انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 918/ضبط الكتابة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 918/ضبط الكتابة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1951



بحث قدمه إلى مؤتمر المجمع اللغوي

الأستاذ محمود تيمور بك

عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية

ما كاد يبدأ عهد التدوين العربي في عصر الدولة الأموية حتى تبين أن هذه الحروف العربية وحدها ليست مغنية في ضبط الكلام. ولذلك أخذ الأمويون في ابتكار علامات للضبط توضع على الحروف، نفياً للخطأ، ورفعاً للبس. هذا والأمة العربية في جملتها يومئذ مستقيمة الألسن، صافية السلائق، فصيحة اللهجات.

ولقد بلغ من شعور الأقدمين بضرورة الضبط أنهم لم يكونوا يقتصرون على وضع العلامات المقررة، بل لقد كانوا يلجئون إلى التعبير في المواضع المهمة للكلمات التي يخشون عليها الالتباس. فيكتبون مثلاً أن الكلمة بفتح الحرف الأول وسكون الثاني وضم الثالث وكسر الرابع. وما بعثهم على ذلك إلا خوف التصحيف والتحريف، بل لعلهم خشوا أن تذهب علامات الضبط، أو أن يستثقل النساخ نقلها، فأرادوا تسجيلها بالتعبير. وليس أبلغ دليلاً عن هذا على رهافة شعورهم بنقص الحروف العربية وحدها في الأداء، وبقيام الحاجة إلى ضبط الكلمات ضبطاً لا لبس فيه.

فأما نحن فإننا في مستهل نهضتنا الحديثة، حين بدأنا نتخذ الطباعة وسيلة للتدوين، اكتفينا بالحروف العربية عارية عن علامات الضبط للكلام.

فهل مبعث ذلك أننا عددنا أنفسنا عرباً أقوى سلائق من العرب الخلص في العصر الأموي، وأقدر منهم على قراءة ما يكفي بالحروف العربية غير مضبوطة؟

كلا، فإنه لا خلاف على أن قراءة الكلام غير المضبوط قراءة صحيحة، أمر يتعذر على المثقفين عامة. بل إن المختصين في اللغة الواقفين حياتهم على دراستها، لا يستطيعون ذلك إلا باطراً اليقظة، ومتابعة الملاحظة. وإن أحداً منهم إذا حرص على ألا يخطئ، لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني، وإرهاف الذاكرة، وإجهاد الأعصاب.

لم يكن مبعث اقتصارنا في الطباعة على الحروف العربية دون ضبط أننا وجدنا فيها غن وكفاية، وإنما كان مبعثه أن أوضاع الكتابة العربية يصعب معها إدخال علامات الضبط في المطابع فلم يتح لهذه العلامات أن تأخذ مكانها على الحروف المطبعية إلا في أحوال قليلة، وضرورات خاصة.

وكان في مقدمة هذه الضرورات والأحوال بعض الكتب المدرسية الخاصة بمواد اللغة العربية، مثل كتب النحو والمطالعة فطبعت مشكولة لاستعمالها في المدارس، ولكن كان لذلك أثر سيئ، فقد أشاع بين المثقفين شعوراً نفسياً نحو هذا الشكل شعور استعلاء عليه، وأنفة منه؛ إذ توهم الكبار أن الضبط لا يكون إلا للصغار، وأنه للتلامذة دون الأساتذة، وأن الكتب المدرسية هي وحدها التي تظهر مشكولة، وعار أن تضبط الكتب التي توضع بين أيدي المثقفين الذين فارقوا مراحل التعليم. فمن قدم لمثقف كتاباً مضبوطاً فقد أساء الظن به، وعزا إليه تهماً الجهل بأوضاع اللغة، وقواعد النحو والصرف.

وجلي أن هذا الشعور النفسي نحو الشكل شعور وهمي لا أساس له، ولا حق فيه؛ فهو لون من ألوان الغرور يتواضع عليه الناس. وأولئك هم الناطقون باللغات الأجنبية من فرنسية وإنجليزية وطليانية وغيرها، لا يكتبون كلامهم إلا مضبوطاً أتم ضبط، ولغاتهم على وجه عام لغات كلام وكتابة معاً، فهم بها أبصر، وهي عليهم أيسر، وسلائقهم فيها أدعى إلى الاستغناء عن الضبط إن أرادوا أن يستغنوا عنه. ولكنهم يلتزمون الضبط فيما يكتبونه، لا يعولون على علمهم باللغة، ومرانتهم على القواعد، وانسياق ألسنتهم إلى الصواب.

فأول ما يجب أن نؤمن به، هو أن كتابتنا العربية غير المضبوطة، كتابة ناقصة، وأننا نعبر بها عن غرور نفسي، وأن هذا الغرور يخفى بين ثناياه عجز الغالب منا على القراءة الصحيحة، وفقاً لقواعد اللغة وأوضاعها. فنحن بهذه الكتابة الناقصة نرضي غرورنا، وإن كنا في حقيقة أمرنا نخطئ فيما نقرأ غير مبالين.

ولا غرو في أن يعجز العامة عن القراءة الصحيحة، وأن يجد الخاصة فيها صعوبة وحرجاً، فقد ذهبت عن العرب سلائقها الفصيحة منذ عهود وآماد، وأصبحت اللغة تؤخذ تلقيناً، وتكتسب تمريناً. إذ استقرت لنا لهجة عامية يجري بها على ألسنتنا مألوف الكلام، وهذه اللهجة تجانب لغة الكتابة الفصحى في خصائصها الواضحة، أعني الإعراب وما إليه مما يقتضيه الاشتقاق وتصريف الألفاظ والصيغ. فأصبحنا إذ أردنا أن ننطق بما نكتب، عانينا أن نعربه وأن نقوم تصريفه معاناة لا تخلو من تكلف، ولا تسلم من تعثر. ولذلك نجد المدرس في مدرسته، والمحاضر على منصته، لمتحدث أمام المذياع، يستنجدون مضطرين بالوقف، ويمتضغون بعض الصيغ، فراراً من كلفة الإعراب، واتقاء للخطأ في تصريف الألفاظ.

وقد أدت هذه المصاعب التي يضيق بها الناطقون بالفصحى، أو الحرصاء على النطق بها، إلى المناداة بترك الإعراب، واللجوء إلى الوقف. على أن الأخذ بهذه الدعوة لا يرفع جملة ما هنالك من مصاعب، فمن وراء الإعراب ضبط بنية الكلمة، في أوائلها وأوساطها، مما تقتضيه قواعد الصرف، وسماع اللغة. فإذا نودي بأن ننفض عن اللغة إعرابها وصرفها وضوابط كلماتها جميعاً، فلا تسمية لذلك إلا أنه (انحلال لغوي)، إذ هو يفقد اللغة مقومات من جوهرها الأصيل.

حقاً لقد شاعت في البلاد العربية بيئة ثقافية لها لغتها الفصحى، وحقاً إن هذه البيئة لها منبعان فياضان من المقروء والمسموع. ولكن هذين المنبعين لم يغنيا أهل العربية شيئاً في صحة القراءة، فإن المقروء عار من الضبط، والمطالعون يمضون في قراءتهم على غير هدى. وأما المسموع فاللحن فيه شائع، والخطأ كثير، وربما كان ضرره أكبر من نفعه.

ولو كانت هذه البيئة الثقافية بمنبعيها الفياضين كافلة للقارئ والسامع ضبطاً صحيحاً للألفاظ والصيغ، لأدت لأهل العربية نفعاً عميماً؛ ولكانت بذرة مخصبة لإثمار سلائق سليمة.

وأكاد أقول بأن هذه البيئة الثقافية بما فيها من مقروء ومسموع، لو شاع فيها الضبط، لأصبحت أقوى أثراً من تلك البيئة البدوية التي كان الخلفاء والأمراء يبعثون إليها بأبنائهم في فجر الإسلام وضحاه، لاكتساب العصمة من اللحن في الإعراب، والسلامة من الخطأ في تصريف الكلام.

فلنتمثل في خاطرنا أن الضبط قد شاع بين أهل العربية في سائر ما تقع عليه الأعين، وما تلتقطه الآذان: الطالب في مدرسته من أول مرحلة في حياته الدراسية إلى أن يتخرج في جامعته، في مختلف مواد دراسته، والقارئ عامة فيما بين يديه من الصحف والمجلات والكتب والنشرات، والأسرة كلها بمسمع من المذياع - فلنتمثل في خاطرنا أن هؤلاء جميعاً لا يقرءون ما يكتب لهم إلا مضبوطاً أدق ضبط، ولا يسمعون ما يلقى عليهم إلا معرباً أصح إعراب؛ ألا يكون ذلك سبيلاً إلى طبع الألسنة على صحة النطق، وإكسابها ملكة الإعراب؟

لا ريب أننا أسعد حظاً من العرب في العهود الغابرة، فما كانت لديهم هذه الوسائل التي تسنت لنا الآن، من مطبعة تخرج الكتب والصحف على اختلافها في سهولة ويسر، ومن مذياع ينقل إلى الآذان ما تلفظه الأفواه في دقة ووضوح. فأين من هذه الوسائل الناجمة ما كان للعرب الأقدمين من وسائل محدودة وعرة لجأوا إليها لإشاعة الضبط، والتعريف بالصواب؟

ولكن وسائلنا على يسرها، وقوة أثرها، لم نحسن استخدامها، فلم تفدنا شيئاً وذلك لأننا لم نلتزم ضبط الكلام فيما تؤلف من كتب، وما نصدر من صحف، وما تلفظ من قول في المذياع.

فما علة إمساكنا عن إشاعة الضبط؟

وماذا يحجم بالمطابع عن إدخال الشكل باعتباره عنصراً أصيلاً في الكلام؟

لعل أكبر البواعث في ذلك أن المطبعة العربية بدأت كما بدأت الكتابة العربية نفسها ذات حروف غير مشكولة، فأصبحت على هذا الوضع مألوفة جارية. فلما أريدت المطبعة على إدخال الشكل ضاقت به ذرعاً، ووجدته ضيقاً عليها ثقيلاً، ولم تر فيه إلا واغلاً دخيلاً. فقد أخذت الكلمات في كتابتها أوضاعاً من التركيب لا تحتمل وقوع هذه الشكلات عليها.

وعلى الرغم مما بذله أهل فن الطباعة من محاولات في معالجة الموضوع، وما بلغوه من إخضاع حروف الكلمات لمواقع الشكل، فإن الضبط في الحرف المطبعي ما زال يثقل الكلمات من كل جانب ويجعل البصر يزيغ في تصيد ما فوقها وما تحتها من حركات. وذلك إلى جانب أن تصحيح هذا الشكل في تجارب الطبع عسير جد عسير، وأن الخطأ فيه على فرط العناية به كثيراً جد كثير. ولذلك لا ترضى بإجراء الشكل في الكتب إلا بعض المطابع الخاصة. وإنها لتقيم لهذا الإجراء أكبر الوزن، وتحسب له أكبر الحساب، طوعاً لما يتطلّب إدخال هذا الشكل من جهد وعنت في صف الكلام طوراً، وفي تصحيحه طوراً.

فكيف السبيل إلى حل هذه المشكلة؟

لقد تناولها بالبحث كثير من ذوي الرأي، وأعلنوا ما بدا لهم من مقترحات وحلول. وإني لأحسبها ترجع إلى مناح ستة:

أ - المنحى الأول: هو اتخاذ الحروف اللاتينية، وقد آثرت أن أبدأ به تحية لأستاذنا صاحب المعالي (عبد العزيز فهمي باشا) متعه الله بالعافية. فقد نادى بهذا الحل في بيان لا أعده إلا وثيقة تاريخية من أنفس وثائقنا التي تعالج مشكلاتنا الثقافية. وقد تكفل معاليه، فيما أفاض فيه من بيان، بتجلية ما يرد على هذا الحل من مختلف الاعتراضات، وعقب عليها ما شاء أن يعقب بالرد والتفنيد، فلم يدع في هذا المنحى زيادة لمستزيد. ومجمل ما رأى معاليه أنه لجأ إلى المناداة باتخاذ الحروف اللاتينية بعد أن بحث عن طريقة لتيسير الكتابة العربية مع استبقاء حروفها الحالية، فلم يظفر بها، بل لقد تخيل أنه لن يظفر بتحقيق هذه الأمنية المحببة لنفسه ولأنفس أهله وأهل العربية. ولذلك لم يجد بداً من اختيار هذه الحروف اللاتينية التي شاعت في أكثر لغات العالم. فهي وسيلة تقريب بين الأمم، وهي مع ذلك قد مورست في الطباعة، واكتسبت مرانة في الاستخدام، وأثبتت قدرتها ويسرها في ضبط كتابة اللغات الأجنبية. وقد اتخذها معاليه أساساً لطريقته، ولكنه أدخل عليها من ضروب التعديل ما يناسب ضبط الكلام العربي على أدق وجه، بحيث تجعل كل حرف في الكلمة يدل بذاته على صورته الصوتية دلالة صادقة لا لبس فيها ولا انبهام.

ب - والمنحى الثاني هو اختراع حروف جديدة تحل محل حروفنا العربية، ذات علامات للضبط ملائمة لها. وقد تكاثر الواردون على هذا المنحى من الحلول، وتراحبت مراميه للفنانين يبتكرون ما يوحي إليهم التصور والتفكير، ويقربون أو يبعدون عن صور الحروف العربية القائمة. وربما كان في ألوان هذه الحروف المخترعة ما يتوافر له الجمال والاختصار، والسهولة واليسر وسائر المزايا التي لا تتوافر للحروف العربية أو اللاتينية جميعاً. فما على المخترعين من سبيل، وإن المجال أمامهم لطليق، يتيح لهم حرية الإنشاء، ولا يقيم حيالهم عقبة مما هو قائم عتيد. ولكن الأخذ بحروف مخترعة لا عهد بها لأحد، أمر يتطلب من رحابة الصدر، وشجاعة النفس، ومن الاستعداد لقبول الجديد الغريب أكثر مما يتطلب الأخذ بطريقة الحروف اللاتينية. لأن التبني للحروف المخترعة التي لم تثبت لها كفاية، ولم تعرف لها مرانة، أشق كلفة من اقتباس حروف متعارفة، ثبتت كفايتها في الأداء، وكفلت مرانتها في العمل.

ج - وثالث المناحي الإبقاء على الحروف العربية القائمة، مع اختراع علامات للضبط يلاحظ في اختراعها أن تكون ميسورة على المطابع، واضحة للقارئ، فتلحق هذه العلامات بتلك الحروف.

ولا ريب أن حروفنا العربية إذا لحقت بها تلك العلامات أفقدتها صورتها المألوفة، وأفاضت عليها مسحة من التنكير والغموض.

فهذا المنحى يلتقي هو والمنحى الأول والثاني معاً في ضرورة الاتفاق بادئ بدء على أن تنزل عن رحوفنا العربية فيما ألفنا من صورها، وما عرفنا من علامات ضبطها.

د - وأما المنحى الرابع فهو الإبقاء على الحروف العربية وعلامات ضبطها، على أن تصب علامة الضبط مع الحرف في بنية واحدة، حتى لا تحيد عنه، ولا تفلت منه. فتبدو الحروف المطبعية معها ضبطها متصلاً بها، ليس بينهما من تفاوت.

وهذا المنحى تقوم في وجهه عقبتان، كلتاهما كأداء، أولاهما فنية، والأخرى اقتصادية. فإن صندوق الحروف العربية في أوضاعها القائمة كثير الصور، يعيا به الصفافون، إذ يبلغ أكثر من ثلاثمائة عين. ولو أضيف إلى الصندوق صور جديدة من الحروف عليها علامات الضبط على اختلافها، لازداد جهد القائمين بصف الكلمات أضعافاً مضاعفة، ولاستنفد من أوقاتهم بضعة أمثال ما يستنفدون الآن. فهذا المنحى مدعاة لكثرة التكاليف مضيعة للوقت، مجلبة للعنت. ولذلك لا يقبل تنفيذه الطابعون، ولا يرضى به الناشرون. ولا سيما في عصر طابعه السرعة والتيسير، طابعه اكتساب الزمن، واقتصاد الجهد، والتهوين من النفقات.

هـ - وثمة منحى خامس، وهو وضع علامات الضبط بجانب الحروف، منفصلة عنها، كالشأن في الحروف اللاتينية، لا كما توضع العلامات الآن فوق الحروف أو تحتها.

وهذا الحل يقتضي أن تتغير أوضاع الكتابة العربية في تركيب الكلمات، لكي يكون بعد كل حرف منفسح تحل به علامة الضبط، وأن يفصل بين حروف الكلمات بهذه العلامات. وإذن تبدو صور الكلمات فيها تنكير، وفيها نبو عن المألوف. يضاف إلى ذلك تفويت مزية الاقتصاد في حجم الكلمة، فإن الفصل بين حروفها بعلامات ضبطها يضاعف حجمها.

ووخاتمة المناحي الستة هو الاقتصار على الحروف المنفصلة تسهيلاً لوضع علامات الضبط عليها، وتخفيفاً على صندوق الحروف في المطبعة العربية.

وفي هذا المنحى مغامز من جهات مختلفة. فهو أولاً: يزيد في الحيز المقسوم للكلمات، وهذا تفويت لمزية الاقتصاد، وثانياً: لا يحمي من خفاء الكلمة أول وهلة لافتراق حروفها، وثالثاً: يقتضي يقظة ورعاية للفصل بين كل كلمة وكلمة، ولو وقع التهاون في هذا الفصل - وهو واقع لا أمان منه - لاختلطت حروف الكلمات بعضها ببعض، ولتعذر على القارئ أن يميز كل كلمة في جملتها، ويفرق بينها وبين الكلمة التي تتلوها.

البقية في العدد القادم

محمود تيمور