مجلة الرسالة/العدد 923/أم عمارة. . .
مجلة الرسالة/العدد 923/أم عمارة. . .
(ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!)
محمد رسول الله
للأستاذ محمد محمود زيتون
طلع الصباح، فاتجهت الأنظار إلى جبل أحد، كأنما كانت الشمس هي الأخرى تشير إليه بأشعتها الحامية، وها هي أم عمارة تدلف في همة ونشاط، ومعها سقاء فيه ماء لسقي الجرحى، ولما أحتدم الضراب، أخذ الناس يولون، ولكن أم عمارة كانت ممن ثبتت مع النبي، ومعها زوجها وأختها وولداها حبيب وعبد الله، كلهم يتلقى النبال وهي تتهاوى كالبروق على رسول الله، فلا يخلص منها شيء.
هذه أم عمارة بقامتها المديدة، والعصائب في حقويها، وسقاء الماء بين قدميها، والقوس بين يديها، ومسلمة يصوب إليها سهماً يصيب يدها، فينزف الدم، ويتلفت النبي إلى عبد الله ابن زيد ويقول: أمك أمك!
ولكنها تمضي إلى الكنانة المنثورة أمامها فترمي سهماً بعد سهم غير عابئة بجرحها هذا، ويعينها أبنها عبد الله على قتل عدو الله مسلمة، وينسى عبد الله جرحه الذي لا يرقأ دمه، وبحسبه أن قد ظفره الله بعدوه، وعدو دينه، ورد كيده في نحره لم يخلص أذاه إلى نبي الله، ويظل عبد الله يتلقى السهام، فيراه النبي، والنزيف منه لا ينقطع فيقول له: اعصب جرحك يا عبد الله.
وبلغ الإعياء من عبد الله مبلغا عجيبا، فقد غلبه جرحه حتى برك كالجمل، وعمدت إليه أمه، ونزعت من حقويها عصابة، وضمدت جرحه، وأخذت بذراعه وهي تقول: انهض بني فضارب القوم.
وتتلفت يمنة يسرة، وعلى ملامح وجهها لهفة إلى ترس تتخذها هدفاً لنبال العدو دفاعاً عن رسول الله، والناس ينفضون منهزمين يولون الأدبار، وإذا برجل في الراجعين وترسه معه فيقول له النبي:
يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل ويلقي الرجل ما معه، ويمضي وهو لا يلوى على شيء، فتنفرج أسارير أم عمارة إذ تتناول الترس تحمي بها وجه رسول الله، وتظل تارة تترس دونه وتارة تعصب الجرحى، وتارة أخرى ترمي عن القوس، نبلا بعد نبل، وهي مع ذلك كله تستفز زوجها وأختها وولديها للنهوض والقتال، وتفرغ الماء في أفواه جرحى المسلمين، ويعجب النبي لهذه القدرة العجيبة وذلك المضاء الفائق بينما سائر الجيش يلوذون بالفرار، فينظر إلى أم عمارة فيقول لها: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟
وفجأة يلمح النبي رجلا في القوم ضرب عبد الله، ثم افنتل كالأفعوان إلى وكره الخبيث فيشير إليه النبي ويقول لأم عمارة: هذا ضارب ابنك، فتعاجله أم عمارة بضربة في ساقه، فيبرك حيث هو كالخيمة انقض عليها صاعق من السماء السابعة، ويتلوى على نفسه وله جعير كأنه الجمل الذبيح، ويبتسم النبي ويقول: استقدت يا أم عمارة. وبعينها طلحة على عدوها فيعلوه بسيفه حتى يجهز عليه.
ولم تكد أم عمارة ترى الرجل قتيلا حتى رجعت إلى وراء كأنما تبدي أسفها لرسول الله أن سبقها طلحة إلى غريمها، فلم يجعل الله مصرعه على يديها، ولكن النبي الكريم يبادرها بقوله مشجعا:
الحمد لله الذي ظفرك، وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك. فيستريح بالها، وتطمئن نفسها، وتهدأ ثورتها، ولكن النبي يلمح جرحا بعانقها وهي لا تشعر به فينظر إلى حبيب بن زيد: ويقول له: أمك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، رحمكم الله أهل البيت.
وأسرع حبيب إلى نزع عصابة من عصائب أمه، فضمد جراحها، وحبس نزفها، وعلى فم أم عمارة بسمة كأنها البطل الظافر والضرغام الكاسر، لولا أنها حوراء قد هبطت من الجنة ترفل في هالة من القدس المنير، فتقول للنبي الكريم تبتغي رضوان ربها:
يا رسول الله، أدع الله أن نرافقك في الجنة.
فيرفع النبي يديه إلى السماء ويقول: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
وما هي إلا دمعتان أصفى من ماء المزنه تنحدران في رفق وحنان على خديها، وتقول في رضى وأيمان: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك.
وخفت الوطأة، وانقشع الغبار، فمضى علي وسعد برسول الله إلى المدينة، حيث أخذت فاطمة الزهراء تغسل الدم عن وجه أبيها، فما أن هدأ حتى نظر إلى من حوله، وقال كأنما يشاركهم الحديث عن أم عمارة وما أحسنت من بلاء غداة أحد:
ما التفت يمنياً ولا شمالاً يوم أحد إلا رأيتها تقاتل دوني. وتناقل الناس أخبار أحد، وسار ذكر أم عمارة في الركبان، ولا ينفض سامر للرجال إلا عن أم عمارة، ولا ينعقد مجلس للنساء إلا بأم عمارة؛ دخلت عليها خباءها أم سعد بنت سعد بن الربيع الرجل الأنصاري الكريم الذي طابت نفسه لأخيه المهاجر عبد الرحمن بن عوف عن نصف ماله؛ وإحدى زوجتيه، ولم تكد أم سعد تلج الباب حتى تنسمت عطراً يفوح من أرجاء البيت، وإذا بالبهاه يأخذ عليها جوانب نفسها، ولم لا؛ وقد وقفت أم عمارة تصلي في المحراب، وتتلو القرآن في هدأة نفس، ورقة قلب، وعبرة عين، ومقاطع الآيات تكاد تشق صخور الجبال الرواسي. وألفت أم سعد نفسها وقد جمدت في مكانها، وألقت السمع والبصر والفؤاد جميعاً إلى أم عمارة وهي تتلو:
(ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتن في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة؛ ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا الله عنكم؛ والله ذو فضل على المؤمنين) الله أكبر وتركع وتسجد ثم تنهض إلى الثانية، فتستفتح بأم الكتاب ثم تتلو:
(إذ تصعدون ولا تلوون على أحد؛ والرسول يدعوكم في أخراكم؛ فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون، ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنه نعاساً يغشي طائفة منكم. . .) الله أكبر.
ولما فرغت أم عمارة من صلاتها، تقدمت إليها أم سعد بالتحية المشرقة، فلقيتها بوجه يتهلل بالبشر والرضى، فبادرتها أم سعد تقول: يا خالة أخبريني خبرك. فقالت أم عمارة: خرجت أول النهار من يوم أحد، وأنا أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله، وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي.
ورأت أم سعد على عاتق أم عمارة جرحاً أجوف له غور يلفت النظر فقالت: من أصابك بهذا يا خالة؟ ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
فقالت أم سعد: سمعتهم يقولون أن رسول الله دعا أن تكونوا رفقاءه في الجنة؛ فقالت أم عمارة وقد انداحت لإشراقه على محياها: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد ذلك!
وانقضت على النبي ثلاث سنوات بعد أحد؛ والأحداث شاهدة بانتصار الحق وانتشار الدعوة، واهتزت الجوانح شوقاً إلى بيت الله الحرام، وقد وقفت قريش تصد المؤمنين عن الحج؛ بينما يباح ذلك لأوباش الناس.
ونزل النبي تحت الشجرة بالوادي؛ وأخذ البيعة من المسلمين فكانت بيعة الرضوان، وفتح الله عليهم فتحاً مبيناً، وامتلأت القلوب إيماناً بدخول مكة. . وكان لا بد أن تشهد أم عمارة هذه البيعة لتظفر بأجر المجاهدة، وتحظى بشرف الرضى عند الله.
ولما لحق رسول الله بالرفيق الأعلى، وولى أمر المسلمين خليفته الأمين أبو الصديق، اندلعت ألسنة النفاق من جحور الفتنة، ونجمت قرون الردة من رؤوس المتنبئين، وما كان من خليفة محمد إلا أن يقاتل هؤلاء حتى يشهدوا ألا إله إلا الله فيعصموا بذلك دماءهم منه.
هنالك ابتلي المؤمنون، فكأنما بعث المعذبون في الله بعثا آخر، ولوا ما كان يلقاه خباب بن الأرت، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، وزنيرة، وظن الكافرون أن الناس لا بد منطلقون من عقال محمد وقد مات، وحسبوا أن الدين الذي جاءهم إنما هو غاشية أصابتهم، فهم من بعد موته مفيقون، وانقلبت في رؤوسهم موازين التفكير، فراحوا يستبدون عليهم مدركين مجداً لأنفسهم، إن لم يكن كمجد محمد، فلا اقل من أن يمحو كل أثر حتى تعود للأصنام والأوثان مكانتها، ولأساطين الجاهلية سلطانهم.
وكان مسيلمة الكذاب من هؤلاء الذين سول لهم الشيطان أعمالهم، فأضلهم وأفسد بالهم، ولم يعد يرى إلا مسلكا واحداً هو (الطغيان) تمتد سياطه إلى المستضعفين، فينالهم من التعذيب ما يدفعهم إلى الخروج عن دين محمد، ويقهرهم على الشهادة بأن مسيلمة رسول الله، وأنه السيد المطاع، وأنه الآمر الناهي، وأنه مالك الرقاب، وقابض الأرواح.
وأخذ مسيلمة حبيب بن زيد فيمن أخذ. وظل يفتله في الذروة والغارب ليفتنه عن دينه، فلم يظفر منه بما كان ينتظر، ولما لم تنفع وسائل الإغراء، عمد إلى الأغلال فصفده بها، والطعام والشراب فحرمه منهما، والحديد والنار فصبهما عليه، وجعل يقول:
- أتشهد أن محمد رسول الله؟
- نعم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم
- أتشهد أني رسول الله؟
- لا أسمع
ضاق مسيلمة ذرعا بهذا الفتى العنيد حبيب بن زيد، وأخذ يستعدي عليه زبانيته من الغلاظ الشداد، فلم تفلح لهم حيلة، وازداد الكذاب غيظا وحنقا، واستبدت به شهوة الجبروت، ونزوة الطغيان، ورأى بثاقب فكره أن قطع العقدة أيسر من حلها، وأن لا سبيل إلى الراحة إلا بإخماد هذا الضمير العربيد بين حناياه، ودارت الفكرة، ودار معها حتى طلع عليه الصباح، فاندفع كالثور الأسود، وفي عينيه شرار ولهيب، وعلى صفحة خده عروق توشك أن تجحظ بكل ما يعتمل به صدره ويغلي به مرجل حقده.
وتسلل من خلف حبيب، فاستمع إلى صوته المتهدج، وأنفاسه المترامية إلى أطراف الحياة لا تزال تردد في هبوط: الله أكبر. . . ولم يكتم مسيلمة نار الضغينة في نفسه، فاستل سكينا، وجعل يقطع فريسته عضوا عضوا، يقطع باليمين ويرمي بالشمال، والدماء تنبثق كالنوافير في عينيه، كأنها تدفق من قدر على النار، ومسيلمة كالجزار لا يبالي ما يصنع، والأشلاء في يسراه ترعش كأنما تصب عليه اللعنات، فلا يطيق صبرا عليها، فينحيها عنه بأقصى ما يستطيع من قوة، ولم يزل به حتى خفتت أنفاسه وهي تمتد إلى وادي الخلود.
واستراح مسيلمة منذ انقطعت كلمات حبيب بعد أن قال آخر ما قال: الله ربي. وما كان للطاغية أن يدع هذه الأشلاء، وتلك الدماء هكذا، فقد واتته فكرة طائرة اهتز لها اهتزازا عنيفا وهو في نشوة النصر المنحوس، تلك هي أن يشق صدر حبيب ويستخرج قلبه، ويرفعه بزق رمحه، ويحدجه بنظره في عين الشمس، ليعبث في هذا القلب الذي امتلكه محمد، ولينبش السر الذي كمن فيه الأيمان، وأخيرا لقول للشمس: أشهدي فقد أهلكت بيدي ما أراد محمد أن يهلك به سلطاني. وقالت له الشمس: لا أسمع، فدخل في روع مسيلمة انه صوت حبيب، فهاله أن رآه وقد مات بين يديه، وصوته ما يزال يتردد مع أشعة الشمس، فإذا بهذه الأشعة كأنها رشاش الدم ينصب في وجهه فما يطيق دفعه، ولا يستطيع أن يتفاداه.
ألقى مسيلمة السكين من يده، في هدوء جمع بين النصر والهزيمة، وكأنما صحا من حلم يداعب خياله في نأمة الليل البهيم، فما هو إلا أن غشيته كتائب الإيمان تسيل بها (اليمامة) وتنقض على مسيلمة كأنها موت الفجاءة، وإذا بأم كأنها بمفردها كتيبة خرساء، درعها سابغة، وخوذتها شاملة، وكنانتها في منكيها، وسهامها منتضاة، وحرابها مختصرة.
وشمرت الحرب عن ساقها، وشرعت أم عمارة وبين يديها ابنها عبد الله تتفحص مسيلمة في عصابته فإذا بالفاجر المعمر يحوطه عبيده من كل جانب، فأشارت إلى ابنها، فرماه رمية استقرت في نحره، فانتفض عنه كل من كان حوله، فقام آخر وأجهز عليه بسيفه، وخلفه ملحمة للجوارح والكواسر.
لو أن أم عمارة كانت تقاتل مسيلمة انتقاما منه لقتله ابنها حبيب لهان الأمر، ولكنها والله جاءت لتقاتل في سبيل الله ولتكون كلمة الله هي العليا.
لهذا فهي تضارب القوم، وهذا شاب مغامر قد انفتل من شرذمة الباطل، وامتدت يده بالسيف إلى أم عمارة، يريد أن يزيل هامتها فأخلفته فما هو إلا أن طارت يدها في الهواء، والجراح موزعة في أجزاء جسمها، والدم تنزف منها على غير هدى، وإذا ترى ابنها يمسح سيفه بثيابه، ونظراته تشير إلى مصرع عدو الله مسيلمة، فانشق الدم المدرار عن بسمة من ثغرها، وسجدت لله الذي جعل ذاك الخبيث على يد ابنها، حتى انطوت في لحظة واحدة مائة وخمسون سنة قضاها مسيلمة يحارب الله ورسوله ويفتن المستضعفين، ويعذب المؤمنين، ويصد عن السبيل، ويحسب أنه من المهتدين.
وانطفأت فتنة الكذاب، وأخذت الدعوة سبيلها إلى القلوب وامتدت إلى الأمصار، وأم عمارة سيدة المجاهدات المسلمات، لم تثنها ضربة يوم أحد عن خوض غمار حرب يوم اليمامة، ولم يصرفها قتل ابنها حبيب عن دفع ابنها الوحيد عبد الله إلى الميدان، وما كان الجرح الغائر في عاتقها الذي لقيته من ابن قمئة ليصدها عن محاربة مسيلمة.
استرخصت أم عمارة الحياة الدنيا في سبيل الحياة الآخرة، وأرادت العزة فوهبتها عزيز الروح، وعاشت دهرا بعد أن تقطعت يدها يوم اليمامة، ورجعت وفي جسمها اثنا عشر جرحا ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، وكأنها اثنا عشر نجما تتلألأ في السماء، فتنير ظلام البدن بشرف الروح.
وجعل الناس يعودونها ومعهم مرضاهم لتستشفي لهم، ويتلمسوا منها البركة، فتمسح بيدها الشلاء على موضع العلة، وتدعو ببعض كلمات كانت تسمعها من رسول الله، فما من عاهة مسحت عليها بيدها إلا برئت بإذن الله.
وصار كل من يرى أم عمارة لا يستطيع أن يخفي إعجابه من قلبها هذا الحديدي، وقد امتلأ أمنا وإيمانا، ولا أن يخفي عجبه من هذه الجراحات الموزعة في ظاهر جسمها، وكلما سأل سائل عن ذلك، قالت:
(يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا بابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه فقلت له: أقتلته؟ قال: نعم. فسجدت لله شكرا)
وكان جديرا بأم عمارة أن تلقى التكريم من كل من جلس إليها، وتأمل آثار جهادها، ولكن ما كان أسعدها حين يردد الناس على سمعها قول النبي الكريم، وما أصدقه وأبلغه وأحكمه: ون يطيق ما تطيقين يا أم عمارة!
محمد محمود زيتون