مجلة الرسالة/العدد 921/القصص
مجلة الرسالة/العدد 921/القصص
العظام المقدسة
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ حسين أحمد أمين
(رسالة إلى الأب لويس دانير قسيس سواسون)
سيدي الفاضل:
يؤلمني أن أنهي إليك أن الخطبة التي كانت قائمة بين ابنة عمك وبيني قد انفصمت عراها، وأن هذا الانفصام إنما يرجع إلى أتفه الأسباب وأبعثها للضحك. . هي لعبة قذرة لجأت إليها من غير عمد. . لذلك لجأ إليك يا سيدي العزيز لتنقذني مما أنا فيه ولن أنسى لك ما حييت ما قدمته لي من مساعدة.
إنك تعرف جيلبرت. . أو بالأحرى تظن أنك تفهمها. . ولكن من ذا الذي يفهم امرأة؟ ومن ذا الذي بإمكانه أن يثق بآراء النساء ومعتقداتهن وأفكارهن؟ ألا ترى أنهن لا يلبثن على وضع ولا يستعن بمنطق، وأنهن يتهربن في المناقشات، ويبدون متمسكات بآرائهن إلى حد العناد ثم يتحولن عنها فجأة لمجرد أن طائراً صغيراً قد ظهر عند حافة النافذة؟
ولست في حاجة إلى أن أبين لك مدى تمسك ابنة عمك بالين إذ هي - كما تعلم - قد تلقت دروسها عن الراهبات في نانسي. . وربما كنت تعلم عنها هذا الصدد أكثر مما أعلم. . ولكني على ثقة من أنه قد غاب عن ذهنك أنها امرأة قبل كل شيء وأنها في عواطفها وآرائها كالريشة في مهب الريح. فما أسرع تحولها من الإشفاق إلى الغضب، ومن الحب إلى الحقد!
حسن! لقد خطبتها وأحببتها إلى حد العبادة وقد بدا لي أنها تحمل لشخصي بعض الميل. . وفي إحدى الأمسيات تلقيت برقية تستدعيني إلى كولونيا لإجراء إحدى العمليات. فأسرعت إلى جيلبرت لأودعها وأعتذر لها من عدم إمكاني تناول العشاء مع والديها يوم الأربعاء ولأطلب منها أن تؤجل الحفلة إلى يوم الجمعة عند عودتي. . آه يا عزيزي. . حذار من يوم الجمعة فإنه يوم شؤم. وعندما أخبرتها بعزمي على القيام بالرحلة رأيت دمعة تلمح في عينيها ولكن ما أن أخبرتها بنيتي في الرجوع في أسرع وقت حتى صفقت بيديها وصاحت:
حسن. . حسن. . يجب أن تحضر لي هدية معك. . أية هدية رخيصة الثمن أبقيها معي دائماً لتذكرني بك. . ولكن عليك أن تنتقيها لي وأن تتأكد من أنها ستدخل السرور إلى نفسي. .
ثم قالت:
(إني أمنعك من أن تشتري هدية بأكثر من عشرين فرنكاً. . إذ لا يهمني عظم قيمتها وفداحة ثمنها. . إنما يهمني حقيقة شعورك وإخلاصك لي) وسكتت قليلاً ثم قالت وهي تخفض بصرها:
(إذا اشتريتها لي بثمن منخفض ونالت إعجابي فسأمنحك قبلة. .)
وسافرت في اليوم التالي إلى كولونيا. . فوجدت المصاب رب عائلة فقيرة ووجدت جراحه من الخطورة بحيث تستدعي عملية عاجلة. . فأجريتها له ومكثت إلى جواره ثمانياً وأربعين ساعة. . حتى إذا ما رأيته قد بدأ يرجع إلى نفسه استققللت عربة إلى المحطة.
وعلمت أن القطار سيبرح بعد ساعة فخرجت أتجول في الطرقات وأنا أفكر في المريض البائس. . وإذا برجل يتقدم مني. . ومع أني لا أفهم الألمانية وهو لا يفهم الفرنسية استطعت أن أدرك منه أنه يبيع آثاراً للقديسين. . وفجأة تذكرت جيلبرت. وتذكرت أنها شديدة التدين. . فتبعت الرجل إلى حانوته واخترت من بين محتوياته عظمة صغيرة من عظام إحدى القديسات محفوظة في علبة صغيرة من الفضة. . ثم سافرت. .
وعندما وصلت إلى منزلي أردت أن أرى العظمة مرة أخرى. ففتحت العلبة. . وإذا بي أراها خالية. وفتشت جيوبي واحداً إثر الآخر ولكني لم أعثر لها على أثر.
وأنت تعلم يا عزيزي القسيس أن معتقداتي الدينية ليست بالمتينة. وتعلم أني لا أعتقد في قدسية آثار القديسين - وتشاركني أنت في هذا الرأي - لذلك لم أحزن على فقد العظمة وبحثت عن أي شيء أحله محلها. . ثم ذهبت إلى حبيبتي. .
وما إن دخلت الحجرة حتى جرت إلي وهي تقول:
- ماذا أحضرت لي؟ وتظاهرت بأني قد نسيت طلبها ولكنها رفضت أن تصدق. . وتوسلت إلي أن أريها ما أحضرته لها. . وأخيراً أظهرت لها العلبة وبداخلها عظمة صغيرة فكادت تجن من الفرح. .
- عظمة لإحدى القديسات!!
ورأيتها تقبل العلبة في خشوع. .
بدأ ضميري يوبخني على الخدعة التي ارتكبتها وسألتني فجأة:
- هل أنت واثق من أنها إحدى القديسات؟
- كل الثقة. .
- وما دليلك على هذا؟
وشعرت بحرج الموقف. . فإن أخبرتها أني اشتريتها من بائع متجول فقد ضاع كل شيء. . فماذا أقول؟ وطافت بعقلي فكرة جنونية فقلت لها في صوت منخفض غامض:
- لقد سرقتها من أجلك. .
ورأيتها تحدق بعينيها الواسعتين:
- ماذا؟ سرقتها؟ من أين!
- من الكنيسة. . ومن المكان الخاص بآثار القديسات. وأخذ قلبي يدق بشدة، ورأيتها تكاد أن يغمى عليها من الفرح وتمتمت: وسرقتها من أجلي؟ قص علي القصة كلها. . وهكذا لم أستطع التراجع. . فقصصت عليها قصة من مخيلتي سارداً فيها أدق التفاصيل. وقلت إنني رشوت الحارس بمائة فرنك لكي يسمح لي بالدخول وحدي. . وإن العمال الذين كانوا يصلحون المكان خرجوا لتناول الغداء ففتحت أحد الصناديق وسرقت عظمة صغيرة ثم أقفلت الصندوق ثانية وذهبت إلى الصائغ فصنعت له علبة من الفضة.
ورأيتها تستمع إلي في ذهول وسعادة ثم سمعتها تتمتم: ما أعظم حبي لك! وغاصت بين ذراعي. .
لتلق بالك إلى هذا يا سعادة القسيس. . لقد سرقت وانتهكت حرمة الكنيسة وغرفة القديسات وسرقت آثاراً مقدسة. . وبسبب ذلك تحبني وتعتبرني مخلصاً كاملاً عظيماً!
هكذا النساء يا عزيزي القسيس. دائماً أبداً. .
وظللت شهرين إلى جوارها وهي تعتبرني أخلص المحبين وأكثرهم سحراً. . ورأيتها تضع العلبة في مكان أعدته لها لتتعبد إلى جوارها صباح ومساء. .
وما أن جاء الصيف حتى انتابها شوق إلى رؤية مكان الجريمة وألحت على والدها بشدة دون أن تطلعه على السبب الحقيقي كي يصحبها إلى كولونيا. . وقد أخفوا جميعاً عني سر هذه الرحلة.
وأظنك تعلم يا سيدي أني لم أشاهد في حياتي كنيسة كولونيا من الداخل. . وأني لا أعلم ما إذا كانت هناك حقاً غرفة لقديسات أم لا. .
وبعد أسبوع تلقيت ستة سطور من جلبرت تفسخ فيها الخطبة وخطاباً من أبيها يشرح لي السبب في الفسخ. . لقد ذهبا إلى الكنيسة ودخلا غرفة القديسات وسألت الحارس عما إذا كانت قد وقعت سرقة من الغرفة في يوم ما. فضحك وبين لها استحالة السرقة. .
لقد اعتبرتني غير جدير بحبها منذ اتضح لها أنني لم أسرق من هذا المكان الطاهر، وأن يدي الدنسة لم تتسلل إلى العظام المقدسة.
ومنعتني من دخول منزلها برغم توسلاتي الحارة.
أتضرع إليك يا سيدي القسيس أن تتوسط في الأمر وأن تشفع لي عندها. . ولك مني أخلص الود.
حسين أحمد أمين