مجلة الرسالة/العدد 909/مثل الشيخ. . .
مجلة الرسالة/العدد 909/مثل الشيخ. . .
مثل الشيخ كمثل الزرع إذا آتى ثمره ثم هاج واصفر وأوشك أن يكون حطاما؛ لا يهتمبأصوله في الثرى لأنها عجزت عن امتصاص الغذاء فحسبه منها أن تتماسك، وإنما يهتم بسيقانه وأوراقه، يخشى عليها نفحة البرد ولفحة الحر وهبة الريح. وكلما تغير وجه السماء، أو اشتدت سرعة الهواء، ارتاع وانكمش وتوقع النهاية، فإذا صحا الجو وسرى النسيم الفاتر يداعب الأغصان الملد والأوراق الغضة، تبلد من الهمود فلا يحس نشاطاً لدعابة ولا اغتباطاً بمتعة! وهكذا الشيخ! تذوبه السنون وتضوبه العلل فتيبس أسلافه وتجف أعاليه، فيعيش بالاجترار أكثر مما يعيش بالأكل؛ ويتجه إلى الوراء ليتذكر، ولا يتجه إلى الأمام ليأمل؛ ويجل باله لأخبار المرض والموت والدواء، أكثر مما يجعله لأخبار الرياضة والولادة والغذاء. فإذا سمع بمرض صديق سال ما مرضه؟ ومن طبيبه؟ وما أسباب هذا المرض؟ أعنده ارتفاع في الضغط، أم زيادة في السكر، أم تصلب في الشرايين، أم ضعف في القلب، أم اضطراب في الغدد؟ وإذا قرأ في الصحف نعي رجل سال بأي علة مات؟ وكم سنة عاش؟ فإذا كان من طوال العمر سأل بماذا طال عمره؟ أكان يتبع في الطعام نظاماً خاصاً، أم كان يسلك في الحياة خطة معينة؟ وإذا كان من قصاره سأل لماذا قصر عمره؟ هل كان يفرط على نفسه في الأكل أو في الطعام أو في الشراب أو في الدخان؟ أم هل كان يسرف على جسمه في العمل أو في الفكر أو في الهم؟ وإذا وقع على مجلة في الطب أو مقالة في العلاج أو إعلانا عن دواء، تلمس في كل أولئك ما يعيد الصحة أو يؤخر الشيخوخة أو يطيل الأجل. وإذا جلس شيخ إلى شيخ لا يسأل أحدهما الآخر عن شدة الغلاء، ولا عن أزمة الجلاء، ولا عن قضية الجيش؛ إنما يسأله عن مقدار سنه، ونوع أكله، وساعات نومه، وعن الطبيب الذي يعالجه، والدواء الذي يفضله، والنظام الذي يتبعه. وإذا رجا الناس من العلم أن يكشف عن أسرار المادة، ويهيمن على قوى الطبيعة، ليهبط بالفردوس إلى الأرض، ويفيض من السعادة على العالم، رجا الشيخ منه أن يدرس كل مادة، ويخبر كل قوة، ويسبر كل غور، ليستخرج من المنابع الخفية والناجم المجهولة العقار الذي يرجع الشباب، والإكسير الذي يطيل الحياة!
وإذا الشيخ رأى الشباب الريان يمرح في الطريق، والجمال الفتان يخطر في الندى، انصرف ذهنه عن الوسامة والسقامة والفتنة واللذة، إلى العضلات القوية، والحركات العنيفة، والأعصاب المتينة، والشرايين المرنة، والنفوس المفتوحة، فيتحسر على ماض لا يعود، ويتأوه من حاضر لا يبقى!
وإذا الشيخ قال أف فما مل ... حياة وإنما الضعف ملا
آله العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى
أحمد حسن الزيات