انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 899/منطق عجيب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 899/منطق عجيب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 09 - 1950



(قوبل نبأ اعتزام الحكومة المصرية تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. وقد صرح أحد المسئولين في وزارة الخارجية البريطانية اليوم لمراسل (الأهرام) بأن السير رالف ستيفنسون السفير البريطاني في القاهرة، قد سلم إلى الحكومة المصرية مبلغ 000ر400 جنيه كدفعة أولى من المبلغ الذي قررت بريطانيا المساهمة به في مشروع مياه الشرب.

والمفهوم أن هذا المبلغ هو جزء من نصيب الحكومة البريطانية في أرباح لجنة القطن المصرية البريطانية خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الأخيرة.

والمعروف أن الحكومة البريطانية كانت قد فكرت في تقديم هذه (الهبة) إلى مصر في عام 1946، ولكنها أرجأت تقديمها لأن الحكومة المصرية في ذلك الوقت لم تكن قد وضعت بعد أسس المشروع).

هذا هو النبأ الذي حملته (الأهرام) منذ ثلاثة أيام إلى المصريين. ولو كان المصريون جميعاً يقرئون لارتسمت على الشفاء عشرون مليوناً من البسمات الساخرة. اللهم أكثر من المصريين واكثر من الذين يقرئون وافتح عيون الإنجليز لتقع على المزيد من هذه البسمات!!

ولماذا لا يبتسم المصريون في سخرية وأمامهم هذا المنطق الساخر من هيبة العقل وصولة الحق وكلمة التاريخ؟ منطق ساخر، ومن حق العقلاء أن يتلقوه ساخرين إذا كانوا منطقيين. . . يعودون بأفكارهم إلى الوراء ليطووا الزمن سبعين عاما في ضيافة الاحتلال، وليذكروا أن موائد (الكرام) في خلال هذه الضيافة الطويلة قد قدمت إليهم المرض فيما قدمت من طعام! ومع ذلك فقد قوبل نبأ تزويد القرى المصرية بمياه الشرب الصالحة بارتياح كبير في لندن. أتدري لماذا؟ لأن الإنجليز يسعدهم أن يتمتع المصريون بسلامة الأبدان وياله من منطق ذلك الذي نسي المصريون متمتعون بسلامة العقول!!

منطق يفر من وجه التاريخ، وله من القدرة على المغالطة ما يبلغ حد الصفاقة في كثير من الأحيان. . وليس أمعن في الصفاقة من أن تتحدث عن ماضيك مع خصمك بمثل هذا الأسلوب، ثم نفترض أنه قد نسي ذلك الماضي فنحاول أن نغالطه في الحاضر المشهود. وأية مغالطة في الدنيا تفوق هذا الادعاء البريطاني بأن لندن قد (تصدقت) على المصر بأربعمائة ألف من الجنيهات؟!

ويسمونها هبة، أو منحة، أو صدقة، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي يعج بها قاموس الصفاقة البريطانية. يسمونها كذلك ولنا في ذمتهم من الديون ما يربى على ثلاثمائة مليون من الجنيهات هل رأيت في حياتك مدينا يتصدق على دائنه؟ مدينا بحت حنجرة الدائن من طول مطالبته بحقه وهو يماطل، وتذكيره بوعوده وهو يخلف، وتعريضه بشرفه وهو لا يخشى على شرفه من الهوان؟! ولقد عشت حتى رأيت. . رأيت الخيال يتحول إلى واقع، والباطل ينقلب إلى حق، والظن يصبح في يد المغالطين وهو حقيقة!

أ. م