انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 925/بحث لغوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 925/بحث لغوي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 03 - 1951



بين الضر والضرر

للأستاذ طاهر بن عاشور

عضو مجمع فؤاد المراسل

أجملت كتب اللغة في هاتين الكلمتين أجمالا سرت منه إلى ألسن المستعملين أخطاء باستعمالهم كلمة الضرر بالفك فيما يساوي معاني كلمة الضر بالإدغام، غافلين عما تضمنه سر عدم إدغام الحرفين في كلمة الضرر من التنبيه على الاحتراز من استعمالها فيما يساوي معنى كلمة الضر المدغمة

فوجب بسط هذا البحث وتحقيقه؛ ذلك أن في اللغة فرقا في اعتبار بنية الفعل يظهر أثره في حالة مصدره، فالمصدر الذي على وزان فعل بفتح العين إنما يجيء مصدرا من الفعل الذي ماضيه على زنة فعل بكسر العين ومضارعه على زنة يفعل، وهذه البنية مصوغة لأفعال السجايا والوجدان مثل فهم وفرح وجوى، ولأفعال الاتصاف بالعاهات مثل مرض وشلل وعمى وزمن

فلأجل ذلك ففعل ضر الماضي إذا استعمل متعديا فحركة عينه في الماضي تقدر بالفتح لأن مضارعه مضموم العين. قال تعالى: (لن يضروكم إلا أذى_لا يضركم من ضل) فهو جار على قاعدة أن المضاعف المتعدي المفتوح العين في الماضي ينقاس في مضارعه ضم العين، عدى ما استثنى مما جاء بالكسر على خلاف القياس أو جاء بالوجهين الضم والكسر ومصدر ضر هذا المتعدي الضر يوازن فعل كالنصر مفتوح الضاد

وقد وجب فيه إدغام أول مثليه لأن أولهما ساكن وثانيهما متحرك. فالإدغام واجب، فلذلك قالوا ضر كقوله تعالى: (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا).

وأسم المصدر منه الضر يضم الضاد. ومنه قوله تعالى: (ثم إذا كشف الضر عنكم) وقيل الضر والضر لغتان في مصدر ضر المتعدي جريا على ما جاء باللغتين في الأسماء نحو الشهد والشهد تغليبا لجانب الجمود في المصدر على جانب الاشتقاق، والقول الأول أصح وأقيس فأما إذا استعمل ضر فعلا لازما فهو حينئذ بمعنى صار ضريرا، أي عمى، فتعين أن يكون وزنه فعل بكسر العين في الماضي لأنه وزن أفعال العاهات والأحزان ونحوها. فقياس مضارعه أن يكون مفتوح العين، فيقال يضر بفتح الضاد، كما يقال عمى بعمى وشلل يشل (واعلم أني لم أعثر على مضارع ضر في كلامهم إلا في قول بشار:

إذا ذكر الحباب بها أضرت ... بها عين تضر على الحباب

وقد وجدته في نسخة ديوان بشار غير مضبوط فضبطته بفتحة على الضاد، ولم أعثر أيضاً على من ذكره أو ذكر زنة ماضيه من أصحاب كتب اللغة المعروفة لنا، مثل الأساس والصحاح واللسان والقاموس والتاج والمخصص لابن سيده وإصلاح المنطق ومفردات الراغب والمشارق لعياض والنهاية لابن الأثير

وإذا لم يذكروا فيه أنه جاء على خلاف القياس فهو محمول على القياس في الماضي والمضارع، وقد دل على ذلك أيضاً مصدره، فإنهم قالوا في مصدره الضرر بدون إدغام لأنه جاء على مثال فعل؛ وكل ما كان من الأسماء مضاعف المثلين على هذا المثال وشبهه، فإنه يتعين فيه الفك ولا يجوز الإدغام. وعللوه بالخفة الحاصلة بالفتح مثل: طلل، ولبب، وجلل. وأنا أرى أن علة الفك فيه التفرقة بين الفعل والاسم في الأكثر، ثم طرد الباب على وتيرة واحدة. فإذا قالوا في المصدر ضرر علمنا أن الماضي بوزن فعل بكسر العين، وأن المضارع بوزن يفعل بفتح العين. ومن أجل ذلك لا يطلق الضرر بالفك إلا على ما كان من الأضرار عاهة. فالعمى ضرر والزمانة ضرر. قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) أي العمى والزمانة. وقد فسر المفسرون الآية بذلك، فلا يشمل من أصيب بضر في ماله أو في أهله. وفي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت أن رسول الله أملى عليه لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، وكان أعمى فأنزل الله على رسوله (غير أولي الضرر) اهـ

ولم يستعمل الضرر في غير ما هو من العاهات فيما بلغنا من كلام العرب ولا رأينا من صرح به من الأئمة المروى عنهم. ولكن وقع في كتاب الأقضية من الموطأ عن يحيى المازني أن النبي قال (لا ضرر ولا ضرار) هكذا رواه المازني مرسلا.

وأن كان قد اسند بهذا اللفظ عن أبي سعيد الخدري وعبادة ابن الصامت وعائشة وابن عباس في غير الموطأ من سنن ابن ماجه ومسند أحمد ونحوهما من الكتب التي تخرج الصحيح وتدونه بأسانيد مختلفة.

فلننقل الكلام إلى الاحتجاج بالحديث في العربية، وهي قضية مختلف فيها سكت عنها المتقدمون. وقد منع الاحتجاج به ابن الصايغ الاشبيلي، وقال أبو حيان: (إن الأئمة من البصريين والكوفيين لم يحتجوا بالحديث، وتبعهم على ذلك المتأخرون)

وأجاز الاحتجاج بالحديث ابن مالك وابن هشام الأنصاري. ويؤخذ من كلام الأئمة ما يؤيد القول الأول، إذ قالوا لا تقبل رواية اللغة إلا من الرواة الثقات، يعنون بالرواة رواة العربية المتصدين للرواية؛ إذ لا نشك في أن شرط قبول نقل الناقل في اللغة أن يكون قاصدا نقل اللغة، فلا تؤخذ العربية تبعا لنقله في غرض آخر لأن إنما يضبط ويتحرى في نقله فيما يخص الغرض الذي لأجله ينقل؛ لأن المقصود من الخبر النسبة الخبرية لا الضمنية؛ فالراوي المتصدي لرواية الأحاديث لإفادة أحكام شرعية لا يهمه من الألفاظ إلا موادها المفيدة للمعاني دون صيغها المفيدة لاختلاف كيفيات تلك المعاني. فإذا لم يكن نقله صريحا في غرضه الذي تصدى لأجله، رجع أمر نقله إلى أنه احتجاج يحسن الظن به في تحري الصواب من جميع جوانبه. وذلك غير مقنع في إثبات اللغة. وقد عدوا من القواعد الأصلية أن الكلام إذا سيق لمعنى لا يحتج به في معنى آخر. على أنه قد حفظ الخطأ عن كثير من الأئمة بتصحيف أو نحوه.

ورواة الحديث قد يقع لهم الغلط في عربية ما يروونه، وممن عد من هذا الباب، هشيم بن بشير السلمي من أئمة الحديث. قال النضر بن شميل وهو من أئمة اللغة، كان هشيم لحانا وهو الذي روى حديث (إذا تزوج امرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز) رواه بفتح السين من سداد. والصواب سداد بكسر السين في قصة مدونة في كتب اللغة والأدب. فلعل النبي قال: لا ضر ولا ضرار. فغيرها الراوي لا ضرر. فإذا درجنا على عدم الاحتجاج بالحديث قي العربية، فهذا الحديث لا يثبت به استعمال في العربية لما يتطرقه من الاحتمالات بالنسبة للرواة لا بالنسبة لقائل اللفظ المروى. فلا يكون ذلك شاهدا لغويا

وإذا درجنا على الاحتجاج به تعين: إما أن نرده إلى الرواية بالمعنى بأن درج الرواة على استعماله مولد، وإما أن نؤوله: فأما بالحمل على الشذوذ مثل قول أبي النجم: الحمد لله العلي الأجلل. والشاذ يغتفر لأهل اللسان ولا يتابعون عليه في استعمال غيرهم. وإما بتأويله بأن الذي أوجب الفك هو قصد الاتباع والمزاوجة بين اللفظين الضرر والضرار، فإن كليهما لا إدغام فيه. فروعي ذلك في المقارنة تحسينا، وهو من ضروب البديع كما قال النبي في حديث ووفد عبد القيس في الصحيح: (مرحبا بالوفد غير خزايى ولا ندامى). فجمع نادما على ندامى لموافقة صيغة خزايى. إذ ليس فعالي من صيغ جموع فاعل، بل هو من صيغ جمع فعلان والندمان هو المنادم، ومن هذا النوع قول الشاعر:

هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخالط البر منه الجد واللينا

إذ جمع بابا على أبوبة. وقوله لنساء (ارجعن مأزورات غير مأجورات). بهمز مأزورات. وأصله موزورات لأنه من الوزر وهو الإثم وإنما هو اتباعا لقوله غير مأجورات

والحاصل أننا إذا قبلنا الاحتجاج به تعين أن يحمل لفظ النبي الذي جاء على خلاف القياس مجملا يناسب فصاحته وبلاغته. ويستخلص من هذا كله أن الضر والضر أعم من الضرر فيصح إطلاق الضر والضرر على المعنى الذي يطلق عليه الضرر ولا يقع إطلاق الضرر على كل ما يطلق عليه الضر والضرر

وأما ما وقع في صحاح الجوهري من قوله: (الضر خلاف النفع والاسم الضر ويقال لا ضرر عليك) فهو مما أنفرد به. وقد ذكر الأئمة أن الجوهري لا يؤخذ ما انفرد به. وقد وهمه الفيروزبادي في مواضع كثيرة

قال التبريزي: لا يشك في أن في كتاب الصحاح تصحيفا لا شك أنه من المصنف لا من الناسخ (ص49 مزهر ج1)، وقال الأزهري لا يقبل من الجوهري ما انفرد به (ص67 مزهر ج1)

ووقع في الأساس ما يوهم ظاهره موافقة كلام الجوهري. لكنه ليس بنص بل هو محتمل للتأويل

ومن أهم الواجبات الحفاظ على فروق العربية ودقائق استعمالها وإبقاء ما شذ عن ذلك غير متجاوز موقعه بحيث لا يرخص لأحد في اتباعه، لأن ذلك يقضي إلى تلاشي رونق العربية وضياعه

تونس

الطاهر بن عاشور