انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 906/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 906/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 906
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1950



للأستاذ عباس خضر

قاص يحبس ديوان أخيه:

كتبت في الأسبوع الماضي كلمة عن (ذكرى الزين) أجملت فيها الكلام عن ديوان المرحوم الشاعر الرواية الأستاذ أحمد الزين. وقد فهم القراء مما ذكرته أن هناك شخصا يحتجز هذا الديوان لديه ويأبى أن يدفعه إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر، التي قررت طبعه ونشره.

وقد رأيت أنه لا بد - لحق الأدب ولحق اليتيم الذي تركه الشاعر - أن أذكر الحقائق التي تتعلق بهذا الموضوع والتي تتضمنها القصة العجيبة التالية:

على أثر وفاة الشاعر الفقيد توجه إلى منزله أخوه الشيخ محمد الزين القاضي الشرعي بمحكمة الزقازيق، وهو يعلم أن أخاه الشاعر قد ترك ديوانه المجموع المخطوط وهو يحتوي على شعر نشر وشعر لم ينشر، وتلطف الشيخ محمد مع زوجة أخيه المتوفى، وطلب منها الديوان ليطبعه وينشره، فأسلمته إياه وهي واثقة من حسن نيته. ومرت الأيام ولم يطبع الشيخ الديوان، وكلما سألته عنه زوجة أخيه أجابها بمختلف المعاذير.

وفي خلال ذلك رأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن تعمل شيئا لتخليد ذكرى صديقها أحمد الزين وتقدير جهوده في أعمالها الأدبية، فقررت طبع ديوانه ونشره على أن تتنازل عن حصتها في ثمن ما يباع من الديوان لابنه الصغير. ثم سألت اللجنة عن الديوان لتبدأ في العمل، فعلمت أنه لدى أخيه الشيخ محمد الزين، فكتبت إليه بما قررته وطلبت منه أن يرسل إليها الديوان، فلم تتلق منه أي رد إلى الآن رغم مضي نحو سنتين على هذا الطلب.

وتبينت السيدة مماطلة أخي زوجها وعم ولدها اليتيم، في تسليم الديوان، فلا هو طبعه ولا هو دفعه إلى اللجنة، وفي الوقت الذي تشعر فيه بالحاجة إلى ما يساعد على ضرورات العيش، وترجوا أن تحصل من الديوان على شيء يضاف إلى النزر اليسير الذي تتبلغ أسرة الشاعر الكبير! وهنا موضوع آخر تبعث إثارته الألم والأسى، أرجئ تناوله إلى وقت آخر.

تبينت السيدة ذلك، فها لها الأمر، وأحزنها أن يطوي ديوان زوجها الراحل الذي كان اسمه يملأ الآفاق في عالم الشعر العربي الحديث، فراحت تتوسل إلى الشيخ بأصدقائه، أعياها رجاؤه، دون أن يجدي ذلك شيئا. ولعلك تسألني: ماذا يقول الشيخ وبم يعلل موقفه؟ قال لها مرة: إن الديوان عند رفعة النحاس باشا!! لأن رفعته ينوي عندما يتولى الوزارة (وكان ذلك قبل أن يتولى رفعته الوزارة) أن يسدي إلى ذكرى الفقيد عارفة بطبع ديوانه على نفقة الحكومة. ولما تولى رفعة النحاس باشا الحكم استبشرت السيدة الطيبة القلب. ولكن. . . مر الزمن الطويل ولم يظهر ما يدل على اهتمام الحكومة بالديوان، فعاودت مفاتحة الشيخ في الأمر ليذكر رفعة النحاس باشا بوعده فاضطر إلى أن يقول لها إن الديوان ليس عند النحاس باشا. فبكت ورجت، واستعطفت، وهو ساكن ساكت حتى فرغت، ثم نطق:

- أترين هذا الكرسي وهذه الكنبة وهذا الدولاب؟

- نعم.

- هل أحست بشيء مما قلت. .؟

- لا

- أنا كذلك!!

سبحان خالق الناس وقاسم الحظوظ وجاعل الأخ مختلفا عن أخيه! فقد كان الأستاذ الشاعر أحمد الزين وافر الحظ من دقة الإحساس ورقة المشاعر، بل كان ذلك ثروته التي أودعها شعره، ولعل بعض القراء يعرف أن الشيخ محمد الزين ينظم قصائد ويحاول أن يسير في ركب الشعراء فهل يحس أن شعره خال من الأحاسيس وينبغي أن يستمد من ديوان أخيه ما يسد به نقصه في الشعر؟

وإذا كان الشيخ محمد الزين حسن النية نحو ذلك الديوان، فلماذا لا يوضح ما يريد أن يصنع به لأم اليتيم صاحب الحق الوحيد في ديوان أبيه؟ ولماذا لم يرد على اللجنة ليبين لها وجهة نظره في الموضوع؟

على أنه من حق الرأي العام أيضا أن يقف على نية الشيخ إزاء هذا الديوان، فهو أثر أدبي لشاعر من شعراء العصر، يعد جزءا من أدبنا المعاصر، تجب صيانته من الضياع.

والشيخ محمد الزين قاض شرعي يحكم بين الناس بالعدل أفلا يستنكف فضيلته أن تقاضيه أرملة أخيه أمام المحكمة وخاصة أن هناك شاهدين على أنه أخذ منها الديوان؟ وهل يرضى معالي وزير العدل أن يحكم قاض من قضاة العدل بالحبس على ديوان شاعر يتعلق به حق يتيم؟

وفاة برناردشو:

مات الكاتب العالمي الكبير جورج برناردشو يوم الخميس الماضي (2 نوفمبر سنة 1950) عن 94 عاما، وكان يعيش في منزله الريفي بإحدى القرى الإنجليزية عيشة ظاهرها الهدوء والعزلة، ولكنه كان يحيى بفكره وحسه وخواطره في حياة الناس، متجردا من نوازع المحلية، محلقا فوق العالم كإنسان ممتاز. كان يكتب عن الإنسانية، ويكتب لها، في كل مكان، فشع أدبه للجميع، وترجم إلى جميع اللغات الحية، ومثلت مسرحياته على أهم المسارح في مختلف الأقطار، وقد مثل هو أكبر دور على مشهد من العالم أحمع، وهو دور الكاتب الحر الذي كشف حجب الظلام وسخر من غرور الناس وانتصر للحق. ولم ننس ولا ننسى له - نحن المصريين - موقفه من حادثة دنشواي التي ندد فيها بوحشية الجيش الإنجليزي في مصر، ولا تبصيره إيانا بنيات قومه الإنجليز نحونا ونصحه بعدم الاعتماد على المباحثات السياسية واللجوء إلى الهيئات الدولية في نيل استقلالنا وحريتنا، قائلا بأن السبيل الوحيد إلى ذلك هو أن نستخلص حقوقنا بأيدينا.

وقد كان برناردشو كاتبا ساخرا ولم يسلم الشعب الإنجليزي نفسه من سخريته، وهو شعب ذو تقاليد ومقدسات، ولكن شو لم يعبأ بذلك، لأنه لم يكن إنجليزيا فقط، بل كان فوق ذلك أنسانا. وكان بعيش في الحياة وكأنه فارق الأحياء، يطل عليهم روحا يضحك من أفعالهم ويسخر من أوضاعهم. ولم يزد بموته على أن قطع ضحكه وسخريته عن الأسماع!

ولد برناردشو بمدينة دبلن بايرلندا من أبوين فقيرين، وقد رحل إلى لندن وهو في العشرين من عمره، ولاقى في أول حياته بها متاعب كأديب ناشئ، لا يعبأ به، ولا تجازيه الصحف على ما يكتب فيها إلا بالقليل، ولكنه ظل يكافح حتى وصل إلى القمة، وقد رفض الألقاب، وأبى قبول جائزة نوبل المادية، لأنه لم يعد بحاجة إلى شيء من ذلك. وقد شبه جائزة نوبل التي منحت له بطوق النجاة الذي يلقى إلى من وصل إلى الشاطئ.

مات برناردشو، فكان لموته صدى في أرجاء العالم، واعتبرته كل أمة فقيدها، لما له في حياة العالم كله من آثار خالدة.

تحريف بيت لأبي العلاء:

كتبت السيدة (بنت الشاطئ) في الأهرام يوم الأحد الماضي (29 أكتوبر) مقالا بعنوان (عاشروا العالم أو فارقوا) قارنت فيه بين جمال البقاع في أوربا وبين الإهمال والقذارة في بلادنا. والذي يهمنا من هذا المقال ما ختمته به إذ قالت (ألا رحم الله أبا العلاء، ما أكثر ما نذكر هنا قوله منذ أكثر من ألف عام:

هذي بضاع العلم معروضة ... فعاشروا العالم أو فارقوا

تأملت هذا البيت كما أوردته الكاتبة فلم أجد له معنى. ما هي أو ما هو (بضاع العلم)؟ الذي نعرفه أن بيت أبي العلاء - وهو من اللزوميات - هكذا:

هذي طباع الناس معروفة ... فخالطوا العالم أو فارقوا

هذا هو (نص أبي العلاء) وفيه تظهر المناسبة بين طباع الناس على علاتها وبين مخالطتهم على ما هم عليه أو مفارقتهم. وهذا المعنى العلائي لا ينسجم مع مضمون المقال الذي سبقت الإشارة إليه، فلا بد إذن أن الكاتبة الفاضلة أرادت أن تطوعه بمناسبة ما عرضته، ولكنه بالصورة التي ظهر بها غير مفهوم على أي حال. قلت في نفسي: لابد أنها أرادت أن تجعل البيت هكذا:

هذي بقاع العالم معروضة ... فعاشروا العالم أو فارقوا

أي أن تلك البقاع الأوربية التي زارتها وأعجبت بها هي التي وصفت، وعلينا نحن المصريين - أن نجعل بلادنا مثلها إذا أردنا أن نكون مثل ذلك العالم الراقي، أو. . . لست أدري ماذا نفعل. .

وجاءت المطبعة فجعلت (بقاع) - (بضاع)، وجاء المصحح فوجد البيت مكسورا ولمح موضع الكسر في كلمة (العالم) فجعلها (العلم) ليستقيم الوزن، ولعله رأى خلو العبارة من المعنى ولكنه آثر أن يكون البيت موزونا ولا معنى له على أن يكون كذلك وهو مكسور، وأمر واحد أخف من اجتماع أمرين.

وعلى ذلك ظهر البيت كما ظهر، وإذا لم يكن هذا الافتراض صحيحا فماذا عسى أن يكون؟!

ثم ذكرت يوما حضرت فيه مناقشة رسالة قدمتها الكاتبة الأديبة لنيل درجة الدكتوراه، موضوعها تحقيق نص رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وقد شرحت للجنة الامتحان ما لقيته من عناء في ذلك التحقيق وأكدت محافظتها في النص وتقديسها إياه، وكانت تجيب على بعض الأسئلة بأن (النص هكذا) وقد أفرطت في ذلك حتى خلنا أن (المنهج الجامعي) الذي سارت عليه ليس مغايرا (للفوتوغرافيا) ولم يكن ذلك فقط، بل إنها حملت على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران لأنهم (لم يحافظوا على النص) وشغلت بهذه الحملة نحو سبعين صفحة من الرسالة، مما جعل الدكتور طه حسين بك رئيس اللجنة يصفها بالزهو والغرور.

فما بال الدكتورة قد تخلت عن منهجها في المحافظة على النص إذ نسبت إلى أبي العلاء ما لم يقله! لقد تحدث أبو العلاء عن طباع الناس وخير بين معاشرتهم على علاتهم أو مفارقتهم، والمحقق أنه لم ير بقاع سويسرا حتى يحثنا على التشبيه بأهلها، ولو لم تقل الدكتورة (منذ أكثر من ألف عام) لفرضنا أن ثمة شاعرا آخر معاصرا غير المعري اسمه أبو العلاء. . .

ولو أن أحدا آخر غير الدكتورة فعل ذلك ببيت أبي العلاء، لكان الأمر أهون، لأنها ترى بل تعتز بالمحافظة على (النص) والشأن كما قال أبو العلاء في أول الأبيات التي جاء فيها ذلك البيت:

ما ركب المأمون في فعله ... أقبح مما ركب السارق

فسرقة السارق المعتاد على السرقة أمر عادي، أما المأمون المفروض فيه الأمانة فخيانته لا تغتفر. والدكتورة لما علمناه من حرصها على النص، في مكان (المأمون) فلم يكن يليق بها أن تصنع ببيت أبي العلاء ما صنعت.

عباس خضر