انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 937/بريطانيا العظمى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 937/بريطانيا العظمى

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 06 - 1951



للأستاذ أبو الفتوح عطيفة

ديمقراطية:

لعل السؤال التالي يجول بخاطرك أيها القارئ الكريم: من يحكم إنجلترا؟ أهو مليكها أم رئيس الوزراء أم مجلس العموم أم مجلس اللوردات؟ وأنا أجيبك عن هذا السؤال فأقول: إن مجلس العموم هو الذي يحكم إنجلترا؛ ذلك أن مجلس العموم يمثل الشعب البريطاني أصدق تمثيل، ورئيس وزرائها لا يستطيع أن يبقي في مركزه يوماً واحداً إذا قبض هذا المجلس عنه ثقته، وإذن فمصدر السلطات جميعا هو الشعب البريطاني، وأما ملك إنجلترا فإنه حسب التقاليد يملك ولا يحكم، وأما مجلس اللوردات فهو مجلس تقليدي ليس له من الأمر شئ.

وأجب أن أضرب للقارئ مثلاً عن الديمقراطية في بريطانيا وهو مثل قريب جداً إلى الأذهان، ولكنه يبين لنا إلى أي حد يعتبر مجلس العموم ممثلاً للشعب البريطاني، ويوضح أيضاً مدى الحرية التي يختار بها هذا الشعب نوابه وممثليه. إننا جميعاً نذكر أن مستر تشرشل زعيم حزب المحافظين كان رئيساً للوزارة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وإننا نذكر أيضاً ذلك المجهود الجبار الذي قام به حتى أنقذ بريطانيا من أشد أزمة مرت بها في تاريخها، ومع هذا فعقب انتهاء الحرب 1945 أجريت الانتخابات لمجلس العموم وأدار دقتها مستر تشرشل، وسقط مرشحوه أي مرشحو المحافظين ونجح مرشحو حزب العمال وأحرزوا الأغلبية في مجلس العموم، فانتقلت الوزارة من يد تشرشل المكافح العظيم والمناضل الكبير إلى يد المستر تشرشل في نزاهة الانتخابات طبعاً، ولم يرم الشعب البريطاني بالجحود وبنكر ان الجميل، وسلم بالأمر الواقع مطاعاً مختاراً!

ومثال آخر أحب أن أسوقه للقرئ الكريم. دعي مستر تشرشل لحضور مؤتمر بوتسدام في صيف 1945 باعتباره مندوباً عن بريطانيا - وكان هذا المؤتمر بمفرده، بل اصطحب معه المستر كلمنت أنلي زعيم المعارضة ورئيس حزب العمال. لماذا؟ لأن إنجلترا كانت مقبلة على انتخابات، وربما جاءت الانتخابات بما لم يشته مستر تشرشل - وهذا ما حدث فعلاً - وانتقلت الوزارة إلى العمال، وإذن فيجب أن يكون زعيم العمال على علم بما يجري ف المؤتمرات الدولية.

وهكذا نرى أن بريطانيا تعتبر بحق زعيمة الدول الديمقراطية. إن جميع أفراد الشعب البريطاني البالغين رجالاً ونساء ينتخبون ممثليهم أو نوابهم إلى مجلس العموم في حرية تامة، وهؤلاء النواب هم الذين يقيمون الوزراء وبدون تأييدهم تسقط الوزارة، وإذن فالشعب البريطاني ممثلاً في نوابه هو الذي يحكم بريطانيا.

وتعتبر بريطانيا أعرق الأمم الدستورية قامت لأول مرة في التاريخ في بلاد اليونان وكان ذلك منذ آلاف السنين، ومازالت الأنظمة الديمقراطية اليونانية تعتبر خير مثال للديمقراطية. وكذلك أحب أن ألفت النظر إلى أن النظام الحكومي الذي قام في الإسلام منذ قيام الدولة الإسلامية في عهد النبي حتى نهاية عصر الخلفاء الراشدين كان نظاماً ديمقراطياً سليماً، فقد كان الخلفاء الراشدين ينتخبون كما ينتخب رؤساء الجمهوريات في عصرنا الحالي تقريباً، وكانت سلطتهم مقيدة بقيدها القرآن الكريم وهو الدستور المسلمين وخوف الخلفاء من المولى سبحانه وتعالى. استمع إلى قول عمر بن الخطاب وقد طلب إليه أن يرشح ابنه عبد الله ضمن المرشحين للخلافة بعده (يكفي بني الخطاب أن يحاسب منهم عمر.) وإلى قوله (والله لو عثرت بغلة بأرض العراق لسئل عمر عنها يوم القيامة. لم يعبد لها الطريق؟) وهكذا كان الوازع الديني أكبر مقيد لسلطة الخليفة. كانوا يستشيرون الصحابة في مهام الأمور بل إن النبي صلوات الله عليه كان ذلك؛ وقد خاطبه المولى سبحانه وتعالى قائلاً (وشاورهم في الأمر).

ولعل مما يعطينا فكرة عن الديمقراطية الإسلامية أن نقرأ خطبة أبي بكر عقب انتخابه خليفة (أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن كنت على حق فأعينوني، وإن كنت على باطل فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.)

وأجب أن أذكر أيضاً أن المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الحديثة وتفخر بها الحضارة القائمة قد جاء بها الإسلام الحنيف، فقد قرر الإسلام الحرية والإخاء والمساواة بين الناس جميعاً لا فرق في ذلك بين عربي أو حبشي. (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. (إنما المؤمنون أخوة) فهل يعترف علماء الغرب بهذه الحقائق الواضحة وهل يرد الفضل لأهله؟

على أننا حين نعرض لتاريخ الديمقراطية الحديث لابد من أن نعترف بأن بريطانيا تعتبر أعرق الأمم الديمقراطية الحديثة، فقد سعى الشعب البريطاني إلى تقييد سلطة ملوكه وحكامه منذ بدء العصور الوسطى، فقد كان الأشراف يحكمون الولايات والمقاطعات وكانت هناك مجالس نيابية بدائية في القرى والمقاطعات وقد تطورت هذه المجالس ونشأ منها مجلس بمثل الشعب البريطاني ويعرف بمجلس العقلاء

وقد حدث بعد هذا أن دخلت بريطانيا في الديانة المسيحية الكاثوليكية وسرعان ما قام نضال بين الملوك والكنيسة حول الاستئثار بالسلطة مما اضطر الملوك إلى الاستعانة بالأشراف لمقاومة نفوذ الكنيسة وبدأ بذلك قيام العهد الإقطاعي في إنجلترا.

الفتح النورماندي

في عام 1066 غزا وليم الفاتح دوق نرمنديا في فرنسا إنجلترا وهزم ملكها (هارولد) في موقعة (هستنجس) وأصبح ملكاً لإنجلترا. وقد أراد وليم أن يقضي على سلطة الأشراف فجمع الفلاحين وحلفوا له يمين الولاء والطاعة ولكن الملوك الذين جاءوا بعده كانوا ضعافاً. وكان الملك جون (يوحنا) ملكاً ضعيفاً ميالاً إلى الظلم والغدر فقد أملاكه في فرنسا فثار عليه الشعب وخاصة الأشراف ورجال الدين وأرغموه على أن يوقع (البعد الأعظم) 1215 وأهم الحقوق التي اكتسبها الشعب بمقتضى هذا العهد:

1: لا يجوز للملك أن يقبض على شخص أو أن يسجنه أو ينفيه أو يصادر أملاكه أو يحرمه من حقوقه إلا إذا حوكم أمام محكمة مؤلفة من نظرائه. وفي هذا تحديد لسلطة الملك وبدء قيام نظام المحلفين.

2: لا يجوز للملك فرض ضرائب جديدة بدون موافقة البرلمان وفي هذا تحديد لسلطة الملك التشريعية.

3: ليس الملك أن يعبث بالعدالة فينكر حق فرد أو يؤخره على أن نصوص العهد الأعظم لم تكن واضحة حلية ولذلك اختلف الملك والشعب في تفسرها وحاول كل منهم أن يفسرها لمصلحته هذه الوثيقة تعتبر أساس حرية الشعب البريطاني

وجدير بي أن أذكر بهذه المناسبة أن الدستور البريطاني دستور غير مكتوب، وأنهعبارة عن حقوق اكتسبها الشعب ولا يمكن للملك أن يرجع فيها بتاتاً. ومن الطريف أن أذكر أن ملك إنجلترا كان له حق رئاسة مجلس الوزراء ثم حدث أن تولى عرش إنجلترا فحضر بعض جلسات المجلس، ولكنه لم يكن يفهم شيئاً مما يدور في المجلس، وبذلك امتنع عن حضور جلسات المجلس، ومنذ ذلك التاريخ فقد ملك إنجلترا حقه في رئاسة جلسات مجلس الوزراء وأعود إلى مواصلة البحث فأقول إنه منذ عام 1215 والشعب البريطاني دائب على كسب حقوقه، وكلما حاول أحد الملوك الخروج على نصوص العهد الأعظم ثار الشعب في وجهه. وقد أراد هنري الثالث فرض ضرائب جديدة فثار الشعب. وفي 1265 اضطر هذا الملك إلى دعوة برلمان يضم نوايا من الأشراف ورجال الدين وفارسين عن كل مقاطعة، وبذلك أصبح البرلمان ممثلاً لجميع عناصر الأمة وقد وافق الملك على أنه لابد من دعوة البرلمان للاجتماع ثلاث مرات كل عام على الأقل.

وفي عهد إدوارد الأول انقسم البرلمان إلى مجلسين: مجلس عموم ومجلس لوردات. وفي عام 1455 قام نزاع بين أسرة لنكستر وأسرة يورك وقامت الحروب المعروفة باسم حرب اللوردتين وانتهى الأمر بفوز أسرة تيودور (لنكستر) بعرش إنجلترا 1485.

عهد أسرة نيودور

امتاز عهد هذه الأسرة بتوقف النزاع بين الملوك والبرلمان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ أهمها رغبة الشعب في السلم بعد هذه الحروب الطويلة، وانصرافه إلى طلب العلم والمال وتكون مستعمرات فيها وراء البحار، ولمعرفة ملوك التيودور للخلق البريطاني ولأنهم لم ينكروا حق البرلمان، فكان البرلمان يعمل وفق رغباتهم وبذلك انقضى عهدهم في سلام، وأهم تغيير حدث في عهدهم هو فصل كنيسة إنجلترا عن البابوية في روما

على أن أعضاء البرلمان في نهاية عهد هذه الأسرة أخذوا يناقشون الملكة إليصابات ويجادلونها وقد اضطرت الملكة أن ترد على أحدهم قائلة: (أنكم لم تأتوا إلى هنا لتناقشوا ولكن لتوافقوا).

على أن هذه الملكة قد ماتت دون وارث 1603 وانتقل عرش إنجلترا إلى جميس السادس ملك اسكتلندا إنجلترا واسكتلندا تحت تاج واحد، وبدأ عهد أسرة استورت الذي امتاز باحتدام النضال بين الملك والبرلمان

أبو الفتوح عطيفة

مدرس أول العلوم الاجتماعية بنود الثانوية