مجلة الرسالة/العدد 924/إرهاصات في الجزيرة
مجلة الرسالة/العدد 924/إرهاصات في الجزيرة
2 - إرهاصات في الجزيرة
قبيل البعثة المحمدية
للأستاذ الطاهر أحمد مكي
ولكن. . . من أين يستعد المؤرخ للجزيرة العربية حقائق بحثه ومادة موضوعه، وما أثر عن العرب الأول متهالك مضطرب ينقض بعضه بعصا، ويهدم آخره أوله، فأنت أمام سيل متلاحق من القصص والسير، والروايات والأحاديث، إذا أعملت فكرك وعقلك في تمييزه، وجدت أكثره خرافة لا تمت إلى الواقع بسبب، وإنما هو من فعل الوضاع، ترويجا لمذهب، أو دفاعا عن فكرة، أو سنداً لعصبية، أو رغبة ملحة في إضحاك الناس، حين كانت الحياة العربية تموج بهذا اللون من الافتعال والاختلاق، والباقية منه، لا تعطي صورة واضحة محددة، أو توحي بفكرة ثابتة ميقنة، يطمئن إليها الضمير العلمي، حين يعرض لأمر، فيحكم فيه إثباتا أو نفيا. .
ومبعث ذلك كله، أن التاريخ العربي كان يعتمد - إلى ما قبيل العصر العباسي - على المشافهة والرواية، وهي عرضة للتصحيف والتحريف، والزيادة والنقص، والضياع والنسيان، عند كل أمة وفي أي شعب، فلا إجحاف إذن حين يمسك الباحث، فلا يندفع مصدقا، ولا بدع أن ظل العرب حتى الرسالة المحمدية ومطلع الإسلام، شعبا بلا تاريخ!
كان القدماء عربا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجما يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد، لأن المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم، ولأن المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً. . .
صحيح أن هذه القصص وما صيغ من أساطير، تتصل بعادات العرب وطباعهم، تلقي إشعاعا قويا على حياتهم ومعاشهم، لأن الوضاع وهم أقرب عهدا بهم، وأكثر علما بما كان عليه أسلافهم، اجتهدوا ما وسعهم الجهد، واحتالوا ما واتتهم الحيلة في أن يجعلوا هذه الصور واقعية، أو قريبة الشبه بالواقع، حتى لا ينكشف أمرها، فتضيع الفائدة المرجوة منها، ولكن الصحيح أيضاً، أن الصورة تكشف فيما تكشف عن نفسية المصور، وأن الرواية تتأثر فيما تتأثر بأخلاق الواضع، وتفاعلات المجتمع الذي عاش فيه. . .
ولعل أغمض فترة في التاريخ العربي، هي تلك التي تمتد من القرن الأول الميلادي حتى القرن الثامن، فليس ثمة تاريخ صحيح لها، حتى المصادر اليونانية أو اللاتينية لم تشر إليها، رغم أن هذه المصادر عرضت لأحوال الجزيرة قبيل ذلك التاريخ (ومرجع ذلك فيما يبدو هو ظهور المسيحية وانتشارها في الغرب وتسلط الأضواء عليا، وجذبها لأنظار العالم المثقف إذ ذاك، وانصرافه عما عداها. وكذلك الإسلام من ناحية أخرى، فهو كما تعلم جاء مناهضا للوثنية العربية الجاهلية، فشن حربا لا هوادة فيها على كل ما هو عربي وثني، لذلك تطوع كثيرون من كتاب العرب لتشويه العهد العربي الجاهلي، تاريخا وأدبا وعقائد، وأضحت الصورة التي لدينا، والتي قدمها لنا الإسلام والمسلمون صورة مشوهة، لا تعبر عن حقيقة بلاد العرب قبل الإسلام)! وليس أقوى على ذلك دلالة ولا أبلغ حجة، من أن القرآن وسم عصر ما قبل البعثة بالجاهلية، وبداهة كان يقصد أن القوم لم يكن لهم نبي مرسل ولا كتاب منزل، وإلا فكيف نصم بالجهل وندمغ بالجهالة مجتمعا له آداب رفيعة، وثقافة عالية، كتلك التي تركها لنا العرب القدامى، ولكن الإسلام وهو يواجه قوة قريش في عنفوانها، لم يجد بدا من إسدال السجف على ما قبله من حياة، ومطالبة معتنقيه بترك ما ورثوا في صرامة، والعزوف عما ألفوا في شدة، حتى يمهد لدعوته سبل القرار، وكان له ما أراد إلى حين
وكان الشعر ديوان العرب الخالد، يجمع مفاخرهم، ويسجل عظائمهم، ويصور حياتهم، وتنعكس على محياه خلجات نفوسهم، ونبضات قلوبهم، فنهي عنه؛ وصادر روايته، وشن حملة شديدة على الشعراء ورواتهم (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون؛ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) ويروي الأغاني أن أمية بن الصلت كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر يقول:
ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح
فنهى الرسول (ص) عن رواية القصيدة كلها، وكان لذلك أثره فيما بعد، فلما انتصرت العصبية في العهد الأموي، وعاد الشعر يحتل مكانته من جديد، كانت يد الرقيب قد امتدت إلى ما بقي من العهود الأولى، فحذفت وبترت، وغيرت وحورت، مرضاة لله أو تقربا إلى السلطان
وقد تعرض القرآن الكريم لما كان عليه العرب، هادماً وقادحاً، ذاما وناكرا، ولكنه لم يعرض لكل شيء، ولم يهدم كل شيء، وما اعترض عليه أو دعا إلى هدمه ذكره مجملا فلم يعن بالتفاصيل والجزئيات، أو الأسباب والدوافع، وإنما يفسر الشيء بسببه أو دافعه، وتكيف الحادثة بظروفها المهيأة، وما أحاط بها من ملابسات.
ومع ذلك، فلنحاول في هوادة ويسر، أن نشق طريقنا خلال هذه الحجب، لا غالين ولا متعصبين، وإنما رائدنا الصدق وغايتنا الحق، ونهجنا الإخلاص، وعلى المرء أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح!
(يتبع)
الطاهر أحمد زكي
كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول