انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 929/مع أبي تمام في آفاقه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 929/مع أبي تمام في آفاقه:

مجلة الرسالة - العدد 929
مع أبي تمام في آفاقه:
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1951



قصيدة النار

- 2 -

للأستاذ محمود عزت عرفة

حرب الروم:

لما أنحى الأفشين بقواه على حصون الخرمية بدا لبابك أن يستثير عزيمة الروم على حرب المسلمين، ليكشف عن نفسه بعض ما هو فيه. فكتب إلى قيصر الروم - توفيل بن ميخائيل - كتابا يذكر فيه (أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه، حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار الخياط - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد. قال: فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك)

فاهتبل قيصر الفرصة وانقض على زبطرة من ثغور المسلمين، بجيش تبلغ عدته مائة ألف أو أكثر. فقتل من أهل هذا الثغر وسبي. ثم أغار على ملطية وغيرها من الحصون ومثل بمن وقعوا في يده. فخرج إليه أهل الثغور من الشام والجزيرة؛ وبادر المعتصم بتوجيه عجيف بن عنبسة وعمرو الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلها، فبلغوها وقد انصرف عنها ملك الروم. ولما فرغ المعتصم من أمر بابك سأل عن أمنع بلاد الروم وأقوى حصونهم شوكة. فذكرت له عمورية فوطد العزم على قصدها وتأهب لذلك.

ثم تحركت جيوش الخلافة وفيها من القواد - ممن صحبوا المعتصم أو تقدموه - أشناس، وإيتاخ، ومحمد بن إبراهيم ابن مصعب، وجعفر بن دينار بن عبد الله، وعجيف بن عنبسة، ووصيف، وحيدر الأفشين. وتفرقت هذه الجيوش في المسالك؛ فكان الأفشين أول من أوقع بالروم إذ كان أسبق القوم إلى التوغل في بلادهم؛ ذلك أنه هزم جيش القيصر نفسه في شعبان سنة 223هـ؛ ثم قدم على المعتصم وهو نازل على أنقرة حيث أتعد القواد على الالتقاء. وتحركت الجيوش من هنالك مجتمعة نحو عمورية فحاصرتها. وراح القواد يتناوبون الهجوم عليها حتى سقطت بعد حصار دام شهرين.

وقد كانت الوقعة التي جرت بين الأفشين وملك الروم قبيل ذلك من ألمع الحوادث في هذه الحرب. وزاد من روعتها ما كان مأثورا عن الأفشين من البلاء في حرب بابك وخضد شوكة الخرمية.

قال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين ويذكر هذه المواقع:

أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم

كل مجد دون ما أثله ... لبنى كاوس أملاك العجم

إنما (الأفشين) سيف سله ... قدر الله بكف (المعتصم)

لم يدع بالبذ من ساكنه ... غير أمثال كأمثال إرم

ثم أهدى سلماً بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم

وقرى (توفيل) طعناً صادقاً ... فض جمعيه جميعاً وهزم

قتل الأكثر منهم، ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم

وبائية أبي تمام في فتح عمورية أشهر من (قفانبك)، ولكنا نحلى جيد الكلام بشذور منها. قال يخاطب المعتصم:

لبيت صوتا زبطريا هرقت له ... كأس السكرى ورضاب الخرد العرب

عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور، وعن سلسالها الحصب

أجبته معلنا بالسيف منصلتا ... ولو أجبت بغير السيف، لم تجب!

حتى تركت عمود الشرك منقعرا ... ولم تعرج على الأوتاد والطنب

لما رأى الحرب رأى العين (توفلس) ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب

غدا يصرف بالأموال جريتها ... فعزهُ البحر ذو التيار والعبب

السخط على الأفشين ومحاكمته

أحرز الأفشين هذا المجد كله، وبلغ تلك الذروة الرفيعة من تقدير المعتصم ومحبته؛ مع إعجاب العامة وإجلال الخاصة، وتمكن أسباب الجاه والنعمة، والاتسام بالجد الموفق والنقيبة الميمونة، وأنه سيف الخلافة الذي ذاد عن ركنيها وقصم ظهور أعدائها - بلغ هذا كله ليهبط منه فجأة إلى حضيض الذل والمهانة، ثم يقتل قتلة الخائن المارق، والعدو المنابذ.

وإذا نحن تجنبنا نسبة القضية كلها إلى عوامل الحسد والغيرة التي أكلت قلوب النظراء - وخاصة العرب ومن يحطب في حبلهم - ثم إلى تمكن شهوة الانتقام عندهم من الرؤساء الأعاجم جميعا، في شخص هذا الذي أعيا كل عربي وعجمي أن يشق له غبار - فليس يفوتنا أن ننبه إلى ما تجلى من عوامل الحسد والغيرة ورغبة التشقي والانتقام كدوافع بارزة حركت القضية منذ بدايتها؛ وسارت بها إلى غايتها المرسومة من إهدار دم الأفشين.

وكان الذي أجرى محاكمته، بأمر المعتصم أو على الأصح بموافقته، الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وشهدها معه أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم المصعبي وغيرهما من أعيان العرب. وكان المناظر له أبن الزيات.

على أن بوادر الانقلاب على الأفشين لم تظهر إلا بعد عودته من حرب الروم. إذ كان إلى ما قبل ذلك يتمتع بثقة الخليفة التامة حتى لقد دفع إليه بالعباس بن المأمون بعد ما ظهر من تدبيره خطة الانقلاب على المعتصم أثناء حصار عمورية. وظل بيده إلى أن قتل خلال العودة، في مدينة منبج من أعمال الشام.

بل لقد شفع الأفشين في هرثمة بن النضر وكان العباس قد سماه في عداد من انضموا إليه، فعفا عنه المعتصم وولاه الأفشين حكم الدينور.

وعلى كثرة من انغمسوا في المؤامرة من القواد كان الأفشين بعيدا عنها فلم يعلق به من جانبها شبهة ومع ذلك نجده محاطا بالأراجيف مأخوذا بالتهم منذ نجم أمر (مازبار بن قارن) كما سنشير إليه بعد. ثم نرى المعتصم يعزله عن الحرس ويوليه إسحق بن يحي بن معاذ. وبعد قليل تجري محاكمة الأفشين على الوجه الذي أشرنا إليه. والتهم التي ووجه بها كثيرة، ونحن نوجزها فيما يلي:

1 - أنه حرض مازيار بن قارن الحاكم بطبرستان على منابذة الطاهر أصحاب خراسان، ثم الخروج على المعتصم ولما قبض عليه أقر لدى المعتصم أن الأفشين كاتبه وحسن له الخلاف ووضع معه خطة لإحياء المجوسية. وفي رواية للطبري وابن الأثير أن المازيار زعم أن أخا الأفشين واسمه (خاش) كتب إلى أخيه (قوهيار) بذلك. وفي رواية ثالثة لأبي الفداء في البداية والنهاية أن المازيار: لما أوقف بين يدي الخليفة سأله عن كتب الأفشين إليه فإنكرها، فأمر به فضرب بالسياط حتى مات.

2 - ولي منكجور الأشروسني - أحد أقاربه - على بعض أعماله في أذريبجان فاغتصب أموالا وجدها هنالك من كنوز بابك، ثم خلع الطاعة وأعلن الثورة على المعتصم، حتى غدر به أصحابه وأسلموه، فحبس واتهم الأفشين في أمره.

3 - وجه بهدايا وأموال كثيرة إلى مسقط رأسه في أشروسنة، على أن يلجأ إلى هنالك فيما بعد فيستقل بملك آبائه، وكان الذي كشف أمر ذلك عبد الله بن طاهر، وقد كان يحمل الضغينة للأفشين ويتتبع عوراته: وطاهر بن الحسين أبوه هو ابن عم إسحق بن إبراهيم المصعبي الذي اشترك في محاكمة الأفشين.

4 - أمر بجلد بعض المسلمين في أشروسنة ممن حولوا بيتا للأصنام إلى مسجد للصلاة.

5 - كان يأكل لحم المخنوقة ويحمل على أكلها شهد عليه بذلك الموبذ، وكان مجوسيا أسلم أيام المتوكل.

6 - قال لهذا الموبذ في حديث جرى بينهما: قد دخلت لهؤلاء القوم - يعني المسلمين - في كل شيء أكرهه، حتى أكلت الزيت وركبت الجمل والبغل. غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة! ولم أختتن!

7 - وجد في بيته كتاب قد حلاه بالذهب والجوهر، فيه كفر بالله تعالى. . .

8 - يخاطبه أهل بلده أشروسنة بعبارات التقديس. ويبدءون كتبهم إليه بقولهم: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان - شهد عليه بهذه التهمة المرزبان بن تركش أحد ملوك السغد. وكيفما كان الأمر في هذه التهم فقد دفعها الأفشين عن نفسه، وعلل بعضها بعلل معقولة فإنكر علاقته بحادثتي منكجور ومازيار. ونفى نية الوثوب بأشروسنة أو إحياء ملك آبائه فيها؛ وعلل قصة المسجد هناك بأن بينه وبين ملك السغد عهدا بأن يترك كل قوم على دينهم. وقال عن الكتاب المحلى بالجوهر: هو كتاب ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم، وكفر. . . فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر، ووجدته محلى فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.

وقال عن الموبد في صداد تهمتيه: أخبروني عن هذا، أثقة هو في دينه؟ قالوا: لا. قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه؟

ويروون أنه حين أخرج بقول أبن أبى دؤاد له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا حيدر أقلف؛ أجاب: نعم. . ثم قال فيما بعد لحمدون بن إسماعيل وهو يزوره في سجنه: إنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له نعم لم يقبل قولي وقال لي: تكشف فيفضحني بين الناس. والموت كان أحب إلى من أن أتكشف بين يدي الناس.

وأما ما اتهمه به المرزبان من مخاطبة قومه إياه بإله الآلهة فقد قال عن ذلك: هذه كانت عادتهم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام. فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتسقط علي طاعتهم.

والحق أنه لم يثبت على الأفشين إلا تهمة واحدة هي أنه كان يعد العدة لكي يهرب قبيل القبض عليه ومحاكمته. فقد عثروا في قصره على أطواف وآلات للركوب كان أعدها ليعبر عليها نهر الزاب ثم يصير - كما زعموا - إلى أرمينية فبلاد الخزر ثم إلى بلاد الترك ومنها إلى أشروسنة. . . قالوا (ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام). ونسكت عن الجملة الأخيرة. . . وهي لم تثر أثناء محاكمته - لنقول إن نية الهرب أمر طبيعي، بل تدبير حكيم سديد، لمن كان في مثل موقفه.

ونحب أن نسجل هنا كلمة للأفشين - دون أن نناقشهاأيضاً - وهي قد تعطينا فكرة عن حقيقة شعوره قبيل القبض عليه، بل قد تبرر في نظرنا ما شغل به نفسه من نية الهرب. . .

أرسل الأفشين إلى المعتصم من سجنه، على لسان بعض زائريه، يقول في عقب كلام طويل: إنما مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين كرجل ربى عجلا حتى أسمنه وكبر. وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه فعرضوا بذبحه فلم يجبهم. فاتفقوا جميعا على أن قالوا: لم تربي هذا الأسد، فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه؟ فقال لهم: إنما هو عجل. فقالوا: هذا أسد. فسل من شئت. وتقدموا إلى جميع من يعرفونه وقالوا لهم: إذا سألكم عن العجل فقولوا له أنه أسد وكلما سأل إنسانا قال: هو سبع. فأمر بالعجل فذبح. وإني أنا ذلك العجل، فكيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري!

(يتبع)

محمود عزت عرفة