انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 90/مصر بين ثقافتين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 90/مصر بين ثقافتين

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1935



الصراع القديم بين الإنكليزية والفرنسية وموقف مصر من

ذلك الصراع

للأستاذ محمد عبد الله عنان

يعرف المتصلون بدوائر التعليم والثقافة في مصر أن صراعاً قوياً يجري بين الثقافتين الفرنسية والإنكليزية، تارة في الجهر وتارة في الخفاء. وقد كان تيار الثقافة الفرنسية هو الظافر حتى أواخر القرن الماضي، وكان يغمر المجتمع المصري المثقف، فلما رسمت سياسة الاحتلال الإنكليزية خطط الغزو المعنوي، اهتمت بنظم التعليم والتربية، وأخذت تعمل لتوجيهما بما يوطد نفوذ الثقافة الإنكليزية ويطبع الجيل الجديد بحبها والتعلق بها، فقلبت نظم التعليم، وحلت الإنكليزية مكان الفرنسية في معظم المواد، وتولى الأساتذة الإنكليز مقاليد الإدارة والتعليم في معظم المعاهد، وتحول سيل البعثات الحكومية من فرنسا إلى إنكلترا؛ ولم يمض ربع قرن حتى تم الانقلاب المنشود، وأسبغت على سياسة التربية والتعليم في مصر صبغتها الإنكليزية المحضة، وخرج الجيل الجديد من الشباب المتعلم يحمل تيار الثقافة الإنكليزية، وتضاءل نفوذ الثقافة الفرنسية وانحصر في بعض الجهات والمعاهد الأجنبية التي تعمل على نشرها

كان هذا الصراع بين الثقافتين الأجنبيتين على حساب لغتنا العربية وثقافتنا القومية، فلم تصب العربية خلاله حظاً يذكر من التقدم، وأغفلت كل المثل والاعتبارات القومية من برامج التعليم والتربية، وأوشك هذا الغزو الاستعماري المعنوي أن يقضي على أرواحنا وعقولنا، لولا أن وثبت البلاد وثبتها الوطنية في سنة 1919، وتذرعت للمقاومة بما بقى لها من العناصر الحيوية الكامنة، واستطاعت أن تحول السياسة الاستعمارية عما كانت تعتزمه من خطط الاستئثار الشنيع والقضاء على الحقوق والأماني الوطنية نهائياً، وأن تحرز بعض الغنم في ميادين السيادة القومية. وكان التعليم أحد هذه الميادين، فحررت نظمه وبرامجه من أغلالها القديمة نوعاً، وأنصفت اللغة العربية وأخذت تتبوأ مكانها اللائق كلفة أساسية لتدريس المواد في معظم المعاهد ومراحل التعليم، وكان ذلك ظفراً حقيقياً للغة البلاد ولكن هذا التطور في ميدان التعليم والثقافة لم يحل دون استمرار المعركة القديمة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد بقيت الفرنسية لغة إضافية في التعليم الثانوي، وضعف تيار الإنكليزية بما أتيح للعربية من مجال قوى للعمل والمنافسة؛ وظهر الضعف في الإنكليزية بين الطلبة قوياً، وأخذ نفوذ الثقافة الإنكليزية الذي كان متمكناً منذ عشرة أعوام فقط، يتضاءل بسرعة؛ واهتم الإنكليز لهذه الظاهرة؛ وبحث ولاة الأمر في أسباب ضعف الطلبة في اللغة الأجنبية الأساسية أعني الإنكليزية، وتضاربت فيه الآراء الفنية والعملية؛ أما نحن فلنا فيه رأى لا نرى بأساً من إبدائه. وهو أن هذا الضعف لا يرجع فقط إلى قصور الجيل الجديد من الأساتذة الإنكليز، ولكنه يرجع بالأخص إلى عوامل قومية، خلاصتها أن الخصومة القائمة بين مصر وإنكلترا تحمل الطالب المصري الذي أشربت نفسه بمبادئ الوطنية على نوع من الأسف والغضاضة لتلقي لغة الأمة الخصيمة على يد بعض أبنائها، وأن الأساتذة الإنكليز لا يؤدون مهمتهم في المعاهد المصرية كأساتذة فقط، ولكنهم رسل استعمار وسيادة أجنبية، ينظرون إلى الطلبة نظرة السادة إلى الرعايا والمحكومين، وفي أقوالهم وإشاراتهم دائماً مل يجرح شعور العزة القومية في هذه النفوس الغضة ويزهدها في بضاعة هؤلاء الأساتذة المتكبرين، ولو قام بتدريس الإنكليزية أساتذة مصريون ممن تخصصوا في دراستها، لكان ذلك أجدى وأنفع، ولزال كثير من أسباب هذه الشكوى

ولسنا نقف طويلاً بهذه النقطة، وهي ثانوية في نظرنا؛ ولكنا نريد أن أن نعرض إلى ما هو أهم من أطوار هذه المعركة المستمرة بين الثقافتين الإنكليزية والفرنسية؛ فقد طلب ولاة الأمر في وزارة المعارف أخيراً إلى بعض الأساتذة الإنكليز أن يبدوا رأيهم في سبب ضعف الطلبة في اللغة الإنكليزية، فصرحوا في تقريرهم الذي رفعوه إلى وزير المعارف بأن من أهم أسباب هذا الضعف في نظرهم هو اشتغال الطلبة بدراسة لغة أجنبية إضافية هي الفرنسية إلى جانب اللغة الأجنبية الأصلية وهي الإنكليزية، وإنه يجب إلغاء تدريس اللغة الفرنسية من التعليم الثانوي إذا أريد أن يتفرع الطلبة لدراسة الإنكليزية وأن تقوي مادتهم فيها. وقد كان إبداء هذا الرأي مثاراً لكثير من الجدل، ولاسيما من جانب الأساتذة الفرنسيين ومحبي الثقافة الفرنسية وأنصارها، فأخذوا يفندون رأي أساتذة الإنكليز ويدللون على أهمية الثقافة الفرنسية بالنسبة لمصر ووجوب تفضيلها على أية ثقافة أجنبية أخرى

وموقف الأساتذة الإنكليز من اللغة الفرنسية طبيعي معقول، وسواء أكان رأيهم فنياً مجرداً عن كل اعتبار أدبي آخر، أم كان مغرضاً موحى به، فلا ريب أنه يمثل ناحية من نواحي هذه المعركة الخالدة بين الثقافتين الأجنبيتين اللتين تتنازعان النفوذ في مصر منذ نصف قرن. ويلوح لنا أنه من جهة أخرى رأي عملي سليم من الوجهة الفنية إذا جرد عما قد يكون وراءه من الاعتبارات والعوامل؛ فالطالب إذا تفرغ لدرس لغة أجنبية واحدة دون أن تزعجه لغة أجنبية إضافية أخرى، يستطيع أن يحرز في هذه اللغة شيئاً من التقدم. ومادام أن ظروفاً سياسية خاصة تقضي بأن تكون الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية في مصر إلى جانب اللغة العربية، ومادام أن مصر لا تستطيع في الوقت الحاضر أن تقرر اختيارها حراً مطلقاً، فلا مناص من أن نصدع بالأمر الواقع، وأن نبحث المسألة على ضوء هذه الحقيقة

الإنكليزية هي اللغة الأجنبية الأساسية التي تقررت في نظام تعليمنا. ومن المسلم به أن تعليم اللغات الأجنبية الحية عنصر جوهري من عناصر الثقافة الناضجة، وفي جميع الأمم العظيمة التي تتمتع بحضارة رفيعة، تعلم لغة أجنبية أو أكثر إلى جانب اللغة القومية؛ وهذا ما تفعله مصر بتعليم الإنكليزية. ومن المحقق أن الإنكليزية في مقدمة لغات الأرض انتشاراً وأهمية، وأن الثقافة والآداب الإنكليزية في طليعة الثقافات والآداب العالية الرفيعة. ولكن من سوء الطالع، أن تكون الإنكليزية في مصر إلى جانب هذه الاعتبارات العلمية، أداة للنفوذ الاستعماري؛ ومن مصائب مصر أنها مازالت مسرحاً للمنافسات الأجنبية؛ الثقافة الفرنسية أو بعبارة أخرى الثقافة اللاتينية، والثقافة الأنجلوسكسونية، واللغة الألمانية، واللغة الإيطالية، كل تحتل مقامها في هذه البلاد، وكل تحاول أن تدعم نفوذها وأن تزيده بطريق المدارس والبعثات الدينية والمؤسسات الخيرية المقنعة، وكل تدعي لأبنائها بعض الإدارات والمناصب الفنية في الحكومة المصرية قياساً على الماضي كأن الزمن لم يتغير، ولم تحرز مصر تقدماً، ولم تجش بأمنية التحرر من هذه الوصايات الخطرة

ففي هذا المعترك تتخبط مصر؛ وإزاء هذه الجبهة المشتركة من الثقافات واللغات الأجنبية المتنافسة في غزو عقولنا وأرواحنا تقف اللغة العربية وحيدة في الميدان. وقد أنصفت اللغة العربية في العهد الأخير نوعاً كما قدمنا، ولكنها مازالت في حاجة إلى إنصاف أتم وأوفى؛ وهي اليوم بلا ريب أقوى وأشد كفاحاً ومقاومة، وقد أتيح لها أخيراً أن تدلل على حيويتها المدهشة باستعمالها في تدريس كثير من مواد الدراسات العالية التي كانت تغلق قبلاً دونها بحجة قدمها وقصورها. غير أن العربية مازالت في مهادها الرسمية عرضة لمنافسة قوية من اللغتين الإنكليزية والفرنسية، الأولى كلفة أجنبية أساسية، والثانية كلغة أجنبية إضافية. والواقع أن هذه الفرنسية الإضافية لم تبق لها أية قيمة عملية في الدراسة، وقلما ينتفع الطلبة بتعليمها، وإنما هي أثر من آثار الصراع القديم والعهد الماضي، ففيم بقاؤها اليوم عنصراً من عناصر الإرهاق والتعطيل؟ قد يكون في اقتراح الأساتذة الإنكليز ما يبعث على الشك في نزاهته وأنه يرمي قبل كل شيء إلى تخلص اللغة الإنكليزية من منافسة قديمة. فليكن؛ ولكنا نستطيع أيضاً أن نحول هذا الإلغاء لمصلحة اللغة العربية والثقافية القومية، ذلك أن اللغة العربية تتخلص أيضاً بإلغاء هذه الفرنسية الإضافية من منافسة لا مبرر لها وليست لها قيمة علمية تذكر؛ ويكفي أن تضطلع العربية بالدفاع عن نفسها أمام غزو لغة أجنبية رسمية واحدة، وأن تقف مع الإنكليزية وجهاً لوجه، وأن تكسب بذلك قوة جديدة وأن تغزو ميداناً جديداً للعمل والكفاح

في وسع مصر أن تلغي الفرنسية من معاهدها، ولكنها لا تستطيع لظروفها السياسية الخاصة أن تلغي الإنكليزية. وإذن فلا ضير أن تلغى الفرنسية؛ وفي الإنكليزية كلفة ثقافية عالمية ما يكفي لتزويد المتعلم بكل ما يطمح إليه من صنوف العلوم والمعارف الحديثة، وكفى ما تلقاه البلاد من غزو معنوي منظم على يد المعاهد الأجنبية فرنسية وغيرها، وكلها تقوم برسالة غير رسالة العلم الخالص

لسنا نجد موضعاً للمفاضلة بين الفرنسية والإنكليزية فكلتاهما من أعظم اللغات الحية سواء في العلوم أو الآداب أو الفنون، وكلتاهما من أهم اللغات الدولية في المعاملات التجارية. ولسنا من أنصار ثقافة أجنبية بعينها، وإنما نؤيد الأخذ والاقتباس من كل ثقافة رفيعة. ولكن الأساتذة الفرنسيين في وزارة المعارف وأنصار الثقافة الفرنسية في مصر يضجون لفكرة إلغاء اللغة الفرنسية من مواد الدراسة الرسمية، ويشفقون على مستقبل الثقافة الفرنسية في هذه البلاد، فلم هذه الضجة ولم هذا الإشفاق؟ يقولون إن الثقافة الفرنسية هي أصلح الثقافات الغربية لمصر. وإن النهضة المصرية الأخيرة بدأت على أساس الثقافة الفرنسية واستمرت كذلك طوال القرن الماضي، وإن قادة الحركة الفكرية الحديثة في مصر تلقوا العلم جميعاً في فرنسا، وإن الصلات التاريخية والاجتماعية القديمة بين مصر وفرنسا، وكون مصر اقتبست قوانينها الحديثة من القانون المدني الفرنسي، وكون اللغة الفرنسية ما تزال لغة المعاملات المختلفة في مصر، وأخيراً كون مصر أمة من أمم البحر الأبيض التي تغمرها الثقافات اللاتينية: كل هذه العوامل تحتم الإبقاء على اللغة الفرنسية في مصر، والمضي في الاقتباس من الثقافة الفرنسية وتوثيق هذه الروابط المعنوية بين البلدين

ونحن لا نود أن نجادل في هذه الوقائع من الناحية المادية، ولكنا نلاحظ فقط أن مصر الحديثة لم تتجه إلى اختيار الثقافة الفرنسية قصداً بمحض اختيارها؛ وإنما هو مجرى الحوادث القاهر الذي ساقها إلى هذا السبيل، فقد نظم الفرنسيون حينما غزوا مصر في خاتمة القرن الثامن عشر، غزوهم المعنوي إلى جانب الغزو السياسي، وعنوا ببث ثقافتهم في مصر عناية خاصة؛ ولما استخلص محمد على حكم البلاد لنفسه، ألفى أمامه بقية قائمة من هذه الثقافة، وألفى الفرنسيين على أهبة لمعاونته، وقضت ظروف سياسية معينة أن يقبل هذه المعاونة وأن ينتفع بها في تنظيم إدارته وإصلاح جيشه وماليته، وفي ظل هذه الظروف أرسلت البعثات المصرية الأولى إلى فرنسا، وقد كانت يومئذ أوثق الدول الغربية صلة بمصر، واستطاعت فرنسا أن تقوى نفوذها المعنوي والثقافي بمصر، وغدا هذا النفوذ بمرور الزمن ظاهرة قائمة في الحياة المصرية، واستمر ينتج أثره في طبع المجتمع المصري المثقف بالطابع الفرنسي حتى أواخر القرن الماضي. هذه هي قصة الثقافة الفرنسية بمصر، فلم تكن مصر عامدة أو حرة في اختيارها ولم تخترها وتؤثرها لأنها أصلح الثقافات لها، أو لأن ظروفها الجغرافية والاجتماعية كإحدى أمم البحر الأبيض تحتم عليها أن تسير وراء الثقافة اللاتينية، أو لغير ذلك مما ينتحله أنصار الثقافة الفرنسية في مصر؛ ولم يكن الأمر أكثر من حادث تاريخي عرضي زالت البواعث والظروف التي أدت إليه منذ بعيد

لسنا ننتقص من الثقافة الفرنسية أو غيرها من الثقافات الغربية الرفيعة، ولكنا سئمنا هذا التنافس على غزونا من طريق اللغات والثقافات، ولا نريد بعد أن نعتبر منطقة نفوذ لهذه الثقافة أو تلك، ونريد قبل كل شيء أن نوحد جهودنا المعنوية في مقاومة الغزو الذي لا مناص من قيامه في معاهدنا ومدارسنا؛ ذلك هو الغزو الإنكليزي؛ ولن يكون ذلك إلا بالعمل على تعزيز اللغة العربية وتقدمها، وتعزيز عناصر الثقافة القومية في صدور الشباب. ومن حسن الطالع أن هذا الغزو الإنكليزي المنظم لعقولنا لم يصادف كثيراً من النجاح رغم استئثاره في عصر ما بجميع المواد والدراسات؛ ذلك لأننا نشعر دائماً بما وراءه من الظروف والاعتبارات التي لا يرتاح إليها ضميرنا القومي، ولأننا نشعر دائماً أنه غزو مفروض علينا في معنى من المعاني. وليس معنى ذلك أننا لم نجن غنما علمياً من دراسة الإنكليزية، ومن التثقف بثقافتها، فقد جنينا بالعكس منها فوائد جليلة، ولكنا نعتقد أن هذا الغنم يكون مضاعفاً لو أن مصر استطاعت أن تتحرر من كل نفوذ معنوي، وأن تختار لنفسها ما شاءت من ألوان الثقافات المختلفة التي تحقق أمانيها الوثابة دون أن تجني على بنائها وتقاليدها القومية؛ ونحن على يقين من أنه يوم يتاح لنا مثل هذا الاختيار الحر، لا نستطيع أن نرى في الإنكليزية إلا أنها في مقدمة اللغات والثقافات، ولا نجد غضاضة في أن تكون هي اللغة الأجنبية الأساسية، وأن تكون أداة لسد كل نقص نشعر به في دراستنا

والخلاصة لا نجد غضاضة ولا ضرراً في إلغاء الفرنسية من برامجنا الدراسية والقضاء على هذا التنازع في النفوذ العقلي في معاهدنا، وتحرير اللغة العربية بذلك من أحد عناصر المنافسة التي لا مبرر لها، والتي ما زالت تشعر بوطأتها. بل نرى من الخير ومن الواجب معاً أن تقاوم البلاد كل ألوان هذا الغزو الثقافي الأجنبي ما استطاعت خصوصاً ما كان منه ستاراً لبث نفوذ معين يتخذ من آن لآخر وسيلة لتحقيق مختلف الغايات والمصالح؛ ولسنا نفرق في ذلك بين غزو وغزو ونفوذ ونفوذ؛ فالفرنسي والإيطالي والألماني كالإنجليزي يتخذون من بلادنا مسرحاً لهذه المنافسات الخطرة؛ وإنه لمن خير مصر وسلامها أن تقاوم هذا الغزو المعنوي دائماً وأن تعمل على تحطيم عناصره وأسلحته ما استطاعت

محمد عبد الله عنان

المحامي