مجلة الرسالة/العدد 945/الأدب والفن في أسبوع
مجلة الرسالة/العدد 945/الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الشوق إلى المتاعب:
ما زلت أذكر مسرحية (حورية من المريخ) التي قدمتها من نحو شهرين فرقة المسرح المصري الحديث، تلك المسرحية التي تقوم فكرتها على أن الإنسان يضيق بما جرى على هذه الأرض وما يحدث له من متاعب في حياته ويود لو خلص منها، فإذا أتيح له الخلاص مما يقلقه ويشقيه، إلى حياة ناعمة صافية لا يجد فيها من يشغب عليه ويعاكسه، ضاق بها وشقي بهذه (السعادة) التي تحرمه ما جبل عليه حب الشغب والميل إلى خلط الصفو بالكدر
شاهدنا في المسرحية الزوج الذي يتبرم بزوجته لما تأتيه من تصرفات حمقاء وما يعانيه من شقاق بينهما الدائم، ثم يرى فيما يرى النائم حوريات من المريخ. . ولا بد أن تعجب من منافسة المريخ للجنة! ولا أحب أن أدعك في هذا العجب فأسر لك السبب قبل أن نمضي في الحديث:
عرضت المسرحية - وكان اسمها (حورية من الجنة) - على الرقيب بوزارة الداخلية ليجيز تمثيلها، فاستأني حتى طالت لحيته. . ولبس عمامة كبيرة. . . ثم أفتى - نجانا الله من فقهه. آمين - بأن الحورية لا يجوز أن تهب من الجنة إلى المسرح لا حرج أن تهبط من المريخ، وإن لم توجد في المريخ حوريات فيجوز أن تنتقل من الجنة أولا إلى المريخ، ثم تسافر منهو إلى مسرح حديقة الأزبكية الصيفي. . فلم يسع الأستاذ زكي طليمات إلا أن يرضخ و (يخرج) الحورية من المريخ كما يستخرج الشراب من الفسيخ. .
رأى ذلك الزوج ثلاث حوريات يرقصن ويغنين، فأحب إحداهن وأحبته، ورضيت أن تعيش معه على سطح الأرض زوجة وفية مخلصة، وجرت الأمور بينهما كما تجري في. . . المريخ! فلا مخالفة ولا شقاق، بل طاعة عمياء وصفو خالص، ولكن يظهر أن في الإنسان غريزة لم يكشفها علماء النفس بعد، هي غريزة المشاغبة التي تدفعه إلى الهرب من الاستقرار والراحة والدعة ليطلب المتاعب و (المناكفات) فاشتاق الرجل إلى زوجته الأولى وإلى مشاغباتها اللذيذة الممتعة، حتى قيض له ما أراد، واستيقظ من النوم ليجد زوجته الأرضية عائدة من السينما. . ذكرت تلك المسرحية الممتعة وحوادثها الشائقة، في هذا الصيف الهادئ النائي الذي يكاد يشبه المريخ في الخلو من الحوريات. . . والذي لجأت إليه من نحو شهر هربا من متاعب القاهرة وحرها وزحامها وخلوها من البطيخ (الشلين بلاك) وقد أخذت هذا المصيف الفطري لأكون بعيدا عن زحمة المدن ومثيرات الأعصاب فيها، وآثرت أن أخلد إلى السكون والراحة التامة، ورجوت صديقي الشاعر، وهو يصطاف قريبا مني أن يجنبني سماع ما يقرض.
وتم لي ذلك وشملني السكون وتلقاني البحر، يدعوني إليه أحيانا فيبل ما جف من أعصابي، ثم لا يلبث أن يضجر مني فيقذفني إلى رمال الشاطئ فأرتمي عليها وأشكو إليها ضعفي وجراح نفسي. .
ثم وجدتني أهرع إلى صديقي الشاعر لأسمع منه، وآخذ مع الرفاق في حديث الأدب والفن، بل أجرهم إليه وأحملهم عليه وأنظر حولي فلا أبصر إلا الماء والرمل والسماء، وأشواقا إلى القاهرة والى الاضطراب في أنحائها والاختلاف إلى ما جريت على الاختلاف أليه فيها، بل إلى صخبها وضجيجها وترامها كان البحر يقول لي: هنا الروح والدعة، فتعالي إلي ودع الدنيا وألق مشاغلها على الشاطئ واغسل همومك بين أحضاني ثم صوت أسمع من أمواجه الصاخبة المتحاربة دائما: أن هلم إلى معترك الحياة وعد إلى معامعها، فالسكون موت والحركة حياة وما أزل مصغيا إليه، أستمع ولا أقتنع، انتظارا لعاقبة التي أقتدر بها على تمام الاقتناع.
ابن حمديس
تلقيت من الصديق الكريم الذي لم أتشرف بلقائه بعد، الأستاذ الشاعر عبد القادر رشيد الناصري، رسالة مطولة ناقش فيها رأياً للأستاذ عباس محمود العقاد في (ابن حمديس) الشاعر الصقلي، والرسالة هي كما بلى بعد شيء من الاختصار وحذف التحيات التي يستحق الأخ أحسن منها: أنا لا أنكر أن الأستاذ العقاد ذهن جبار متوقد، بل هو أكثر أدباء الشرق ثقافة، فهو أديب وشاعر وخطيب وسياسي وناقد ومترجم، وإن كان شعره لا يبلغ منزلة نثره، ولكني قرأت له قبل أيام رأيا استغربت أن يصدر من رجل مثله له مكانته في عالم النقد، وهذا الرأي منشور في الصفحة (93) من كتابه (خلاصة اليومة) ولم أكن قد اطلعت قبل الآن، يقول عن ابن حمديس: شاعر صدرت عنه الشهرة بعد أن أقبلت عليه، وطواه الخمول بعد أن طبق ذكره الآفاق، ولكن هذا الشاعر المجهول قد زاد بديوانه على ثروة اللغة العربية خيرة أضاعها التفريط، وأودع من المعاني ما لم يضمنها إياها شاعر عربي آخر. ولقد كان ينبغي أن لا نذكر المتنبي وابن أبي حفصة وابن هانئ وغير هؤلاء من محترفي الشعر - كان ينبغي أن لا نذكرهم مرة إلا ذكرنا ابن حمديس مرارا، هذا الذي لا يذكره قراء العربية إلا كما يذكرون شعراء الغرب والصين، ولولا (ابن) قبل حمديس لما درى أكثرنا إن كان اسم رجل أو اسم مكان، ثم يسترسل العقاد حتى يقول:
وما ألطف قوله
تطيب أفواهن الحديث ... بحمر الشفاه وبيض الثغور
كما مر بالورد والأقحوان ... نسيم مشوب بريا العبير
ألا يترشف من بيتيه هذين رضاب الحسان، وتتنسم ريح الورد والأقحوان؟
وما أغزر دموع هذين البيتين:
ويا ريح إما مريت الحيا ... ورويت منه الربوع الظماء
فسوقي إلى جهام السحاب ... لأملأهن من الدمع ماء
وهل قال (شلي) في قصيدته (القنبرة) أحدث من هذا
أصبا هبت بريحان الصبا ... أو شمال أسكرتني بالشمول
حيث غنتني شوادي روضة ... مطربات بخفيف وثقيل
في أعاريض قصار خفيت ... دقة في الوزن عن فهم الخليل
ولحون حار فيها معبد ... وله علم بموسيقى الهديل
والدجى يرنو إلى صاحبه ... بعيون من نجوم الجو حول
وأين بيتنا صبري وشوقي في تنزيه صاحبتيهما عن هذا
البيت:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
وإلى هنا يختتم الأستاذ العقاد كلمته عن هذا الشاعر، ونراه يوازن بين ابن حمديس وباقي الشعراء فيجعله في مصاف المتنبي والبحتري وابن هانئ! في أي ميزان من موازين النقد يوضع ابن حمديس مع المتنبي والبحتري؟ ويقول العقاد إن ابن حمديس أودع اللغة العربية من المعاني ما لم يضمنها غياها شاعر آخر! إذن أين مكان ابن الرومي وأبي تمام وأبي نواس وبشار بن برد وابن المعتز؟ وما هي الثروة التي أضافها ابن حمديس وشعره لا يتعدى التقليد لشعراء بني العباس وبني أمية؟ وكيف يتهم الأستاذ العقاد أدباء العربية بجهل ابن حمديس؟! أما قوله عن بيتي ابن حمديس (تطيب أفواهن. . . الخ) فأحيله إلى الأستاذ العقاد وأقول إنني لم أترشف منه رضاب الحسان، ولا أتنسم ريح الورد، وعندي أن أبيات بشار في وصف أحاديث الحسان خير بكثير من هذين البيتين، وكذلك أبيات الرومي وبعض ما قال عم بن أبي ربيعة، ولا شك أن الأستاذ مطلع أكثر من غيره على ما ذكرت
والعقاد بعد هذا أكثر أدباء العرب فهما للأدب الإنجليزي فكيف يقول إن أبيات حمديس اللامية من قصيدة (شلي) في وصف القبرة؟ وهذه القصيدة لا تعد فذة في الأدب الإنجليزي فقط بل في الأدب العالمي والغنائي، ومن شاء فليرجع إلى نصها الإنجليزي أو ليقرأها مترجمة إلى العربية وخير ترجمة لها ترجمة المرحوم علي محمود طه وهي منشورة بكاملها في كتابه (أرواح شاردة) فهل توافقني أيها الصديق على أن قصيدة ابن حمديس التي ذكرها العقاد لا تقاس بقبرة شلي إلا كما يقاس الصدف بالدر؟ ويقارن الأستاذ العقاد بيت ابن حمديس:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
ببيتي صبري ووقي، ويقصد بيت صبري (إسماعيل صبري باشا):
أنت روحانية لا تدعي ... أن هذا الحسن من طين وماء
وبيت شوقي:
صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني
أما أنا فأقول إن بيت شوقي أحسن الأبيات وأحلفها وأقواها ديباجة وأملؤها للنفس. ولولا (روائح الجنة) التي اقتبسها من أبي العتاهية لما بقي للبيت أي جمال. واترك لك يا صاحب الدب والفن في أسبوع المقارنة بين الأبيات الثلاثة فها الشاعر الذي أعجب به العقاد لو درسه الأدباء دراسة استقصاء وبحث لعلموا أن الأستاذ العقاد لم ينصف المتنبي وابن هانئ عندما قرنه بهما. هذا هو رأيي. وأقول أكثر من ذلك إنه لولا بعض القطع التي تحفل بالصور الشعرية في شعر ابن حمديس لما استحق الذكر، فهل أقرأ رأيك في هذا الذي كره الأستاذ العقاد قريبا؟ ودم لأخيك:
عبد القادر رشيد الناصري
بغداد
أجل يا صديقي. سأدل بما أراه لا فيما قال به أديبنا الكبير فحسب، بل كذلك فيما ارتأيته أنت، وسأخالفك في بعضه، وقد خالفتك من قبل في بيت للدكتور إبراهيم ناجي، وأكبر الظن أنك أوسعت صدرك لتلك المخالفة، واكبر الظن أيضا - كما يعبر عميدنا الدكتور طه حسين باشا - أنك موسع صدرك للمرة الثانية في هذه المخالفة الجديدة أصدر العقاد كتاب (خلاصة اليومية) من نحو ثلاثين سنة، ولعله أول كتاب ظهر له. وقد درس بعد ذلك ابن الرومي وأبن أبي ربيعة وابن برد وغيرهم من شعراء العربية دراسة دقيقة مستقصية ولا بد أن قد تبين له من تلك الدراسات أن ما أودعه ابن حمديس اللغة العربية من المعاني لا يعد شيئا بجانب ما ضمنه إياها شاعر كابن الرومي مثلا
وقد كان ابن حمديس مجهولا لاحقا في ذلك القوت، وقد التفت إليه الأدباء بعد ذلكن وإن كانت هذه التفاتات يسيرة، واذكر أننا سمعنا محضرة قيمة عن هـ الشاعر الرقيق من الأستاذ السباعي بيومي بك، ألقاها سنة 1943 في ناد بالخرطوم، وكنت هناك في ذلك الوقت وديوان ابن حمديس غير متداول في مصر، ولم أر له غير نسخة واحدة بدار الكتب المصرية، طبعها ونشرها أحد المستشرقين. ولابن حمديس بيت سائر معجب هو:
أواه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم
وهذا يدل على أن الشاعر اصبح معروفا، وإن لم ينل بعد حقه من التعريف به ودراسته ونشر شعره
وأنا أوافقك يا صديقي على أن ابن حمديس لا يبلغ شأو من ذكرت من الشعراء، عدا ابن هانئ الأندلسي على رغم ما يقولونه من أنه (متنبي الغرب) ولا أتحرج من المصارحة بأني لا أجد مصداق كل ما يقولون في شعراء الغرب العربي وفي أشعارهم. ولا أرى العربية ظفرت في عصورها المختلفة بأمتع وأبدع من شعراء بغداد في عهد العباس، وليقل من ياء في جمال الطبيعة وتأثير البيئة الطبيعية ما يقول ولكني مع ذلك لا أرى ابن حمديس في المكان الذي نزلت به إليه، وأراك قد حملت على أبياته حملة غير منصفة. وقد قرأت وصف بشار وابن الرومي لأحاديث الحسان في أبيات جميلة لست أذكر نصها، وليس لدى من الكتب في مصيفي النائي ما أرجع إليه من أجلها، ولكن هذا لا يغض من جمال بيتي ابن حمديس. أما ابن ربيعة فلست أعلم عنه إلا حكايته لأحاديث النساء، وهي شيء آخر وصف أحاديثهن. ويشبه معنى حمديس للمرحوم مصطفى صادق الرفاعي هو:
إذا سألوها لجلجت فكأنما ... غرا اللفظ - لما مر من فمها - سكر
وتصوير الرافعي للفظ المترنح بديع
ولست أدري يا أخي لماذا لا يعجبك قول حمديس:
لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك
وكيف تفضل عليه بيت شوقي؟ حقا إن بيت أمير الشعراء أقوى ديباجة، ولكن انظر أليه وهو يأمرها أن تبتعد عنه وهو أمر لا يستساغ مهما كانت الأسباب. وخاطر شوقي ذهني جاف لا ينديه ماء الشعور. أما (روائح الجنة) فهي تدل على ما وراءها من حسن مرهف. وإنك لتظلم الشاعر إذ تسلبه فضل هذا التعبير لأن أبا العتاهية سبقه إلى الكلمة في قوله:
إن الشباب حجة التصابي ... روائح الجنة في الشباب
فإن استعمال كل منهما (روائح الجنة) غير استعمال الآخر
وليس هناك أية صلة بين المعنيين.
والحمد لله على أن أهملت بيت صبري في المقارنة بين الأبيات الثلاثة. . . وإني لعلى يقين أن التي يصفها لم تدع حسنها من ماء وطين. . حتى يقف موقف المفند لدعواها! وقد استحسن مؤلف (خلاصة اليومية) مخاطبة ابن حمديس للريح لتسوق إليه السحب الخالية من المطر ليملأها من دمعة لأنها تدل على غزارة دمعه. . وهي مبالغة ليس وراءها شيء إلا إذا كانت العبرة بالكمية!
أما المقارنة بين أبيات حمديس اللامية وبين قصيدة شلي في القبرة، فليس لدي الآن في المصيف ما ارجع إليه من أجل هذه القصيدة، وقد أجد في أمرها ما يدعو إلى تناولها بعد العودة إلى القاهرة إن شاء الله.
عباس خضر
مصيف بلطين