انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 899/من الحوادث الأدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 899/من الحوادث الأدبية

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



فطلقها فلست لها بكفء

للأستاذ محمد سيد كيلاني

كان الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد صديقاً حميماً للسيد عبد الخالق السادات. وكان للسيد عبد الخالق فتاة جميلة تسمى صفية، فاغرم بها الشيخ علي وأغرمت به وأحب كل منهما صاحبه حباً ملك عليه فؤاده. وقد أعربت صفية عن حبها للشيخ علي في كتاب بعثت به إلى القضاة الشرعيين ونشر في الصحف. ومما جاء فيه قولها (وأعلم يا مولاي أنني راضية بزوجي راغبة فيه لا أختار سواه بديلا مهما كان الأمر).

وقد طلب الشيخ على من والد الفتاة أن يزوجه منها فأخذ يسوف في الأمر حتى إذا ضاق العاشقان ذرعا بهذا التسويف قررا أن يعقد قرانهما دون انتظار لموافقة والد الفتاة. وتم لهما ذلك في مساء الخميس 14 يوليه سنة 1904 إذ هربت الفتاة من منزل والدها وذهبت إلى منزل السيد عبد الحميد البكري وتبعها هناك الشيخ علي يوسف وعقد القران وظهر نبأ ذلك في الصحف.

وما كاد السيد عبد الخالق يطلع على ما نشر خاصا بهذا الزواج حتى ثارت ثائرته وأسرع برفع دعوى أمام المحكمة الشرعية طالباً فسخ الزواج بحجة أن صاحب (المؤبد) غير كفء ليتزوج من بنته وهي هاشمية قرشية. وانتهز أعداء الشيخ علي ومنهم المويلحي هذه الفرصة الثمينة وانتقموا لأنفسهم منه انتقاماً شديداً فأخذوا يشنعون عليه في المجالس والأندية ويكتبون المقالات الطوال في تجريحه والطعن في نسبه وحسبه وأخلاقه واتهموه بخطف فتاة شريفة وخداعها والتغرير بها مما لا يتفق مع الأخلاق والدين والذمة والضمير. وذكروا أنه كان مسيحياً واسلم فهو بهذا غير كفء في نسبه. قال أحد شعراء ذلك العصر

لبعض المسيحيين جئت مسلماً ... وقلت له قد أصبح الشيخ مجرما

وجر عليكم سبة وفضيحة ... بفعلته الشنعا فأضحى مذمما

لأن لسان الدفع أثبت أنه ... ليسى وعبد النور صح له أنتما

فقال المسيحي لم يشنا فإننا ... بريئون منه منذ أن صار مسلما

فهلا رأيتم يا بني مصر حادثا ... كهذا الذي قد أغضب الأرض والس ولا شك في أن تصوير نسب الشيخ علي يوسف في هذه الصورة أمر لا يتفق مع الحقيقة بل دعا إليه ما تمكن في قلوب أعدائه من غل وحقد. فالشاعر يقول أن التحقيق التاريخي أثبت أن نسب الشيخ علي يرجع إلى أسل مسيحي أجداده يسى وبطرس وعبد النور. ويدعي أنه ذهب إلى بعض المسيحيين وشكا إليه من سوء ما فعل الشيخ علي الذي صحت نسبته إليهم. فأجبت بأن المسيحيين منه براء مذ صار مسلما. ثم ينتهي من ذلك إلى نتيجة وهي أن الشيخ عليا بفعلته الشنعاء قد أغضب من في السماوات ومن في الأرض.

وقد شغل الرأي العام في مصر بهذا الموضوع مدة من الزمن وأصبح حديث الخاصة والعامة. ونظرت المحكمة الشرعية المنعقدة برياسة الشيخ أحمد أبي خطوة هذه القضية واكتضت قاعة الجلسة بالمشاهدين وبينهم جم غفير من علية القوم وأكابرهم.

المصريون أعاجم

ووقف محامي السادات يطعن في نسب الشيخ علي فقال إنه عجمي لا يعرف له أب. ثم قال أن عامة أهل القرى والأمصال في هذه الديار أعاجم إلا من له نسب كالسادة الوفائية. ثم قال أن الشيخ عليا من قرية صغيرة في الصعيد تسمى بلصفورة أهلها كلهم أعاجم فكيف انفرد الشيخ علي بينهم بالنسب. ثم التفت المحامي إلى جمهور الحاضرين وسألهم عن نسب موكله وعدم كفاءة الشيخ على الزواج ببنت السادات فصاحوا كلهم في الجلسة نعترف بشرف السادات وتنكر نسب الشيخ علي، ولم يشذ عن الجمهور سوى محمد أمام العبد الذي كان يحرر في المؤيد، فالتفت إليه أحد الحاضرين وقال: شهادة العبد تحتاج إلى إبراز ورقة العتق.

الصحافة حرفة دنيئة

ولما فرغ المحامي من الطعن في نسب الشيخ علي انتقل إلى الطعن في حرفته فكان مما قاله:

(. . . ولنتكلم عن الحرفة فنقول أن حرفة الجرائد المحترف بها حضرة الشيخ علي هي حرفة دنيئة في الأصل؛ والدليل على ذلك أننا رأينا عوام الناس ممن لا حرفة لهم يتخذونها حرفة للتعيش بخلاف بقية الحرف الدنيئة فإننا لم نر من مارسها بغير بضاعة لها. وكيف لا تكون أدنى الحرف وهي ليست إلا عبارة عن الجاسوسية العامة وهي المعدة للإشاعة وكشف الأسرار والله تعالى قول (ولا تجسسوا)

جهل الشيخ علي

ثوم انتق إلى الكلام على جهل الشيخ علي يوسف فقال:

(. . . وماذا نقول في رجل يتعرض لتحرير الجرائد وهو لا يعرف مواقع القارات، فقد جاء في جريدته يوما قوله

(إن الله شرف القارة الأفريقية بالبيت الحرام مع أن البيت الحرام في آسيا كما يعلمه أطفال المكاتب ومنه قوله في عدد آخر القلعة المعزية بنسبها إلى المعز لدين الله، والحقيقة أنها القلعة الناصرية منسوبة لبانيها صلاح الدين بن يوسف بن أيوب. ومنها قوله في عدد آخر (هارون الرشيد وجعفر المنصوري) مع أن الصواب هارون الرشيد وجعفر المنصور. فإن قيل إنه أخطأ في الرشيد قبله في العوام كثير فقياسه المنصور عليه أشد خطأ وقبحاً لأنه اجتهاد في غير محله. ومنه قوله رأوا بيت أبي نؤاس:

وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام

انه في مدح النبي عليه السلام وإنما مدح به أبو نؤاس محمد الأمين في القرن الثاني من الهجرة، إلى غير ذلك مما يضيق به المقام.)

وكان محمد بك أبو شادي صاحب جريدة (الظاهر) خصما لدودا للشيخ علي يوسف ففتح للشعراء بابا على صفحات جريدته سماء (عام الكفء)، وفي ذلك يقول أحد الشعراء

قد كان عام الكف فصلا جامعا ... من أفكه الأقوال للشعراء

واليوم عام الكفء يأخذ دوره ويكون ميدانا إلى الآباء

هل بعد هذا للمؤيد عبرة ... إن كان معدودا من العقلاء

هذا قصاص في الحياة يناله ... من كان معتديا على الشرفاء

ومن عجائب المصادفات أن لفظي (كف) و (كفء) لا يختلفان كثيراً في الرسم وقد عرض الشاعر في هذه الأبيات للنوادر والملح والفكاهات التي وقعت في هذين العاملين والتي جادت بها خواطر الشعراء والكتاب. ثم ذكر في كثير من الشماتة أن جريدة المؤيد قد عوقبت في هذه الحملات التي شنها عليه خصومه وذلك لما اقترفه من التشهير فيما سماه (عام الكف)

وقد حكمت المحكمة الشرعية بعدم كفاءة الشيخ علي في هذا الزواج فأبطلته وقضت بفسخ العقد. وفي هذا الموضوع يقول حافظ إبراهيم:

وقالوا المؤيد في غمرة ... رماه بها الطمع الأشعبي

دعاه الغرام بسن الكهول ... فجن جنونا ببنت النبي

فضج لها العرش والحاملوه ... وضج لها القبر في بئر

ونادى رجال بإسقاطه ... وقالوا تلون في المشرب

وعدوا عليه من السيئا ... ت ألوفا تدور مع الأحقب

وقالوا لصيق ببيت الرسو ... ل أغار على النسب الأنجب

وزكى أبو حطوة قولهم ... بحكم أحد من المضرب

وهذه الأبيات جاءت ضمن قصيدة مطلعها:

حطمت اليراع فلا تعجبي ... وعفت البيان فلا تعتبي

وفيها يعبر حافظ عن شعور شديد بالألم والحزن على ما وصلت إليه أحوال البلاد. فحينما كان الأجانب يزدادون توغلا في مرافق الأمة الاقتصادية وكانت يد الاحتلال تقبض بشدة على رقاب المصريين كان الرأي العام مشغولا بهذه الصغائر، وذلك بفضل الصحف التي تركت معالجة الشؤون الحيوية وانهمكت في مسائل شخصية تافهة وحشت أعمدتها بألفاظ الشتائم والسباب.

وفي الأبيات المتقدمة يحكي لنا حافظ ما يقوله أعداء الشيخ علي يوسف في موضوع الزواج. فهو في نظرهم قد سقط سقطة شنيعة وأتى أمرا لا يتفق مع سنه وهو كهل ولامع عمله وهو صحفي مهمته الوعظ والإرشاد وتقويم المعوج وإصلاح الفاسد. وهذا العمل الشنيع في نظرهم قد ضج له العرش والملائكة والضريح النبوي. ومنهم من نادى بإسقاطه لأنه لم يكن وطنيا صادقا بل كان يلبس لكل حال لبوسها. فإن صفا الجو بين الخديو والإنجليز انضم إلى جانب المحتلين وطفق يمتدح سياستهم ويتغني بها؛ وإن حدث غير ذلك تغير تباعا للظروف. وهو في نظرهم يدعى لنفسه نسبا يلصقه ببيت النبوة. وقد اختلق هذا النسب اختلاقا وظل يخدع الناس ويوهمهم أنه من آل البيت حتى جاء أبو خطوة ففصل في الموضوع وأظهر بطلان ما يدعيه الشيخ علي.

وهذا كله وليد الحقد والضغينة التي طفحت بها قلوب خصوم الشيخ علي، فصوروه في صورة رجل خارج على القانون الوضعي والسماوي، خارج العرف والتقاليد! خارج على أبسط قواعد المروءة، خارج على الأخلاق التي تواضع الناس عليها. كما صوروه في صورة مجرم خطف فتاة عذراء من بيتها وغرر بها وخدعها وهو بهذا العمل قد أنكر تعاليم الشريعة الإسلامية وأغضب الله وأغضب رسوله باعتدائه على فتاة من آل بيته على هذا الوجه القبيح قال محمد أبو شادي من قصيدة رفعها إلى الشيخ أبي خطوة قبل أن يفصل في القضية

الله ينظر والإسلام ينتظر ... والحق يجأر والبهتان يأتمر

وفي ذمامك شرع الله فارع له ... عهد الوفاء وأنت الحافظ الحذر

وفي يديك لآل المصطفى شرف ... وعرض طهر فلا يلحقهما الكدر

ومنها.

جناية ثلمت عرض النبي وهل ... جناية مثلها يا عدل تغتفر

جناية ضجت الأملاك ذاهلة ... منها وأرجت الأفلاك والعصر

فأنت ترى كيف لجأ الشاعر إلى إثارة العواطف الدينية، فالله ينظر، والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها يترقب الحكم، والحق يستصرخ ويستنجد، والباطل يجد في الدس والكيد حتى ينتصر على الحق. وهذا الزواج جناية ليس بعدها جناية لأنها خدشت عرض الرسول وتحدث عنها من في السماوات ومن في الأرض وهكذا جد الشاعر في الضرب على وتر حساس وصور الشيخ عليا خارجا على الإسلام محطما لأحكام الكتاب والسنة؛ ثم دعا إلى نصرة الإسلام بإبطال هذا الزواج لأن في ذلك ما يرضي الله ورسوله بعد أن أغضبها الشيخ علي إغضابا شديدا. ولا شك في أن الضرب على هذا الوتر وإشعال العواطف الدينية على النحو المتقدم قد لعب دورا هاما في القضية فجاءت النتيجة كما يحب خصوم الشيخ علي وإبطال الزواج

ولم يترك خصومه بابا يصلح للهجوم عليه إلا ولجوه. فتناولوا ماضيه يوم أن كان فقيرا معدما لا يجد ما يمسك به رمقه ولا ما يستر به عورته. وشنعوا عليه في ذلك تشنيعا كبيرا.

انظر إلى أحدهم حين يقول:

قل المؤيد ما دهاك ... يدك التي صفعت قفاك

فلم التغطرس والغرو ... ر ألست تذكر مبتداك

أيام كنت ولست تم ... لك كسرة لتسد فاك

تلج الثياب وكلها ... فرج يضيق لها سواك

فمن اليمين إلى اليسا ... ر إلى الأمام إلى وراك

تبلى الرياح خيوطها ... ويزيد في البلوى حذاك

تمشي الصباح إلى المسا ... ء عسى أخو بر يراك

تغشى المنازل طالبا ... رزقا لشعر لا بلاك

فانظر إلى الصورة التي في هذه الأبيات. هي من غير شك صورة مؤلمة إلى حد بعيد. فأنت ترى رجلا بائسا في حاجة إلى قطعة من الخبز وقد لبس ثيابا بالية ممزقة من اليمين واليسار ومن الوراء والأمام يقطع الشوارع والطرقات وبيده قصيدة من الشعر في مدح وجيه من الوجهاء. ثم يذهب إلى دار هذا الوجيه ويمكث أمام بابه ساعات في انتظار ما يجود به عليه من دراهم. وهكذا كان الشيخ علي يوسف كما صوره هذا الشاعر ويغلب على ظني أنه المويلحي. ففي هذه الأبيات تلمس بوضوح روح التشفي والانتقام مما أتاه الشيخ علي في (عام الكف) فعبارة (يدك التي صفعت قفاك) تكشف عن الحالة النفسية لشاعر بلغت منه الشماتة مبلغا عظيما وتهيأت أمامه الفرصة فأنتهزها وأشبع رغبته في الطعن والتجريح وانهال على خصمه في غير شفقة ولا رحمة فأتى بهذه الصورة المزرية المؤثرة واظهر الملأ حقيقة هذا الدعي المغرور الذي يحاول أن يسدل الستار على ماضيه والذي توهم أن ماضيه قد أصبح مجهولا فراح يدعي لنفسه ما شاء وهو آمن مطمئن.

ولما صدر الحكم بإبطال الزواج تهللت وجوه أعدائه فرحا وسرورا وأكثروا من الضحك منه في المجالس والنوادي وأظهروا الشماتة واتخذوه سخرية وموضعا للدعايات والفكاهات. قال أحد الشعراء هاجيا ومؤرخا

قل المؤيد رزأ ... ت من الزمان أشد رزء

منعوا صفية بعدما ... كانت لدائك خير برء وزعمت أنك في الكفا ... ءة مثلها جزاءا بجزء

لكن شريعة أحمد=قد أرخت هو غير كفء (1322)

وقال آخر

عوضك الله وء ... زى القوم في عاقبتك

بينا تسوق الشعر وال ... بهتان من ناحيتك

تغرى لعام الكف لا ... ترنو إلى داهيتك

إذ دار ذاك الكف مو ... زونا على قافيتك

وقال آخر

حكم أذاقك مره ... عدلا وعلقمه صفاك

فغدوت منبوذا تفو ... ح بنتن فحش جانباك

أخجلت شارات الفضي ... لة والوسام ومن كساك

بؤ حاملا غضب الذي ... قدر السقوط لأخرياك

سبحان من قسم الخطو ... ظفلا ابتداك ولا انتهاك

وهكذا صب الشعراء القول على رأس الشيخ علي في غير هوادة وقد بات في حالة يرثي لها أخذ يتوارى خجلا من الناس ووقف قلمه وانعقد لسانه واضطرب أمره وحاول أن يستغل نفوذه لدى الحكومة لتغيير مجرى الحوادث فلم يفلح، فسكنت على مضض وأسلم نفسه للحزن وهو كظيم بينما كان خصومه يروحون ويجيئون وكلهم فرح مسرور بما وقع للشيخ من الإهانة والتحقير وفي هذه المقطوعات المتقدمة ترى الشعراء يزيدون من ألم الشيخ وحزنه ففيها تعزية عل ما أصابه من التفريق بينه وبين صفية التي ادعى أنه كفء لها حتى جاء حكم الشريعة فأثبت ضد ما أدعى؛ وفيها توبيخ وتعنيف، وفيها سخرية وتهكم، وفيها سرور وشماتة، وفيها تذكير بما فرط منه في حق المويلحي، وان الكف الذي هلل له وطرب قد دار عليه ووقع على قفاه في غلظة وخشونة.

ولما استأنف الشيخ على الحكم شرع خصومة ينعون عليه عدم خضوعه وإذعانه لحكم الشرع الشريف ويصورونه في صورة السادر في الضلال المتمادي في الباطل الذي يريد أن ينهك حرمة بيت الرسول غير مكتف مما فرط منه من الإثم. وفي ذلك يقول أحد الشعراء

كيف التبجح يا ابن يسى ... حكم الشريعة ليس ينسى

أتريد باستئنافه ... تبنى له بالنقض ما

وتكون منغمساً بآ ... ثام الهوى وتطيب نفسا

كذبت ظنونك ليس يح ... صل ذا ولو باريت قسا

فالحكم في إحكامه ... كالراسيات ثبتن أسا

لا يستخف به سوى ... من في دجى الغفلات أمسى

فدع الأماني الباطلا ... ت ينقضه معنى وحسا

فالشرع يأبى أن يرى ... في عالم الإسلام رجسا

وهكذا تساقطت اللطمات على وجه الشيخ على كل يوم من خصومه. فبر عليها صبر الضعيف الذي لا حول له ولا قوة ولم يترك أعداؤه فرصة تمر دون أن يتخذوا منها وسيلة لتشديد الحملة على عدوهم اللدود، فما فكر في استئناف الحكم حتى وجد خمسون بابا يدخلون عليه منه فرموه بالعصيان لأحكام الشرع ومحاولة تحطيم الشريعة واتهموه بالكفر والمروق والخروج على الدين الحنيف. وكان هذا يحز في نفس الشيخ علي حزا عنيفا ويؤلمه ألما شديدا. وكيف لا يتألم ولا يتضجر وهؤلاء خصومه يتهمونه في دينه ويشنعون عليه في معتقده ويخاطبونه بولهم يا ابن يسى وبطرس وعبد النور؟ وها هي المحكمة الشرعية قد أبطلت نسبه الذي ادعاه لنفسه وحكمت بعدم كفاءته لمصاهرة السادات.

لقد عجز الشيخ علي عن إقناع الدفاع عن نفسه عجزا تاما ولم يستطع أحد من أصدقائه أن يرد عنه ذلك الهجوم العنيف الذي قام به خصومه ضده وبقى على تلك الحالة المؤلمة حتى أنقذه السلطان عبد الحميد فأنعم عليه في أول سبتمبر 1904 بنوطي الامتياز الذهبي والفضي وكانا من أرفع أنواط الدولة العليا وإلى هذا يشير حافظ بقوله:

وما للخليفة أسدى إليه ... وساما يليق بصدر الأدب

وحينئذ استطاع صاحب المؤيد أن يفرج عن نفسه قليلا وأن ينهض واقفا أمام أعدائه. وتوالت عليه برقيات التهنئة من الكبراء والعظماء في القاهرة والأقاليم وأخذ ينشر هذه البرقيات لعله بذلك يخرس خصومه ويقطع ألسنتهم، وطفقت الوفود تحج إلى داره مهنئة بهذا الأنعام السامي الذي يعرب عن رضاء أمير المؤمنين عن الشيخ علي. وفي ذلك يقول حافظ:

فما للتهاني غلي داره ... تساقط كالمطر الصيب

وما للوفود على بابه ... تزف البشائر في موكب

وحافظ هنا ساخط متبرم مما يرى. فبينما الناس يتهمون الشيخ عليا في أخلاقه ودينه إذا بهم يسرعون إلى داره لتهنئته بما ظفر به من الإنعام السامي. ثم يوجه حافظ الخطاب للمصريين فيقول:

فيا أمة ضاق وصفها ... جنان المفوه والأخطب

تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلي البريء مع المذنب

والذي لا شك فيه أن حافظ لم يوفق هنا إلى محجة الصواب فالذين هنئوا الشيخ عليا غير الذين شنوا عليه هذا الهجوم العنيف، والذين أسرعوا إلى داره غير الذين أجروا أقلامهم طعنا فيه وتجريحا. ولكن حافظا وكان ساخطا ناقما تجاهل هذه الحقيقة، ووجه نقده المر إلى الأمة المصرية بأجمعها كأن المصرين في نظره اشتركوا كلهم بغير استثناف في الحملة على الشيخ علي أو كأنهم ذهبوا كلهم بغير استئناف إلى دار الشيخ لتهنئته!

وقد اتخذ أصدقاء الشيخ علي هذا الإنعام وسيلة لمدحه وتقريظه والتعريض بخصومه والتنديد بهم. فهذا شاعر يقول:

لا والذي أعلى ذراك ... وأحاط بالحسنى حماك

وأجل قدرك في الأنا ... م وحل عقدة من شناك

ان يبلغ الحساد ما من ... أجله نصبوا الشراك

وتحفروا وتوثبوا ... وتأبطوا شر العراك

واستنفدوا جعب السبا ... ب وبالغوا في الانهماك

إن المدى مهما غلوا ... أو أغرقوا في الاحتكاك

إن يلحقوا في سعيهم ... إلا غبارا من مداك

وهكذا حاول صاحب المؤيد أن يعالج حالته النفسية السيئة وأن ينفض عن نفسه ما سقط عليه من غبار كثيف بسبب هذا الحادث المشئوم، حادث الزوجية، وأخذ نجمه يعلو ومكانته تسمو عند الخديوي عباس حتى أسندت إليه في سنة 1912 مشيخة السجادة الوفائية.

محمد سيد كيلاني