مجلة الرسالة/العدد 938/في الحديث المحمدي
مجلة الرسالة/العدد 938/في الحديث المحمدي
8 - في الحديث المحمدي
للأستاذ محمود أبو رية
وضع الحديث وأسبابه:
كان من آثار تأخير تدوين الحديث إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة وصدر من المائة الثانية، أن اتسمت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ما ضابط ولا قيد، حتى لقد بلغ ما روى من الأحاديث الموضوعة مئات الألوف لا يزال شيء كثير منها منبثاً في الكتب المنتشرة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والحديث الموضوع هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله (ص) زوراً وبهتاناً سواءً أكان ذلك عمداًأخطأ ووضع الحديث على رسول الله كان - كما قال أحد الأئمة: - أشد خطراً على الدين وأنكى ضرراً بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربيين، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية الخ لهو أثر من آثار الوضع في الدين.
قال المرتضى اليماني في كتابه إيثار الحقإن معظم ابتداع المبدعين من أهل الإسلام إنما يرجع إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين، والنقص منه، ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب عليه.
وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض: الكاذبون حزبان: أحدهما - حزب عرفوا بالكذب في حديث رسول الله وهم أنواع؛ منهم من يضع ما لم يقله (ص) أصلاً كالزنادقة وأشباههم. . . إما حسبة بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب وإما أغراباً وسمعة كفسقة المحدثين، وإما تعصباً واحتجاجاً كدعاة المبتدعة وتعصبي المذاهب، وإما إشباعاً لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلب الفوز لهم فيما أتوه. ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً. ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويعتمد ذلك إما للأغراب على غيره، وإما لدفع الجهالة عن نفسه. ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يلق. ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي (ص).
وقال العلامة السيد رشيد رضا في تفسير المنار (إن العابثين بالإسلام ومحال إفساد المسلمين وإزالة ملكهم من زنادقة اليهود والفرس وغيرهم من أهل الابتداع وأهل العصبيات العلوية والأموية والعباسية قد وضعوا الأحاديث الموضوعة إلا باعتراف من تاب إلى الله من واضعها. ولقد كان الأستاذ الإمام محمد عبده يقول: (إن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه أهل الصدر الأول قبل ظهور الفتن).
وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: إن أصل الكذب في أحاديث الفضائل كلها من وجهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم (علي) حملهم على وضعها عداوة خصومهم. . فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث.
ولوضع الحديث والكذب على رسول الله (ص) أسباب كثيرة ذكرها المحدثون، جمعها السيد رضا ونشرها في مجلة المنار وها هي ذي: (أحدها) وهو أهمها ما وصفة الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. قال حماد بن زيد، وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث - وهذا يحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبهأن وإلا فقد نقلوا أن زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة آلف حديث أحرم فيها الحلال وأحلل الحرام (ثانيها) الوضع لنصرة المذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبة، ولم يكن المقصود من ذلك إلا إقحام مناظره والظهور عليه حتى أنهم جعلوا (الخلاف) علماً صنفوا فيه المصنفات، مع أن دينهم ما عادى شيئاً كما عادى الخلاف. . تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الحديث، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً. وليس الوضع لنصرة المذاهب محصوراً في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول، بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذاهبه أو تعظيم إمامه سوف نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله. وإليك الآن حديثاً واحداً وهو (يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي! وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً. قالوا: وهذا الإفك لا يحتاج إلى بيان بطلانه، ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة. . (ثالثها) الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة، وهؤلاء العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة، ولذلك راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة. . (رابعها) قصد التقريب من الملوك والسلاطين والأمراء. . وكما كذب علماء السوء على الرسول (ص) لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأخلهم (خامسها) الخطأ والسهو - وقع هذا لقوم. ومنهم من ظهر له الصواب ولم يرجع إليه أنفة واستنكافاً أن ينسب إليهم الغلط. ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع (سادسها) التحديث عن الحفظ ممن كانت لهم كتب يعتمد عليها فلم يتقن الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط (سابعها) اختلاط العقل في آخر العمر، وقع هذا لجماعة من الثقاة فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روى عنهم في طور الكمال والعقل وبين ما روى في طور الاختلاط والهرم (ثامنها) الظهور على الخصم في المناظرة ولاسيما إذا كانت في الملأ. وقال ابن الجوزي: ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله كما يطابق هواه توفيقاً لجداله وتقويماً لمقاله واستطالة على خصمه ومحبة للغلب وطلباً للرياسة وفراراً من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره (تاسعها) إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصاص. . ونقول إن قصاص هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم - فقلما نرى واعظاً يحفظ الصحاح وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات. . لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرئ على المعاصي بالأماني والتشهي. . (عاشرها) شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس، ولعل الذي سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث الكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال. . وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام (حادي عشرها) إجارة وضع الأسانيد للكلام الحسن ليجعل حديثاً؛ ذكروا هذا للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحاً أو ضعيفاً أو موضوعأن فيقول من في دينه رقة وفي علمه دغل هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان، ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل السؤال. وهذا نوع من أنواع الوضع وشعبة من شعب الكذب على رسول الله (ص) وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى رسول الله (ص). وختم السيد رشيد رحمه الله هذه الأسباب بقوله:
والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق بالعبادة، إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد النبي (ص) جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية. والجزئيات تجري على ما قال أحد الأئمة: (تحدث للناس أقضيه الخ).
الوضع بالإدراج
وقد يأتي الوضع من الراوي للحديث من غير قصد وعدوا ذلك من باب (الإدراج) والحديث المدرج ما كانت فيه زيادة ليست منه، والأمثلة في ذلك كثيرة نكتفي منها بحديث واحد وهو (أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم - فضيقوا مجاريه بالجوع. ذكره الغزالي في الإحياء. وقد قال العراقي - متفق عليه دون فضيقوا مجاريه بالجوع؛ فإنه مدرج من بعض الصوفية.
وقد ذكروا أن (الإدراج نوعان: إدراج في المتن وإدراج في الإسناد (ومدرج المتن) ثلاثة أقسام (الأول) في أول الحديث مثل: أسبغوا الوضوء وبل للأعقاب من النار (والثاني) في أثنائه وهو كثير مثل حديث (مس الذكر) (والثالث) في آخره وهو القلب المشهور كما في حديث الكسوف في الصحيح وهو (أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وأما الإدراج في السند فيرجع إليه في مكانه من كتب القوم لأنه من فنهم.
وهناك أسباب أخرى للوضع ذكرها المستشرقون والباحثون في الدين الإسلامي من غير المسلمين أمسكنا عن ذكرها إيثاراً للإيجار. ومن يرد معرفتها يرجع إليها عندهم.
الوضاع الصالحون تبين مما ذكرناه في أسباب الوضع أن الكذب على رسول الله (ص) لم يكن مقصوراً على أعداء الدين وأصحاب الأهواء من المسلمين؛ بل كان يقع كذلك من العباد الصالحين ويجعلون ذلك حسبة في زعمهم ويحسبون أنهم بعملهم هذا يخدمون رسول الله ودينه، فكانوا إذا سألهم سائل، كيف تكذبون على رسول الله؟ قالوا (إننا نكذب له لا عليه! وإن الكذب على من تعمده)!
وقد روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن سعيد القطان قال: لم نر الصالحين في شيء أكذب نتهم في الحديث. وفي رواية لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم يعني أنه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب قال النووي: لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفون، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب
وروى مسلم عن أبي الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث. وقال إسماعيل بن إدريس سمعت خالي مالكا يقول، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم! لقد أدركت سبعين ممن يقول، قال رسول الله عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعة! وما دروا أن تقويله (ص) مالم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب والندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام المكروه، ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامة حيث حوزوا وضع الحديث في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في الكتاب والسنة، واحتجوا بأنه (كذب له لا عليه) وهو جهل باللغة العربية.
وقال عبد الله النهاوندي، قلت لغلام خليل من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناها لترقق بها قلوب العامة. وقد قال ابن الجوزي عن غلام خليل هذا إنه كان يتنهد ويهجر شهوات الدنيا ويتقوت الباقلاء صرفاً وغلقت أسواق بغداد يوم موته. وكان أحمد بن محمد الفقيه المروزي من صلب أهل زمانه في السنة، وأكثرهم مدافعة عنهأن ويحقر كل من خالفهأن وكان مع ذلك يضع الحديث وبقلبه.
والأمثلة كثيرة جداً.
وقد قال العلائي: أشد الأصناف ضرراً أهل الزهد كما قال ابن الصلاح كذا المتفقهة. وأما باقي الأصناف كالزنادقة فالأمر فيهم سهل لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا يخفي إلا على الأغبياء.
المنصور
للكلام صلة
محمود أبو رية