوصول إلى سعاد الحجاز الرفيع المنار، وكان عام ثمانية وعشرين توجهت همة الأخ عبد الكريم القطان، إلى الحج الشريف، فقال له الأخ ذو الود والوفا الشيخ مصطفى ابن عمرو، أنت حجيت واجعل هذه عن أخيك فلان، ليحصل لك الثواب سبعين حجة كما جاء في بعض الآثار، فقبل منه ذلك وقرأ الفاتحة وتوجه لذلك المقام، نائباً عن الفقير في رحلته، وذكرت ذلك في ترجمته المسماة (بالصراط المستقيم في ترجمة الأخ الشيخ عبد الكريم) ولما عدت للديار ودخلت سنة (1130هـ) وقرب زمن مسير الحاج، أنشدني المجذوب الشيخ أحمد بن سراج مطاوعياً، ثم قال لي يا مصطفى (أن مرادهم يرسلوني إلى الحج في هذا العام) ففهمت إشارته ومقصده، في هذا الكلام، فقلت له (أرسلني نائبا عنك) فقال (أتروح)؟ فقلت (نعم ولو أن الروح تروح) فقال (ان رحت أرسلك مكاني) فقلت (عسى أن يدنو التهاني). ثم غاب وحضر بعد مضي جملة أيام. وجاءني قائلا (مرادنا نرسلك إلى الحج في هذا العام) فقلت (حفظك الله السلام، هذا هو القصد والمرام). وكنت ذهبت لوداع الحاج قبل هذا العام بعامين أو أكثر، وأنشدت حين شهدت الهوادج والأجمال تسير بلامين للسيد الأكبر:

زجروا العيس نحو وادي العقيق ... ليت شعري هل لي له من طريق ولما رأيت (الأجمال) سائرة تخب الأرض خبا، والقلوب طائرة، والأقدام تطوي السباسب خبا، تزايدت منا الحسرات، وبعد العود من التوديع، قيدت هذا القصيد الآتي مخافة أن يضيع، وأنشدتها الرفيق الأعز الأخ الشيخ عبد الكريم الجمل فهاج وماج، ولمفصل ما عنده أجمل، وبكى واستبكى، والمدامع أهمل، وهي:

أبروق لاحت بتلك البوادي ... أم بواد في حي سلمى بوادي الخ

اجتماعه بصديقه رجب باشا والى الشام وأمير الحج:

(وكنت لما اجتمعت بجناب الدستور الأكرم، والمشير الأفخم محبنا الأعظم، والى الديار الشامية، وأمير الحج في هذه السنة السنية، رجب باشا، حبي من الخيرات ماشا، سألني (هل حججت؟) قلت (لا) فعرض أن نصحبه في الزيارة، وصرح في كلامه التركي المعرب الآن، بعد التعريض والإشارة، فأحلنا الأمر على الإرادة، ورجونا حجاً مبروراً لنيل السعادة

عم الشيخ البكري يحج أيضا:

(ولما توجهت همة العم، زاد السرور وزال الغم، وكنت أرى لي قبله مالاً، فقلت أحسب مصرفه على منه مآلا. وسألته الرفق والإرفاق، فأجاب بالوفاق والإشفاق، وأخبرت أن الوزير المشار إليه، أمره بأخذ الفقير فهان الصعب عليه، وعند الحزم والعزم على الرحيل، ودعنا قطب رحى الوجود، شيخنا صاحب الكشف الأنسي، جناب الشيخ عبد الغني النابلسي، وجميع من عنده. ممن أصحبهم رفده

زيارة المشاهد وقبور الأجداد قبل التوجه إلى الحج:

(وزرنا قدوة العارفين سلطان الغارقين في بحر الوحدة والعارفين سيدي محبي الدين، وتوجهنا بأهل السفح، ثم زرنا الوالد والأجداد الكرام في مقبرة الشيخ أرسلان، وتممنا الزيارة بشيخنا المرحوم الشيخ عبد اللطيف، وختمنا بمرقد سيدي عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، وهذا المرقد على التحقيق لجدنا سيدي محمد ابن عبد الرحمن المعروف بابن أبي عتيق، وسبب ذلك أن محمد بن عبد الرحمن هذا ولد له عبد الله وله عقب، فاتفق أن عدة من أولاد أبي بكر رضي الله عنه، تناضلوا، فقال أحدهم (أنا ابن الصديق) وقال الآخر: (أنا ابن ثاني اثنين) وقال آخر: (أنا ابن صاحب الغار) وقال محمد بن عبد الرحمن: (أنا ابن أبي عتيق) فنسب إلى ذلك هو وولده إلى اليوم. ذكره ابن قتيبة في تاريخه. وأما عبد الرحمن الحد الأعلى فمات فجأة سنة (53 هـ أو 58 هـ) وحمل إلى مكة ودفن بها، ذكره الشيخ محمد بن عبد الدائم البرماوي في (شرحه الزاهر البسام فيما حوته عمدة الأحكام)

(وبعد إتمام الزيارة وتوديع الأهل والأحباب الأخيار توجهنا مع العم إلى قبة الحاج، عشية النهار، وبتنا في سرور وبسط تام. بين رفقة أعزة وأحبة كرام)

في طريق الحج:

(وفي صبيحة اليوم الأزهر الميمون، سرنا إلى (الكسوة) ونزلنا قريبا من تلك العيون، وساروا بنا ليلة السبت إلى (المزريب) فوصلناه وأقمنا فيه أياما بعيش خصيب، وفيه شرعت في مسودة هذه الرحلة المباركة المسماة (الحلة الحقيقية لا المجازية في الرحلة الحجازية)، ولم نزل نسير، والحق سبحانه يهون العسير، إلى أن وصلنا (معان) والحاج كما يقال معان، والزفرة في وهج، تصلى بحرها المهج

وأقمنا يوما بها ثم سرنا ... نحو تلك الرحاب نرجو الأمانا

نترامى على الوشاة غراما ... كي يمر الزمان نأتي المكانا

ولديه يلتذ سمعي بمغنى ... فيه نغنى عن الشوادي يدانا

(وكنا نشتغل في المحفة ببعض أذكار وأوراد، تدني الإمداد وتبعد الأنكاد، ولما وصلنا (المعلى) سبحنا العلي الأعلى، وأهدينا الفواتح لمن حلها من أهل التكريم، وخصينا بفاتحة الأخ الشيخ عبد الكريم، فإنه دفن بها بعد العودة من الحج المبرور، نائبا عن الفقير، كما قدمنا قريبا بهذه السطور

(وما زلنا نسير إلى أن وصلنا منزلا نلنا به غاية الابتهاج، إذ يلاقي فيه أهل المدينة الحجاج، وفي عشية تلك الليلة رأى الناس طلائع الأنوار، من ناحية السيد السند الحبيب الطبيب المختار، وحج الحجيج لرؤية ذلك، بالصلاة والتسليم على زين الممالك، ولم نزل بحول من أعلى وأنزل، نطوي البيد طي، طالبين وادي العقيق، إلى أن لاحت للعين لوائح القرب، وطاب للشارب من دموعه هناك الشرب، وحق لنا أن نلثم أخفاف الجمال، التي حملتنا إلى أن شاهدنا هذا الجمال. وفي هذا المعنى أنشد الواله المعنى: وإذا المطى بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام

قريننا من خير من وطئ الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام

وحق للزائر، أن ينشد مكان تلك الدوائر:

فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

(ولما عجنا على وادي العقيق ضحى، سالت الآماق الجامدة، واضطرمت الأنواق الخامدة، وأنقينا العين على شهود العين، وحبذا عين تنفق في عين، ونزلنا إذ رأينا على البعد المنارات النيرة، والبناء المدهش نوره وبروق آثاره محيرة، فألقينا عن الرواحل من فرط المسرة أنفسنا، وقلنا للأنفس، هذا الأنفس الذي من أنفسنا وأنفسنا، ونزولنا عند رؤية الآثار من السنة لا يقال فيه لبس، لأنه أقر على ذلك سيد الأكوان وقد عبد قيس. قال الفاكهي (في حسن التوسل في زيارة أفضل الرسل) في الفصل التاسع والأربعين، أي من الآداب أن ينزل عن راحلته إذا رأى المدينة ومنائرها تواضعا لله، وإجلالا لنبيه، وأن يمشي إلى المسجد إذا استطاع بلا مشقة شديدة، وآلا مشى قليلا، لأن وفد عبد قيس لما رأوا النبي نزلوا عن الرواحل ولم ينكر عليهم وكانوا نزلوا بإلقاء أنفسهم قبل أن ينخوها، فإلقاء النفس بحيث لا يتأذى ولا يؤذي الدابة وغيرها حسن فيما يظهر

ونقل أن العلامة أبا الفضل الجوهري ترجل عند قرب بيوتها باكيا منشداً:

ولما رأينا ربع من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيه أن نلم به ركبا

انتهى. وهذا الكتاب يعزى للمحقق المقدم الهيتمي، وكتابه (الدر المنظم في زيارة القبر المعظم). والقينا في الخيام عصي التسيار، وقلنا ما بعد العشية من عرار، وبادرنا إلى الزيارة، فرحين بمن حللنا داره

للمقال بقية

سامح الخالدي