انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 918/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 918/القصص

ملاحظات: حاجتنا من الأرض Много ли человеку земли нужно هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 918 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 5 فبراير 1951



حاجتنا من الأرض

عن ليو تولستوي

للأديب رمزي مزيغيت

زارت بنت المدينة يوماً شقيقها بنت الريف في قريتها الصغيرة، وجلستا إلى الموقد تستدفئان وتتحدثان. . فراحت بنت المدينة وكانت زوجة تاجر غيل تمجد حياة المدينة الزاخرة بالمباهج والزخرف وتتيه على أختها الفقيرة زوجة الفلاح المعدم، وتعرض بحياتها القذرة قفي الريف بين الخنازير والأبقار. وأصغت بنت الريف إلى شقيقتها الحضرية طويلاً ثم قالت قد تكون حياتك يا أختاه أفضل وأنعم من حياتنا نحن الفلاحين، وقد تحصلون في اليوم فوق ما تحتاجون، ولكن لا ننسى المثل القائل (إن الربح والخسارة توأمان)، فكثيراً ما يجد التاجر الغني نفسه بين عشية وضحاها فقيراً يستجدي اللقمة من عابر سبيل. . إن حياتكم أجمل وأرق ولكن حياتنا آمن وأهدأ. . صحيح إننا لا نملك كثيراً من متاع الدنيا إلا أننا نجد والحمد لله ما نقتات به دائماً. . قد يكون عملنا شاقاً مرهقاً إلا أنه شريف مضمون. . . أما أنتم يا أهل المدينة المرفهين فجوكم مليء بالمغريات ولا تأمنون على أزواجكن وزوجاتكم شر الغوايات، كالميسر والخمر والنساء والفاتنات. .

وكان باهوم زوج بنت الريف جالساً في ركن قريب فأعجبه قول زوجته وقال يحدث نفسه. . . حقاً أننا نحن معشر الفلاحين لا نجد لنا متسعاً من الوقت للتفكير في مثل هذه الأمور الفارغة لقد عشت عمري أكد وأكدح، ولولا ضيق رقعة الأرض التي املكها لكنت أسعد مخلوق، وما خشيت حتى الشيطان. .) وكان الشيطان قابعاً وراء الموقد، وسمع كل ما قيل، وسره زهو باهوم بنفسه وتحديه له. . فقرر أن يمنحه ما يطلبه من الأرض ويرى ما يكون. .

كان لباهوم رقعة أرض صغيرة تقع إلى جوار ضيعة كبيرة تمتلكها بارونة عجوز. . وكانت هذه البارونة صارمة قاسية لا ترحم من تعتدي ماشيته على أملاكها. فكرهها أهل القرية ومن جملتهم باهوم، إذ كثيراً ما كانت أبقاره وماشيته تعتدي على أرضها فيضطر إلى دفع غرامة ترهقه وتزيد في سوء حالته المادية. وفي ذات يوم أعلنت البارونة عن رغبتها في بيع أملاكها بأثمان بخسة، فتسارع الناس واشترى كل منهم قدر طاقته وقتر باهوم على نفسه وباع ما لديه متن ماشية واشترى بما تجمع لديه مزرعة صغيرة لم تلبث أن جاءته بمحاصيل وافرة فتحسنت حاله وكثر حساده وصاروا يطلقون ماشيتهم على زرعه. فصار يلجأ إلى العنف والقسوة والمطالبة بالغرامات والالتجاء إلى المحاكم، فأثار عليه نقمة الأهلين وحقدهم وباتوا يكرهونه كرههم القديم للبارونة العجوز. وانتشرت يوماً إشاعة بأن كثيرا من أهل القرية أخذوا يرتحلون إلى بلد آخر. ولكن باهوم قرر بعد إعمال الفكر أن يبقى مكانه إذ وجد في ذلك فرصة لزيادة ما يمتلكه من الأرض. ولكن في ذات يوم طرق باب باهوم فلاح عابر وطلب قضاء الليلة في بيته. فرحب به باهوم وقدم إليه العشاء، ثم جلسا يتسامران ويتحدثان. قال الفلاح لباهوم - إني عائد من البلاد الواقعة وراء نهر الفولجا، وهي بلاد واسعة قليلة السكان وقد أخذ الناس يرحلون إليها لاستيطانها، إذ تؤجر الأرض هناك لمن يشاء بأثمان بخسة جداً، والتربة فوق ذلك خصبة تدر على أصحابها محاصيل وافرة. وخفق قلب باهوم لهذا الخبر وراح يحدث نفسه قائلاً - لماذا يتحتم علي البقاء هنا في هذا البلد المزدحم. . . سأبيع كل ما أملك وأرتحل إلى تلك البلاد وأستأجر بالنقود أرضاً واسعة وأبدأ الحياة من جديد. . . وأخذ باهوم يستفسر من الغريب عن هذه البلاد، وفي اليوم التالي سافر إليها ليتفقد أحوالها، فلما تأكد له صدق قول الغريب عاد إلى قريته وباع كل ما يملك وارتحل مع عائلته إلى مقره الجديد. . . وقضى هناك ثلاث سنوات يستأجر الأرض ويستثمرها حتى أصبح من الأغنياء. . . فبدأ يسأم التبعية لمالك أرضه وهفت نفسه إلى امتلاك أرض خاصة. . وفي ذات يوم هبط على باهوم غريب يطلب غذاء لحصانه، وجلس الرجلان يتحدثان. وقال الغريب - إني عائد من بلاد الباشكير حيث اشتريت 13 ألف فدان بثمن زهيد جداً. إن الأرض هناك لا قيمة لها ويكفيك أن تقدم الهدايا لرؤساء البلد وأن تشرب الفودكا مع من يشربون فيعطونك الأرض التي تشاء. . . واستفسر باهوم عن الطريق إلى هذه البلاد العجيبة. . . وفي الصباح اشترى بعض الهدايا وودع بنيه وزوجته واستصحب خادمه إلى بلاد الباشكير بجد ونشاط. وبعد سبعة أيام بلغ الأرض الموعودة واتصل بالزعماء ووزع عليهم الهدايا ثم عرض حاجته. . . وسأل عن الثمن. . . فقال له الرئيس - إن أسعارنا محدودة - ألف روبل في اليوم. . . ولم يفهم باهوم قول الرئيس فسأله - وأي مقياس هذا الذي تبيعون به الأرض؟ فأجاب الرئيس - نحن نبيع الأرض باليوم - أي أننا نعطيك ما تستطيع أن تدور حوله في اليوم مقابل ألف روبل. . . ولكن هناك شرط واحد وهو أنك تسير مع طلوع الشمس حول الأرض التي تختار على أن تعود إلى المكان الذي بدأت منه مع غروب الشمس. فإذا غربت الشمس قبل أن تعود ضاع مالك ولم تحصل على الأرض. . . وقبل باهوم هذا الشرط فرحاً واتفقوا على أن يبدأ المسير في صبيحة اليوم التالي فهو لا يريد أن يضيع عليه الوقت. وأوى باهوم إلى فراشه وهو يصور لنفسه أنه سيستطيع أن يدور حول قطعة كبيرة فيصبح من الأغنياء وكبار المالكين. ثم راح يرسم الخطط للمستقبل الحبيب - فتارة يزرع هنا وطوراً أرشده إلى أرض الباشكير. ولما دقق النظر فيه وجد أنه انقلب من يحصد هناك، وتارة أخرى يشتري الماشية ويستثمر صوفها ولبنها. . . وقضى ليلته على هذا الحال مسهداً أرقاً ولم تغمض له جفن إلا قبيل الفجر بقليل. . . وعندئذ تراأى له في منامه زعيم القرية واقفاً خارج خيمته يقهقه ويضحك ملء شدقيه. . . فقام إليه ليسأله عن سبب ضحكه فإذا به يتبين فيه ذلك الفلاح الذي جديد إلى الفلاح الأول الذي قدم من بلاد ما وراء الفولجا وحملق باهوم في الرجل وهو لا يصدق عينيه فإذا بالفلاح ينقلب إلى شيطان رجيم له قرون وحوافر ويرقد أمامه رجل حافي القدمين لا يرتدي سوى قميص وسروال، وليس فيه حس أو حركة. فلما تأمل الرجل الميت جيداً تبين أنه هو نفسه، فهب من نومه فزعاً مذعوراً، فرأى أن الفجر قد انفلق. . . ونسى حلمه المزعج ونادى خادمه وخرج إلى القوم يستحثهم للخروج إلى السهول. وسار القوم حتى وصلوا إلى قمة تل مرتفع وهناك خلع الزعيم قبعته ووضعها على الأرض وقال لباهوم - من هنا تبدأ المسير. وهاهي الأرض الشاسعة أمامك لا يحدها حد فاختر ما يحلو لك وعد إلينا عند الغروب. . . فتهلل وجه باهوم بشراً وسروراً ووضع النقود في القلنسوة، ثم خلع معطفه وشمر عن ساقيه وتزود بقليل من الطعام والماء وحمل على كتفه فأساً، ووقف ينتظر شروق الشمس وهو يتأمل الأرض المنبسطة أمامه وقد أخذته الحيرة في أي إتجاه يسير. وبعد تردد قليل اختار جهة الشرق، وما أن أطلت الشمس برأسها من وراء الأفق حتى انطلق في اتجاهها بسرعة معتدلة. ولما قطع مسافة ميل أو أكثر حفر في الأرض حفرة وملأها عشباً. ثم أخذت خطاه تتسع كلما ارتفعت الشمس في قبة السماء. واشتد القيظ فخلع مئزره ونظر إلى الشمس فرأى أن النهار ما زال في أوله فأنطلق إلى الأمام لا يحيد يمنة ولا يسرة وهو يردد في نفسه: - كلما أمعنت في السير زاد نصيبي من الأرض. . . ونظر باهوم بعد فترة خلفه فرأى القوم صغاراً كالنمل فقدر أنه قد آن له أن ينحرف عن خط سيره. وكان العطش قد أخذ منه فشرب قليلاً وتابع سيره حتى أحس بالتعب والجوع فنظر إلى الشمس فرأى أن النهار قد انتصف، فجلس قليلاً وأكل. ثم مضى في طريقه الدائري مسافة أخرى طويلة، وكان على وشك الانحراف إلى اليسار مرة أخرى عندما شاهد بقعة أرض كثيرة الخصب فلم يشأ أن يخسرها فدار حولها وحفر عند طرفها حفرة لتدخل في حوزته. . . ثم نظر إلى الشمس فرآها تجري إلى المغيب. . . فكبح جماح طمعه وأدار وجهه إلى ناحية الربوة وسار في اتجاهها مكملاً دورته. ولكن التعب كان قد نال منه وشق عليه المسير. . . كان يتوق إلى قليل من الراحة ولكنه لم يجرؤ على الجلوس فراح يجر رجليه جراً وهو يحدث نفسه - لقد أوغلت في السير حتى بعدت الشقة. . . يا ليتني لم أطمع بالكثير واكتفيت باليسير. . . فها هي الشمس على وشك المغيب. . . فما العمل الآن ومازال أمامي شوط بعيد. . . وهالته الحقيقة وخشي أن يفقد النقود والأرض معاً فجمع قواه وطفق يجري والعرق يتصبب منه الدم يسيل من قدميه. فخلع حذاءه وملابسه قطعة قطعة ولم يترك سوى قطعة تستر عورته. واقتربت الشمس من خط الأفق وتحطمت نفس باهوم حسرة وندماً وتأكدت له خسارته. . . فراح يعدو من جديد وقد تقطعت أنفاسه وتداركت دقات قلبه حتى خشي أن يموت قبل أن يصل إلى الربوة. إلا أن فكرة الموت لم تقعده عن السير فواصل الزحف حتى ترامت إلى أذنيه أصوات القوم ونداءاتهم يستحثونه على الجد فجمع قواه وتابع سيره. وكانت الشمس قد لمست خط الأفق، وكان هو قد قارب هدفه. . . هاهو يرى القوم يلوحون له بأيديهم؛ بل وهاهي قبعة الرئيس التي وضع فيها نقوده، وإلى جانبها يجلس الرئيس ممسكاً جنبيه من فرط الضحك. وفجأة تذكر باهوم حلم الليلة السابقة ولكنه قال - لقد أصبحت أملك رقعة كبيرة من الأرض، فهل يمد الله في أجلي لأتمتع بثمرة تعبي. .؟ وتطلع إلى الشمس فرآها تختفي وراء الأفق. . . فقال. . . آه لقد ضاع أملي ولن يقدر لي الوصول إلى القبعة. . . واستجمع بقية قواه وتابع سيره. . . إن القوم سيسخرون منه ولا شك إذا هو توقف عند هذا الحد. . . ووصل الربوة ولكن عندما غابت الشمس عن ناظريه بالمرة. فصرخ صرخة يأس وكاد يسقط. . . ولكنه سمع القوم يستحثونه من جديد. . . فقدر أنهم ما زالوا يرون الشمس من موقفهم المرتفع. . . فعاوده الأمل وأخذ نفساً عميقاً واندفع يصعد الربوة حتى وصل إلى القبعة. . . فرأى الرئيس جالساً إلى جانبها وهو يكاد ينفجر من كثرة الضحك. وعاودت باهوم ذكر الحلم مرة ثانية وأدرك معناه فصرخ وتهاوى على الأرض باسطاً يده نحو القبعة. وصاح الرئيس - ياله من رجل شجاع قدير. لقد أصبح يملك الآن أرضاً جد واسعة وتقدم الخادم من سيده يريد رفعه ولكنه رأى الدم ينبثق من فمه وقد فارقته الروح. وتناول الخادم المعول وحفر حفرة على طول سيده وواراه فيها فكان كل ما احتاجه من الأرض لا يزيد على ستة أقدام.

رمزي مزيغيت