مجلة الرسالة/العدد 910/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 910/رسالة الفن
مسرحية (ابن جلا)
تأليف الأستاذ محمود تيمور بك
إخراج الأستاذ زكي طليمات
تمثيل فرقة المسرح المصري الحديث على مسرح دار الأوبرا
الملكية
للأستاذ أنور فتح الله
بدأت فرقة المسرح الحديث حياتها في منتصف هذا الشهر. وكانت بالأمس أمنية في نفس الأستاذ زكي طليمات، ظل يجاهد ويكافح حتى أخرجها إلى عالم الوجود، لتجمع شمل خريجي المعهد العالي لفن التمثيل، ولتكون ميداناً يعملون فيه على النهوض بالمسرح المصري.
ونحن إذ نرحب بهذه الفرقة الغنية بالمواهب الشابة، والقلوب الفتية، والثقافة الفنية، لا يسعنا إلا أن نرجو لها التوفيق في أداء رسالتها، ونتمنى أن يكون مولدها بدء نهضة جديدة في المسرح المصري.
وقد افتتحت الفرقة موسمها التمثيلي بمسرحية (ابن جلا) للأستاذ محمود تيمور بك.
وقد اتخذ المؤلف حياة الحجاج بن يوسف الثقفي موضوعاً لمسرحيته. واختار الفترة من سنة 32 هجرية إلى سنة 95 هجرية ليصور منها حياة الحجاج من بدء ظهوره في تاريخ الدولة الأموية إلى يوم وفاته. فصوره في الحادية والثلاثين من عمره وقد تولى أمر عسكر عبد الملك بن مروان بالشام ثم صوره قائداً للجيش الذي فتح مكة وانتزعها من عبد الله بن الزبير ثم والياً على المدينة ثم والياً على العراق، إلى أن يصوره وهو على فراش الموت.
وقبل أن نعرض المسرحية، أو نتعرض لها، نرى لزاماً علينا أن نحدد الفرق بين التاريخ والمسرحية التاريخية.
فالتاريخ يسجل حقائق حدثت في الماضي، ولم تعد تمتد إلى الحاضر لتؤثر فيه. أم المسرحية فماض مستمر في الحاضر؛ ومادة التاريخ وثائق ومحفوظات، وقيمته إخبارية بحتة. . والمسرحية على العكس من ذلك، فهي لون من ألوان الأدب الحي لقدرته المستمرة على الإثارة الفكرية والعاطفية. فالمسرحية التاريخية إذن تصور الواقع التاريخي تصويراً يعيد خلقه على نحو حي، وترتب هذا الواقع التاريخي في صورة فنية تثير المشاهد، وتولد الأثر الذي يهدف إليه المؤلف. فالمقياس إذن، هو مدى قدرة المؤلف على بعث الحياة في الواقع التاريخي، ومقدار توفيقه في التأثير على المشاهد. ولتحديد ذلك نستعرض المسرحية.
. . . في سنة 72 هجرية نرى الحجاج وقد أصبح قائداً في جيش أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وقد ظهرت في حياته امرأة هي (الأهوازية). .
وبعد ذلك بعام يصبح الحجاج قائداً لجيش الخليفة بالقرب من مكة، ونرى ابن حكيم وابنته عفراء يدخلان عليه، ويستنجزانه وعده للعفراء بالزواج، فيردهما خائبين. وعندما تراهما الأهوازية، وتسأله عن الفتاة فيجيبها بأنها رفيقة صباه، وأنه سيتزوجها، فتغار، وتثور غاضبة مهددة، فيصرفها في لين. . ويعود أحد الرسل فيخبره بأن ابن الزبير قد أبى الاستسلام، فيأمر بضرب الكعبة بالمنجنيقات. ويعين الحجاج والياً على المدينة ويطلب من عبد الله بن جعفر أن يزوجه ابنته أم كلثوم، فيأبى لأنه هاشمي، وتقتحم الأهوازية عليهما القاعة، فينصرف عبد الله، وتتوسل إليه الأهوازية أن يعرض عن هذا الزواج لأنها تحبه، فيصر على عزمه، وتعميها الغيرة، ويثيرها الغضب فتهدده بالكيد له.
. . . ويصبح الحجاج والياً على العراق. . ونراه في قصره بالكوفة يسأل عن أنباء الأهوازية بعد أن هربت. . وإذا بسهم يصيبه في كتفه، وتقبض الشرطة على الضارب فإذا به الأهوازية!. . وقد أرادت أن تقتله لتنساه. وتطلب منه أن يقتلها ليخلصها من العذاب الذي تقاسيه، فيقترب منها، مبدياً إعجابه بفتنتها، وجسدها الرائع، وتكاد شفتاهما تتلامس، لكنه يقذف بها بغتة مصرحاً بأن الحب لا يقع منه ببال. . . ثم يخبرها بأنه سيخطب هند بنت أسماء. . وتنتهز الأهوازية فرصة غفلته عنها، فتلقي بنفسها في النهر، فيصيح الحجاج بالجند ليدركوها، ويأتوه بها حية أو ميتة. . . وتستعين الأهوازية بشبيب على الحجاج، وتعده بأن تكون له، إذا مكنها من الحجاج الذي أذلها. . ويعلن شبيب أنه سيفاجئ الكوفة الليلة، ليظفر بالحجاج. . . وفي نفس الليلة، نرى الحجاج في قصره وقد حاصره جند شبيب، وأرسل له رسولاً يفاوضه،. . ويدخل الرسول وإذا به الأهوازية أيضاً! ويقبل عليها الحجاج معاتبا. . . لائما. . . يصرح لها بالحب وكان بالأمس يرفض حبها، ويذل قلبها، ولكن الأهوازية تطلب منه أن يسلم نفسه فيركع عند قدميه في تذلل قائلا (رحماك (يا أهوازية رحماك) فتقول له دعني دعني لا تخدعني) وتصر على أن يسلم نفسه، فيأبى، فتنصرف. وتمر برهة وتدوي الأبواق. . وينظر الحجاج من الشرفة فيرى الجند يجلون عن القصر، فيقول مهتاجاً (يا لقلب المرأة! لقد خدعتها فخدعت هي صاحبها) ثم يأمر الجند بأن يرموا ظهر الأهوازية بالنبال. . فيقول له عنبسة (أتضرب ظهر من عملت على إنجائك أيها الأمير؟) فيأمر الحجاج جنده بأن يسددوا الضرب.
. . . وفي سنة 90 هجرية. . . ترى الحجاج في مقر ولايته بمدينة واسط. . . وقد أضناه المرض. . . نرى الأهوازية وقد عادت إليه، وأصبحت سيدة قصره. . . وتشتد العلة بالحجاج. . . ويأتيه كاتبه يزيد فيخبره بأن سعيد بن جبير ينتظر الإذن في الدخول ليحاسب في أمر خروجه مع ابن الأشعث. . فيأذن له في الدخول. . .
. . . ويأتي سعيد بن جبير وهو مقيد بالأغلال. . . ويدور الصراع بينهما. . . وينتهي بأن يأمر الحجاج بقتل سعيد. . . وعندما يقتل، يضطرب الحجاج، ويجزع، وتحتبس أنفاسه. . . ثم يهدأ قليلاً. . . ويأتيه رسول قتيبة بحفنة من تراب الصين. . . فيأمر أن تزف البشرى إلى أمير المؤمنين. . ويلفظ نفسه الأخير. هذه هي المسرحية. . . وقد التزم المؤلف جانب التاريخ في تصوير حياة الحجاج السياسية. . . وبما كتبه المترجمون في تصوير حياته الخاصة وعاداته وميوله وطباعه. . وأخبار غزواته. . وآرائه في الحكم والسياسة. . .
وأراد المؤلف أن يبعث الحياة في هذه الصورة التاريخية، وذلك بتصوير الجانب العاطفي في حياة الحجاج. . فخلق من مخيلته شخصية الأهوازية وتجعلها تحتك بالحجاج في مواقف عدة، وطول بذلك أن يقيم الصراع بينهما وينفذ من هذه الزاوية الإنسانية إلى قلب المشاهد ليؤثر فيه. فهل وفق المؤلف في فرضه؟ ذلك ما سنحاول أن نبينه بمناقشتنا للجانب العاطفي الذي صوره المؤلف في مسرحيته.
وأول ما نأخذه على المؤلف هو اعتماده على الممثلة في تصوير المرأة في حياة الحجاج، وكان من الخير له أن يستند في تصويره على امرأة حقيقية لها مع الحجاج قصة عاطفية فيجسم هذه القصة، ويكملها من مخيلته ليصل إلى غرضه، وبهذا تبدو الصورة للمشاهد قريبة من الحقيقة، فيستجيب لها. أما أن يعتمد على صورة خيالية لا تمت للواقع التاريخي بأية صلة، فهذا من شأنه أن يشعر المشاهد بغرابة الصورة، وينفره منها.
ومن حيث الصراع العاطفي، وهو الأساس الأول في التأثير على المشاهد في مثل هذه المسرحية التاريخية. نرى أن المؤلف لم يحتفظ بالتوازن بين قوة الحجاج وقوة الأهوازية، ليقيم بينهما صراعاً عاطفيا متكافئ القوى فالأهوازية لم تستطع النفاذ إلى قلب الحجاج في أي موقف من المواقف. بل كان موقفها سلبياً في كل موقف التحمت به. فهي تغار وتثور وتهدد عندما ترى عفراء، وتعلم أنه سيتزوجها، فيصرفها الحجاج بكلمة. . وعندما تعلم برغبته في الزواج من أم كلثوم تفر منه، وعندما تعلم بعزمه على الزواج من هند بنت أسماء تلقي بنفسها في النهر. . . وعندما يحاصره شبيب، يوهمها بأنه يحبها، فتفك الحصار عنه. . وعندما يفك الحصار، يأمر جنده بضربها بالسهام. ومع كل هذا تعود إليه وبهذا انتفى الغرض الأول من خلق هذه الشخصية وهو إقامة الصراع بينها وبين الحجاج.
وعلى الرغم من كثرة المشاهد العاطفية بين الحجاج والأهوازية لم يستطع المؤلف أن يعطينا أية فكرة عن حياة الحجاج العاطفية. فقد صوره معجباً بها، عطوفاً عليها، وهو مع هذا منصرف عنها يرغب في الزواج من عفراء، ثم من أم كلثوم وهند بنت أسماء ليحقق أغراضه السياسية.
وعندما فرت منه جعل يبحث عنها، وعندما حاولت قتله أبرزه متساهلا معها، ثم جعله يقترب منها مظهراً افتتانه بها ثم راح يقذفها على الأرض معلناً أن الحب لم يقع منه ببال، وعندما ألقت بنفسها في النهر راح يصرخ في الجند أن يأتوه بها حية أو ميتة، وعندما أقنعت شبيباً بفك الحصار عنه، أمر الجند بضربها بالسهام. ومن هذا يبدو جليا أن المؤلف كان يبتعد في كل خطوة يخطوها عن الغرض الذي خلق من أجله شخصية الأهوازية، وأنه كان يفسر الغموض بالألغاز.
ولقد كانت المشاهد العاطفية بين الحجاج والأهوازية مكررة ومتشابهة تمام الشبه. فموقف الأهوازية من الحجاج عندما سمعت أنه سيتزوج من عفراء، هو نفس موقفها منه فيما يختص بأم كلثوم، وكذلك فيما يختص بهند. في تثور ثم تهدد، ثم تعود لتقف نفس الموقف، وكذلك موقف الحجاج منها فهو كل مرة متساهل متسامح، وعندما تحاول أن تلين قلبه، يقترب منها ثم يبتعد نافراً، ثم يعلن أنه سيتزوج من غيرها.
هذا، وفي كل مرة تظهر فيها الأهوازية لتلتحم بالحجاج، أو تختفي فراراً منه، كان يصاحب ظهورها أو اختفاءها مفاجأة مفتعلة، بعيدة عن المنطق والعقل. فقد ظهرت في حياته فجأة، مدعية أن روح بن زنباع خمش وجهها لتنقذه من غضب الخليفة، وهذه ولا شك طريقة صبيانية لا يقبلها عقل أو منطق. وقد أمرها الحجاج بالذهاب إلى مكة، فعادت إليه متخفية في صحبة عبد الله بن منصور في اللحظة التي كان يخطب فيها أم كلثوم لتفسد عليه خطته. ثم فرت منه لتعود إليه فجأة متخفية في ثياب فتى أعرابي لتقتله. ثم تلقي بنفسها في النهر لتعود متخفية في ثياب رسول من رسل شبيب لتفاوضه في تسليم نفسه، وبعد أن يأمر الجند بضربها بالسياط نراها وقد عادت إليه راضية قريرة. . . وبهذا الافتعال والتلفيق بدت هذه الشخصية في صورة خرافية بعيدة عن الطبيعة والصدق.
ومن هذا يتضح أن الجانب العاطفي الذي صوره المؤلف من مخيلته، بعيد كل البعد عن الحياة، ولا تأثير له على المشاهد وبهذا فقدت المسرحية القدرة على بعث الحياة، والإثارة، ولم يبق فيها سوى الجانب التاريخي.
ولقد أساءت شخصية الأهوازية إلى الصورة التاريخية للحجاج، وتعارضت مع أبرز صفاته، وهي القسوة الصرامة، فالحجاج الذي لا يتسامح أبداً، كان متسامحاً معها، يعفو عنها وقد حاولت قتله، بل إنه ليستخدم أساليب الخداع عندما حاول استمالة قلبها في مشهد الحصار، وقد أظهر المؤلف الحجاج في موقف يتنافى مع الشهامة العربية عندما أمر الجند بضرب الأهوازية بالسياط بعد أن أنقذته من حصار شبيب.
والخط الذي سار عليه المؤلف في تتبع الحجاج في فترات حياته المختلفة، هو نفس الخط الذي سار عليه المؤرخ والمترجم، ولانعدام الصراع بدت المسرحية من حيث الموضوع، وكأنها عرض تمثيلي لحياة الحجاج. ولتقيد المؤلف بحرفية التاريخ، وبطلان تأثير الجانب العاطفي الذي تخيله، انقطعت صلة المسرحية بالحاضر وأصبحت قيمتها إخبارية بحتة.
هذا، وعلى الرغم من ولع المؤلف بالتاريخ وتقيده به، فقد فاته أن يستغل امرأة قوية لها قصة مشهورة في حياة الحجاج، وكان يبنه وبينها صراع عنيف، لو جسمه المؤلف وسلط عليه أضواءه، وركز فيه موضوع مسرحيته، لنفذ إلى قلب الحجاج. . . تلك المرأة هي هند بنت أسماء التي تزوجها قسراً، فذهبت إلى الخليفة تشكو إليه أمرها، فأجبر الحجاج على تطليقها، وأمره أن يقودها إليه وهو يمسك جملها، ليتزوجها فلما كانت في بعض الطريق، ألقت بدينار، وقالت للحجاج (قد سقط مني درهم فأتني به) فبحث فوجد ديناراً فقال (بل هو دينار) فقالت (الحمد لله الذي أبدلنا الدينار بالدرهم) وهي أيضاً التي قالت فيه:
وما هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهراً فلله درها ... وإن ولدت بغلا فجاء به البغل
فلو استبدل المؤلف الأهوازية بهند، وكمل الحقيقة بالخيال لأقام صراعاً عاطفياً قوياً يرتكز على أساس من الواقع.
وإذا نظرنا إلى بناء المسرحية. . وجدناها لا تقتصر على حادث مسرحي واحد يرتكز فيه موضوعها، بل هي تتضمن أحداثاً مختلفة تصور حياة الحجاج السياسية الحربية والاجتماعية والعاطفية كقصته مع روح بن زنباع، ورميه الكعبة بالمنجنيقات وقصته مع عفراء، وعبد الله بن جعفر، وحربه مع شبيب، ومحاصرة قصره، وقصة مرضه وحادث الأعرابي، وقتل سعيد بن جبير، ثم وفاته. فكل هذه الأحداث قد أخلت بوحدة الحادث المسرحي، فقضت على التركيز، وكانت سبباً في تشتيت انتباه المشاهد. ولانعدام الرابطة بين هذه الأحداث، ولدورانها حول شخصية الحجاج فقد طغى على المسرحية جانب العرض. وليس لهذه المسرحية عقدة، ولا يعرف لها بداية ولا نهاية، فكل منفصل عن الآخر، ومن السهل أن نبدأ المسرحية من أي منظر فيها وننهيها بأي منظر يتلوه، ولو حذفنا أي منظر لما أحسسنا بنقص فيها.
ولانعدام التعارض بين الشخصيات الرئيسية، وبعد المؤلف عن الصدق في تصوير الطباع والميول البشرية، انعدم الصراع المسرحي الذي يثير المشاهد ويحرك قلبه، وأصبح من المتعذر جذب انتباهه إلى خط سير الأحداث، وإثارة غريزة حب الاستطلاع في نفسه، ليتطلع إلى الأحداث اللاحقة.
ولعدم ربط المؤلف بين الماضي التاريخي والحاضر الواقعي، وذلك بأن تكون المشكلة التاريخية شبيهة بمشاكل الحاضر الذي نعيش فيه، انقطعت صلة المشاهد بها، وبعدت عن مشاكل الحياة، وهي من أهم ضرورات المسرح.
ولقد كان الحوار مثقلاً بالعبارات الطويلة، والأوصاف والأخبار المملة، وبهذا انعدم التركيز في الحوار، وفقد الشحنة العاطفية التي تثير عقل المشاهد وقلبه.
قام بالإخراج الأستاذ زكي طليمات وسار فيه على المذهب الإيجابي الذي يرمز للكل بالجزء، فيجسم جزءاً من المنظر، ويكمله بالأستار. وبهذا استطاع أن يلاحق مناظر المسرحية الثمانية. وكان موفقاً في خلق جو المسرحية، ففي المناظر الخارجية صور الصحراء بخيامها؛ وسفح الجبل، والسماء الصافية، فبدت وكأنها لوحات رسمتها يد فنان. وفي المناظر الداخلية، أبرز قصر الولاية بالمدينة، وبالكوفة وواسط، في جو من الفخامة والترف متدرجاً في ذلك مع حياة الحجاج في تطورها.
وكانت الإضاءة ترمز للجو النفسي العام في الموقف المسرحي، وتضفي على المناظر هالة من السحر.
وكان المخرج ممتازاً في تحريكه للمجتمعات فلم نشعر بتكتلها أو جودها، واستطاع أن يطابق بين الإيقاع الحركي والإيقاع النفسي، فالمجموعات في حالة الحرب سريعة الحركة، وعند حصار القصر بطيئة لتصور جو الحزن واليأس الذي يثيره الموقف المسرحي.
وليس من شك في أن أثر المخرج كان بارزاً وراء كل ممثل، وكل حركة أو إشارة، فبدأ الجميع في وحدة فنية تتعاون على بعث الحياة على خشبة المسرح.
وقام الأستاذ زكي طليمات بدور الحجاج. وهذا الدور يمثل الحجاج شاباً صارماً طوحاً وينتهي بتصويره شيخاً قد أضناه المرض وخمدت في نفسه جذوة الطغيان والشر وبدأت عوامل الخير تصارع عوامل الشر نفسه، فأصبح مترددا بينها. وتمثيل مثل هذه الشخصية يحتاج إلى طاقة انفعالية قوية ليتسنى لممثلها أن يفصح عن باطن الحجاج الذي أضرمته غريزة المقاتلة، وأشعلته نزعة القسوة والظلم وقدرة الممثل على الانفعال في مثل هذا الدور ترجع إلى السن والتكوين العضوي وقد بذل الأستاذ زكي مجهوداً كبيراً ليعوض الفارق بينه وبين طبيعة الدور الذي يمثله معتمداً في ذلك على الحركة والصوت والانفعال بالقدر الذي يسمح به تكوينه وسنه. فأدى به ذلك إلى المد في العبارة والضغط على آخرها، وغلب على أدائه النغمة الكلاسيكية. وفي المنظرين الأخيرين، عندما التقت طبيعته بطبيعة الدور الذي يمثله، ارتفع إلى القمة في أدائه.
وقام الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني بدور عبد الملك بن مروان، فجسمه في حكمته وحزمه وإنسانيته، وأبرز الخطوط الخفيفة التي تصور معالم شخصية دوره بالصوت المعبر، والانفعال المتزن، والحركة المصورة.
وقام الأستاذ محمد السبع بدور سعيد بن جبير فجسم ثورته على بني أمية بالنار المندلعة في العبارات التي كان ينبذ بها في وجه الحجاج، والنبر الصوتي القوي المشحون بالغضب والإيمان.
وقام الأستاذ أحمد الجزيري بدور أبي بردة، وهو رجل تقي ورع ساذج، فبلور هذه الشخصية بروحه الخفيفة الشفافة، وأثار المرح العميق في القلوب بحركاته الطبيعية، وأدائه الصادق، وأثبت في اللحظات التي ظهر فيها أنه ممثل كوميدي راسخ في فنه.
وقام الأستاذ سعيد أبو بكر بدور الخصي بهروز، فكان موفقاً فيه، وأضحك المشاهد بتصويره الكاريكاتيري لهذه الشخصية.
وقام الأستاذ محمد الطوخي بدور ابن حكيم فصور بصوته القوي الطيع حنان الأب الذي يتعلق بالأمل، ليسعد ابنته.
وقام الأستاذ عدلي كاسب بدور شبيبب فساعده جسمه على الظهور بمظهر القائد الثائر، وساعده أداؤه الجيد على تصوير المحب الوالد.
وقامت بالدور النسائي الأول السيدة نعيمة وصفي، وهو دور الأهوازية. فجسمت غيرة المرأة المتنمرة، وغضبها إذا جرحت في عزتها، وحبها العارم للحجاج، وحقدها عليه لإذلاله قلبها، ثم مثاليتها عندما ارتوى قلبها المحروم. لقد صورت هذه الألوان العاطفية المتباينة، في طبيعة وصدق. وأثبتت أنها ممثلة جديرة بأن تقوم بالأدوار الرئيسية.
وقد برز من طلبة المعهد، سعد قردش، وفوزية مصطفى، فنجح الأول في دور عبد الله بن جعفر، ووفقت الثانية في دور عفراء وامتازت بصوتها المرن الحنون.
. . . وبعد. . . فقد أثبتت فرقة المسرح الحديث وجودها في عالم المسرح. وبلغت ما كان يرجى لها من نجاح بفضل مخرجها إلى الحياة، ومن ورائه أبناؤه الذين كان له الفضل الأول في اكتشاف مواهبهم، وصلتها بالثقافة الفنية.
أنور فتح الله