انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 92/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 92/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 04 - 1935



من أساطير الإغريق

بين أبوللو وكيوبيد

للأستاذ دريني خشبة

عصى الناس، في قديم الزمان، سيد أرباب الأولمب، السند الأعظم، المهيمن على ملكوت السموات والأرض: زيوس. ومع ما اشتهر به من واسع الحلم، وطول الأناة، وجم المغفرة، فانه لم يشأ أن يمد للعالم في حبل الغواية، لدرجة إنكارهم لذاته، وإلحادهم فيه، وكفرهم به؛ فأقسم ليهلكن حرثهم ونسلهم، وليقطعن دابرهم أجمعين! فأطلق الرياح الجنوبية الهوجاء، وأرسل السحب تتدجى كقطع من الليل البهيم، وأذن للأرض فتشققت ينابيع وعيونا، ثم انهمرت الأمواه من فوقهم، وتفجرت من تحت أرجلهم، وطغى الموج يجرف الدور ويعفي الآثار. وفي أيام قلائل، كان الطوفان يغمر وجه الأرض، ولم يكن ثمة إلا بحر خضم عظيم

وهلك الناس جميعا، وشفى زيوس موجدته عليهم، ثم بدا له أن يعيد مياه الحياة إلى مجاريها، فأطلق الرياح من عقالها، فهبت في شدة وعنف، وأخذت ترشف ماء الطوفان، تعاونها في ذلك مركب أبوللو. . . يوح العظيمة. وبدأت الأرض تجف، وشرع بساطها السندسي الجميل يبدو قليلا قليلا، حتى ازدهرت المروج، وأينعت الخمائل، وسمق الدوح، واهتزت الربى، وأخذت السهول زخرفها. وبدا له مرة أخرى أن يخلق أناسي يعمرون الأرض الجديدة؛ فما كاد يفعل حتى ظهرت حيوانات بحرية هائلة، جعلت تزحف من الماء إلى الأرض، فتهلك الخلق الجديد. وكان أشد هذه الحيوانات وطأة، وأكثرها فتكا، ذلك التنين البحري الهائل، الذي كان يصمد للعصبة القوية من الرجال فيفنيها عن آخرها؛ حتى ضج الناس واستغاثوا، وجأروا بالدعاء إلى زيوس الرحيم، فرق لهم وحدب عليهم، وأرسل أعز أبنائه من زوجه لاتونا: أبوللو، فأنقذهم من التنين (بيثون) بسهامه التي سددها إليه حتى أرداه

وانثنى ثملا بخمرة النصر، مزهو بما رفع الناس إليه من صلوات وابتهالات، وبينما هو راق إلى سماء الأولمب، إذا أخوه كيوبيد بن أفروديت يصيد الظباء في غيضة لفاء، ويلهو باجتناء الثمر، ويمرح بين افواف الزهر، كالمستهتر الخالي. فأراد أبوللو أن يناوشه، فقال له: (كيوبيد يا ابن أفروديت! أنت هنا تصيد الظباء الضعيفة، وتريش سهامك إلى أطلائها المفزوعة، ولا تجسر على اقتناص الأفعوانات البحرية المرعبة التي تفتك بعباد أبينا زيوس؛ ومع ذاك لا تفتأ تفاخر الإلهة بسهامك التي لا تطيش، ورمياتك التي لا تخيب. كيوبيد الصغير! يجمل بك أن تنزل لي عن قوسك المرنان، وسهامك الذهبية، أو أن تحد من كبريائك، وتأتي إلي كل يوم أعلمك كيف تكون الرماية، وكيف ينبغي أن تسدد السهام!)

وغيظ كيوبيد من هذا التقريع الذي لا مسوغ له، وذلك التفاخر الأجوف الذي لا فائدة منه، ولا طائل وراءه، فعبس وبسر، وتجهم وزمجر، وقال في عبارة ملتهبة، وأسلوب مشبوب: أبوللو يا ابن لاتونا!! كان الأولى بك أن تذكر كيف عذبت حيرا في سالف الأيام أمك وأذلتها، فتقنى حياء، وتتوارى خجلا، ولا تملأ الهواء يمثل هذا الفخر الكاذب! أبوللو! أنت تتيه بسهامك وتدل؛ وتدعي أنك تقنص بها الأفعوانات البحرية، على حين أصيد الظباء، وأقتل الأطلاء، ألا فلتعلم أنني أمهر منك ألف مرة في تسديد السهام، وأقوى في توتير القوس، وإن كنت بعد حدثا صغيرا. على أنني أنذرك، أنت يا أبوللو يا ابن لاتونا بسهامي التي سأجربها فيك قريبا!!)

فضحك أبوللو ملء شدقيه، وقال: بخ بخ يا كيوبيد بن أفروديت! ليس هكذا يخاطب سيد الشمس أبوللو! ولكن يبدو لي أنك متعب من طول ما أخذت نفسك به من الصيد في هذه الغيضة، وأحسبك قد أعياك ظبي نافر فأخرجك عن طورك، خصوصا وأفردويت تنتظرك لتعد الشواء!. . أنت ستجرب سهامك في. . . . في أنا. . . .!)

فقال كيوبيد: (فيك أنت. . . . فيك أنت يا أبوللو ابن لاتونا. . . . وسترى. . .)

وامتلأت أسارير أبوللو بضحكة ساخرة، وفصل مستهزئا

وشرع كيوبيد يدبر انتقامه، ويرسم له الخطط التي ينال بها من أبوللو، فلا يستطيع أن يفلت، وكان يحمل كنانتين، يحتفظ في الأولى بسهامه الذهبية التي يصمي بها القلوب فتملأها حبا وصبابة؛ وفي الأخرى بسهامه الرصاصية التي يصيب بها القلوب فيفعمها بغضا وكراهية. . . . ونثر كنانتيه وانتقى من كل واحدة سهما حاد الشباة مزدوج السنان، ثم انطلق في الأدغال يفكر ويدبر؛ ويمم شطر غدير قريب منه غلته، فرأى القينة الحسناء (دفنيه) متجردة من ثيابها، جالسة كالقطاة على عدوة الجدول، تداعب الماء بقدميها الحبيبتين، وتظللها صفصافة ممتدة الفيء وارفة، والأطيار من فوقها تغني لها. فقال كيوبيد، متحدثا إلى نفسه: (فرصة نادرة لن أفلتها. . هذه (دفنيه) الجميلة تستنقع من القيظ، وهي وسيمة قسيمة، بارعة الحسن، تامة المفاتن؛ لابد أن أسدد سهما رصاصيا إلى قلبها الصغير فيمتلئ كراهية وبغضاء. . . ويحسن ألا أشعرها بوجودي حتى أصمي قلبها. . . فلأختبئ هنا. . .)

وتوارى خلف دوحة كبيرة، وثبت السهم الرصاصي في مكانه من القوس، ثم أطلقه في قلب دفنيه؛ وما كاد يفعل حتى انخلع قلب الفتاة من الذعر، وأسلمت ساقيها للريح تعدو بين الأيك، صارخة من ذلك الثلج الذي ذهب بحرارة فؤادها

وقصد كيوبيد إلى حيث أبوللو، وكان قريبا من دفنيه، فسدد إلى قلبه السهم الذهبي فأصماه. وتلفت أبوللو ينظر ماذا أصابه، وحدث ان كانت دفنيه منطلقة تعدو إذ ذاك، فلمحها، وسرعان ما جن بها جنونا. لقد ملأه سهم كيوبيد حبا، كما ملأ سهمه الرصاصي دفنيه بغضا. . .

لقد كانت دفنيه أول من وقع عليه نظر أبوللو بعد إذ ملأه سهم كيوبيد حبا، فهام بها، وشعر نحوها بهوى ممض وبرح قديم، كأنه برح آلاف من السنين؛ وكذلك كان أبوللو أول من وقع نظر دفنيه عليه بعد إذ أفعمها سهم كيوبيد كراهية، فأبغضته، وشعرت بسم تنفثه عيناه في قلبها حينما رأته

أفلح كيوبيد إذن في الفتك بأبوللو، حين أوقعه في أحبولة الهوى؛ ورداه في شرك الغرام، بهذه الفتاة الكارهة المحنقة، دفنيه! أفلح كيوبيد، وتبع أبوللو يرى إليه يتذلل ويتضرع. . . ويبكي كما يبكي الآدميون. . وهو سيد الشمس، ورب الموسيقى، وقانص الأفعوانات كما دل على كيوبيد وافتخر!

انتصر كيوبيد إله الحب، صاحب القوس الذهبية، كيوبيد الطفل، ذو الجناحين، على أبوللو سيد الشمس، صاحب القوس والوتر العرد!!

إن الحرب لم تبدأ، حين بدأت، بين أبوللو بن لاتونا، وكيوبيد بن أفروديت، بل هي بدأت بين البغضاء والحب، والقلى. . . والهوى! انطلق أبوللو في إثر دفنيه المذعورة يبكي ويتذلل، ويحاول اللحاق بها. . . ولكن هيهات! لقد كانت تمعن في الهرب، كلما جد هو في الطلب؛ ولقد كانت تنظر إليه كأنه قاتل أبيها. . . وخانق أمها!. .

وصاح أبوللو ضارعا: (دفنيه أيتها العزيزة! قفي أرجوك! تمهلي أتوسل إليك! الشوك يجرح قدميك المعبودتين يا دفنيه! أوه! رويدك يا حبيبة! لا تنطلقي هكذا فقد يؤذيك اندفاعك! فيم أنت مذعورة هكذا؟ قفي؛ فأنا أبوللو. . . قفي!. .)

ولكن دفنيه لا تجيب إلا بنظرة القنص، ولفتة الواجف المراش، وتجد في الهرب. . فيقول ابوللو: (قفي يا دفنيه! قفي ولك نصف ملكي! بل لك الشمس كلها إذا وقفت! أنا رب الموسيقى سأغني وأصدح لك! سأطربك بقيثارتي الذهبية بعد أن أغسل لك قدميك في كل ليلة (!!)، سأطير بك في أرجاء السموات! ستكون لك القصور في جنة الأولمب! سأمنحك الخلود يا دفنيه! أحبك! أستحلفك بزيوس إلا ما وقفت! مالك هيمانة على وجهك هكذا؟ هل أخيفك؟ هل أزعجك إلى هذا الحد؟. . . ويلاه!)

ولا تبالي دفنيه، بل تعدو وتعدو. . .

ويضيق أبوللو بغصته ذرعا، فيلجأ إلى جبروت الإلهة، ويبدى سلطان السماء! ويصيح صيحة هائلة، فيكون سد منيع في طريقه دفنيه!

فيقول أبوللو وقلبه يضطرب من طول الإعياء: (فيم تهربين منى يا دفنيه! ألم تعبديني مرة وتقدمي الضحايا باسمي إلى كهنة الهيكل؟: هأنذا أبوللو المعبود، أرجوك وأتوسل إليك! ماذا تريدين بعد هذا؟ لقد بلغت من أبوللو منزلة لم تبلغها ربة من قبل! لقد فضلتك على كليمين، زوجتي المعبودة، وأجمل عرائس البحر، وأم طفلي المحبوب فيتون!! فيتون أسرع الإلهة بعد أخي هرمز، سآمره يكون خادما لك! إنه يقتني أغلى المركبات، ولديه من الصافنات الجياد أغلاها؛ ستركبين معه فتطوفين العالم في ساعتين، وترين ما بين الشرق والغرب في لمحتين، لو رضيت! دفنيه! أرجوك يا دفنيه! إنني أبدا ما بكيت بمثل ما أبكي لك، وأذرف الدمع بين يديك! حنانيك يا دفنيه فقد سحقت قلبي بكبريائك، وأذللت نفسي بخيلائك!)

وكان فعل السهم الرصاصي في قلب دفنيه قد خف، ووقفت الغادة حائرة مترددة مما تسمع، وكانت عيناها ثرتين بعبرات حبيسة. ولكن كيوبيد المختبئ في عساليج الكروم القريبة كان يرى ويسمع، فلما شاهد من ضعف دفنيه وقرب تسليمها، تناول قوسه، وانتقى سهما مسنونا من كنانة الأسهم الرصاصية وسدده إلى قلبها، فصرخت المسكينة صرخة داوية، وهبت في وجه أبوللو تقول: (إليك عني أيها المسخ! تنح! أبغضك! أكرهك! أغرب عني! أنت أنجس من التيتان، وألأم من شارون، أذهب! لا أطيقك؛ انظر إلى هذا الغدير لترى الشرر ينقدح من مقلتيك، والدخان يصاعد من منخريك! كريه. . كريه. . شائه أنت أيها الوحش. .)

وكذلك كان فعل السهم الذهبي قد شارف أن يبطل في قلب أبوللو. . وكاد الإله العظيم يخلص من هذا السحر العجيب، فيسحق دفنيه، لولا أن تنبه كيوبيد، فأصماه بسهم ذهبي آخر، فجن جنونه، وتجدد حبه، وتألب به هواه. . . فصرخ صرخة راجفة، وأشار إلى السد فزال عن طريق دفنيه، فانطلقت تعدو. . وتعدو. . . وانطلق هو في إثرها يتوسل. . ويذرف أغلى العبرات!!

لقد كانت دفنيه تطوي الطريق كأنها فكرة شاردة في رأس شاعر، ولقد كان أبوللو يقتص آثارها كأنه الكوكب السيار منجذبا إلى نجم كبير! وكان كلما سرق اللمحة من ساقيها الجميلتين التهب قلبه بحبها، واشتعلت نفسه بالرغبة الملحة فيها، وانجذبت روحه إليها. . . . يا لكيوبيد! ويا لسهامه. . . . الذهبية. . . والرصاصية، على حد سواء!!

وتعدو دفنيه حتى تكون عند حفافي النهر العظيم الذي أقام زيوس والدها الكبير إلها عليه، فتصرخ قائلة: أنقذني يا أبي! خلصني من هذا الوحش الذي يدعى أنه أبوللو الكريم! إنه يعدو من ورائي. . . خلصني منه. . . إني أبغضه. . . يا أبي. . . يا أبي. .)

وينشطر الماء، ويخرج أبوها، إله النهر، فيرى أبوللو مقبلا فيعرفه، ولكنه يرق لابنته، ويقسم ليخلصنها من سيد الشمس، فيغرس قدميها في الشاطئ، ويحتفن من الماء بيديه، وينثرها به، بعد أن يتلو عليه من تعاويذه؛ ويقف أبوللو مشدوها، موزع اللب، ينظر ويرى!

لقد تحولت دفنيه، في لمحات، إلى شجرة باسقة من أشجار الغار، وأخذت الخضرة تينع في أغصانها، بين حيرة أبوللو وشدة تعجبه!

ووقف الإله العظيم يبكي ويا ويح العاشق المخبول!

ثم تقدم فبارك الشجرة، وسقاها من دمعه، الذي كان من خلائقه الكبر! وانصرف محطم النفس، معمود القلب، كاسف البال. . . ولقيه كيوبيد، فسأله الخبيث: (أين سهامك التي أرديت بها الأفعوانات يا أبوللو بن لاتونا؟) فقال: (كيوبيد! اشفني مما ألم بي!) فقال كيوبيد: (بهذا السهم الرصاصي أشفيك!)

وتلقى أبوللو السهم في قلبه عن طواعية فبرئ مما به، ولم يعاد كيوبيد بن أفروديت بعدها!

دريني خشبة