مجلة الرسالة/العدد 929/الدين والسلوك الإنساني
مجلة الرسالة/العدد 929/الدين والسلوك الإنساني
11 - الدين والسلوك الإنساني
للأستاذ عمر حليق
4 - الجماعة الدينية:
الوجه الثاني لوظيفة الدين المزدوجة أنها وظيفة سلبية. فإذا كان الدستور المدون للجماعة الدينية يسهل تكافلها ويسعى لتحقيقه ويذود عن حماه إزاء المتشكك والثائر فإن طبيعة هذا التكافل في الجماعة الدينية تفصلها روحيا واجتماعيا عن الجماعات الأخرى التي تعيش في المجتمع الأكبر (الوطن أو العالم بأسره).
فلقد رأينا في مقال سابق من هذا البحث أن السلوك الديني ليس فرديا فحسب، بل هو جماعي كما شرح ذلك علماء الاجتماع والأنثرولوجيا. وحتى لو اقتصر السلوك الديني على الفرد واختياره الخاص فإن ذلك لن يحول بينه وبين أن يصبح جزءا من السلوك العام الذي يشوب حياة الجماعة الدينية التي تؤمن بنفس العقيدة التي يؤمن بها ذلك الفرد وتختبر نفس الاختبار الديني الذي يختبره. بل الواقع أن هذا الاندماج أمر لا مفر منه مهما تعمد الفرد تفاديه.
فعناصر السلوك الديني على نوعين - كما رأينا - روحية واجتماعية. . حتى لو أنكر بعض الناس وظيفة الدين الاجتماعية وقصروها على الاختبار الروحاني (علاقة المرء بربه) فإن المشاركة في الاختبار الروحاني والوجداني تستوجب الاندماج في السلوك الجماعي.
فإذا أعجب أديبان أو أكثر بشاعر أو فنان أو فيلسوف وقرءوا له وحفظوا عنه فإنهم يؤلفون مدرسة فكرية تجمع بينهم في صعيد روحي واحد، وهم ولا ريب مدافعون عن هذه المدرسة الفكرية، مبشرون بمزاياها إذا حدث أن تصدى لها بعض الناس بالنقد والتعريض.
والاختبار الديني أقوى ألف مرة من الإعجاب بشعر أو فن أو فلسفة. ولعلنا نلمس هذه الحقيقة في تصدي بعض المسلمين الذين - لأسباب لا يهمنا معرفتها هنا - لا يقيمون شعائر دينهم للدفاع عن الإسلام إذا تصدى له ناقد أو متحامل.
وكم من مرة شهدت جامعات أمريكا وبريطانيا ومحافلها الأدبية محاولة الطلبة وغير الطلبة من المسلمين دفاعا عن الإسلام وتعاليمه مع أن المدافعين في أكثر الحالات لم يؤدوا لله ركعة منذ سنين.
وتاريخ الاستعمار الأوربي في آسيا وأفريقيا شاهد على تفضيل المستعمر للعناصر التي تدين بعقيدته الدينية أو تمت إليها بصلة في مسائل التوظيف والمشورة والائتمان على السر، وقد لا يكون الدافع لهذا السلوك سياسة مرسومة بقدر ما هو توافق في الاختبار الروحي وحدة في السلوك الجماعي بين الطرفين.
واقتصار السلوك الديني على الفرد وعلاقته بالله شيء لن يتم منعزلا عن الحياة الاجتماعية. فالحياة الوجدانية لا مفر لها من أن تعبر عن نفسها في المجتمع الذي تعيش فيه.
والمرء في اختباره للحياة الدينية منفردا قد يصمت صمتا طويلا قبل أن يعبر عنها في الحياة الاجتماعية ويشارك أهل ملته في سلوكهم الديني الجماعي. ولكن لا مفر له عاجلا أو آجلا من المشاركة في هذا السلوك.
فطبيعة الاختبار الديني عند الفرد يستوجب صياغة مقوماته الخلقية والعاطفية صياغة تماشي وتتحد وتتفق مع المقومات الخلقية التي تشوب بقية أعضاء الجماعة الدينية التي تختبر مثل ما يختبر. وهذه الصياغة لا تقتصر على توجيه الفكر والوجدان فحسب، بل تشمل أيضاً الحياة العملية والنشاط الاجتماعي.
ولقد عالج هيجل أحد دعائم الفكر الغربي الحديث هذه الناحية الدينية في مقدرة فائقة فتأثر بأن لكل عقيدة دينية (روحاً) تنفرد بها عن بقية العقائد، ومرجع ذلك إلى أن السلوك الديني هو عنصر من أهم مقومات الخلق القومي. ولعل رسوخ الإسلام وتعاليمه في عقليات الشعوب التي دانت به وأثر هذه التعاليم ومبلغ نفاذها إلى صميم الحياة الروحية والاجتماعية لتلك الشعوب على اختلاف حكوماتها الخلقية من عربية وفارسية وهندية وصينية هو الذي خلق هذه الحضارة الإسلامية التي تعرف إلى الآن بها شعوب الإسلام على اختلاف لغاتها وبيانها وظروفها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
والقول بأن الاختبار الديني يمكن أن ينحصر في السلوك الفردي تنفيه حقيقة أخرى؛ وهي أن كل دين من الأديان الكبرى يبشر بوحدة اجتماعية عالمية تنطوي على توجيه السلوك الإنساني في شتى نواحيه توجيها يتفق والأسس الجوهرية لتعاليم ذلك الدين. وهذه الوحدة الاجتماعية العالمية التي يدعو إليها الدين نصا وروحا وإن كانت لا تتحدى تحديا مباشر الإيديولوجيات الاجتماعية الأخرى التي تدعو لها الأديان الأخرى، إلا أنها تقف منها موقفا أقل ما فيه أنه سلبي من النوع المشحون بعوامل الانفجار كما قال جورج ميد المفكر الأمريكي الشهير والتاريخ على الأخص - تاريخ الحروب الدينية - ملئ بالشواهد على هذا الصراع السلبي الذي يؤدي فيه الدين دورا خطيرا عند الضرورة.
ومهما أحسن المجتهدون في تعليل سماحة الأديان التي ينتمون إليها فإن اجتهادهم يكاد ينحصر فيما عبر عنه (ماكس ديبر) تعبيرا جامعا حين قال: -
(إن اختبار الجماعات الدينية ينظر إلى العالم بمنظارين، وأحدهما يرى فيه الألوهية والقداسة، والآخر يرى فيه الأشياء وطبائعها المادية، ولو توفرت (التقوى) وحدة الاختبار الديني عند جماعة ما ونظرت إلى العالم - على تنوع أديانه وتشعب جماعاته الدينية - نظرة ملؤها التفاؤل والبشر والسماحة والرضا، إلا فإن مثل هذا التسامح في رأي الوعي الباطن على الأقل لدى تلك الجماعة محصور ومقيد ومقصور عليها (على تلك الجماعة) وعلى العقيدة والسلوك الديني الذي تمتثل له.
وهذا التسامح السلبي قد يتخذ في بعض الأديان لونا رقيقا ويأسف لضلال الكافرين ويطلب المغفرة لهم. وقد يتخذ لونا عنيفا فلا يرى في ذلك الضلال إلا كفرا وزندقة رسولها الشيطان ودستورها الإلحاد ودعوتها الفساد.
وفي كلتا الحالتين فإن العالم ميدان لهذا الصراع. وسواء كان الصراع لرد الكافرين عن ضلالهم أو للحيلولة بين الضلال وبين أن يمس كيان الجماعة الدينية (المؤمنة) فإنه صراع على كل حال، ومهما كان سلبيا فإن الاحتكاك منطو في ثناياه.
وعلى سبيل المثال - ومع مراعاة التفرقة الجوهرية بين العقائد الدينية والنظم الفكرية - فإننا نستطيع أن نستشهد بحاضر الصراع بين المذاهب الفكرية والمعاصرة بين الاشتراكية السوفييتية والديمقراطية الغربية.
فالاشتراكية - وهي بمثابة العقيدة الدينية لأتباعها - لا ترى في خصومها من دول أوربا وأمريكا إلا ضلالاً وشراً. وهذه الدول بدورها ترى في الاشتراكية الماركسية تحديا للأسس المسيحية التي بنيت عليها حضارة ديمقراطيات الغرب فوق أنه تحد للنظم الاقتصادية والسياسية التي تعيش في تلك الديمقراطيات. ولطالما ادعى أقطاب كلتا الكتلتين السوفييتية والغربية أن في العالم متسعا لكلتيهما، وقد يكون في مثل هذا الدعاء صدق وإخلاص إلا أن طبيعة الصراع السلبي بينهما تدفعهما دفعا إلى الاحتكاك المسلح على النحو الذي نعلمه جميعاً.
وقوة هذا الصراع السلبي بين الجماعات الدينية المتباينة عقائدها وضعفه يتوقفان إلى حد كبير على مبلغ ما تعلمه بعض تلك الجماعات عن عقائد بعض. والمرء كما قال الحكماء عدو لما يجهل.
فالإسلام وأهله مثلا يفخرون بأنه دين التسامح؟ وفي القرآن والأحاديث نصوص بينة على تأمل هذا التسامح في التعاليم الإسلامية، ولكن الميزة الكبرى في الإسلام أنه يشرح في صميم القرآن والحديث والاجتهاد بعض الأسس الجوهرية لليهودية والمسيحية ويعترف ببعض مزاياها وفي طليعتها مزية التوحيد. ويعترف الإسلام كذلك بأنه جاء متمماً لا ناسخا لتعاليم إبراهيم وموسى وعيسى. والمسلم يقرأ الصلاة والسلام على الأنبياء والرسل الذين سبقوا النبي العربي ويخيل إليك وأنت تقرأ ما جاء به القرآن والحديث في هذا الصدد وما سجله المجتهدون المسلمون من بحوث في الإسرائيليات (والنصرانيات) أن هناك رنة أسف يستشعر بها الإسلام نحو الموحدين بالله الذين ضلوا تعاليم موسى وعيسى واستعاضوا عنها بأمور لا يعترف الإسلام بأنها من أصول تلك التعاليم. فهذا الرفق الذي عالج به الإسلام الديانات الأخرى هو من أهم الدوافع لهذا التسامح.
والحديث عن هذا الصراع السلبي بين العقائد الدينية يستدعي الإشارة إلى موقف تلك التعاليم من الحروب. ولقد أساء البعض إلى العقيدة الإسلامية بأنها ترضى عن الحرب وتشترع الجهاد. وقد رد المحدثون من علماء الإسلام العرب على هذا الادعاء ردا معززا بالدساتير القرآنية والأدلة التاريخية، وعالج هذا الموضوع كذلك بعض أئمة المسلمين في الهند والباكستان والعالم العربي معالجة علمية متينة.
ولكن الذي يعنينا من هذه الإشارة أن تشريع الجهاد في الإسلام مقيد بظروف وملابسات لا تختلف مطلقا عن تلك التي شرعتها اليهودية والمسيحية نصا وروحا، وذلك باعتراف التعاليم المسيحية نفسها وعلى ضوء اجتهاد بعض قادة الفكر المسيحي معاصرة وقديمة.
وليس المهم أن نبرر تشريع الجهاد في الأديان فذلك التبرير يجب ألا يكون على أساس فلسفة الدين فحسب، بل على أسس من علم النفس الاجتماعي. وتشريع الجهاد ينطبق وروح الجماعات الدينية ويجري مع سلوكها الجماعي ومع طبيعة العوامل النفسانية (السيكولوجية) التي تصوغ تفكيرها واتجاهاتها وأوضاعها الدنيوية.
والجهاد لا يجد سبيله إلى سلوك الجماعة الدينية إلا إذا تعرضت عقيدتها الدينية إلى الخطر الداهم أو إذا تعرض كيانها الاجتماعي (وهو يشمل المصلحة السياسية والقومية والاقتصادية) إلى الاضطهاد والمذلة. وهذا مثل آخر على تأصل الوظيفة الاجتماعية للدين في السلوك الإنساني.
فمسلمو شمالي أفريقيا والمغرب العربي في هذه الأيام في حالة جهاد وإن عجزوا عن حمل السلاح لأسباب قاهرة. فالخطر هناك لا يقتصر على تعريض الكيان الاجتماعي لمسلمي الجزائر ومراكش وتونس إلى خطر الانهيار والزوال، وإنما يمس صميم التعاليم الدينية وجوهر العقيدة المحمدية.
ولقد أدرك الفرنسيون الوظيفة الاجتماعية للدين الإسلامي في سعيهم لفرنسة مسلمي شمالي أفريقيا فلم يتقيدوا بأساليب الاستعمار التقليدية التي توجه كفاحها الأكبر ضد الوعي السياسي والنضوج الاقتصادي، وإنما عملوا على النيل من صميم العقيدة والتعاليم الدينية للمسلمين هناك لعلمهم بأن الإسلام وهو دين عملي لا بد وأن يوفر لحركة التحرر الوطني ذخيرة قوية تحارب بها ذلك الاستعمار. وغزوة الصهيونيين لفلسطين لم تتم لو لم تشترع القيادة الصهيونية العليا (الجهاد) في أدق وأوسع معانيه.
وليس المقام هنا لبحث علاقة الدين بالقوميات والإصلاح السياسي - فكاتب هذه السطور يأمل أن يستطيع التفرغ لدراسته عما قريب - وإنما ضربنا المثل به هنا للدلالة على أن العقائد الدينية في تشريعها للجهاد والحرب إنما تفعل ذلك دفاعا عن كيانها الديني ووظيفته الاجتماعية. وهي والحالة هذه لا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار وشأنها في ذلك شأن أي جماعة من الجماعات الإنسانية الأخرى - السياسية والاقتصادية والإيديولوجية أيضاً - لتي تعلن الجهاد في أنواعه المتعددة مسلحا وغير مسلح دفاعا عن مصالحها ومبادئها وكيانها.
فالحرب من طبائع الحياة سواء أرضينا بها أم كرهنا، ومهما سعينا إلى إزالتها ومعالجة أسبابها ونتائجها، إلا أن ذلك لا يحول بيننا وبين إيضاح علاقة الدين بها على أسس لا تستند إلى التزوير بقدر ما تستند إلى طبيعة الحقائق الاجتماعية.
وخلاصة القول في هذه الوظيفة السلبية للجماعة الدينية أنها تؤثر - خيرا أو شراً - في التكافل الاجتماعي (العالمي) وذلك يتوقف إلى حد كبير على مبلغ ما تستوعبه تلك الجماعة من معرفة منزهة عن الأهواء لتعاليم الديانات الأخرى وبمقدار ما يتضمنه دستورها الديني من أسانيد فيها دعوة صادقة إلى التسامح كما هو الحال في عقيدة الإسلام وتعاليمه.
وبعد فهذه الفصول كانت معالجة مشوشة لبعض وظائف الدين الاجتماعية. ويأمل كاتب هذه السطور أن يستعرض في مناسبات قادمة إن شاء الله ألوانا أخرى من علاقة الدين بالحياة اليومية في أسلوب أدق ترتيبا وأوسع استيعاباً.
نيويورك
(تم البحث)
عمر حليق