مجلة الرسالة/العدد 896/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 896/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
شاعرة مصرية تودع الحياة:
في اليوم الثامن من نوفمبر عام 1949 صدر عدد الرسالة الأسبوعي يحمل في أول كلمة من تعقيباته (قصة الدموع التي شابت). . . وفي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم نقل إلى التليفون صوت الشاعرة (ن. ط. ع) حزيناً كالعهد به، خافتاً كأنما يأتي من بعيد، قاتماً كأنما تعكس نبراته لون شعور عاش في الظلام: هل يتسع وقتك لأن أقرأ لك هذه القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق؟ تفضلي يا ناهد!. . . هل تعدني بنشرها في (الرسالة) يوم أن تتحدث عني بعد الرحيل؟ أعدك يا آنسة!. . . إذن فاستمع إلى ولا تعترض، لأنها شعر غير موزون:
(جاء إلى الحياة والدمع في عينية، ورحل عنها والدمع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي اكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لتخبو في ظلام الياس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجي كل عابر سبيل!
يخيل إلى أنه يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً. روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، وكأن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين! وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالثكل أمانيه، فكل تعزبة في حساب الشعور، وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟ لقد كان (قارئاً) من قراء الرسالة، حدثني عن نفسه يوما فكتبت إليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتق بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقي منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله، وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته.
رباه، إنني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموس إذا احتضرت على فراش الغروب!
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع بكل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك، وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحة يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتك، حين يصور لك الوهم أن في التراب أكواباً من العزاء!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلى معنى من معاني القبر: في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. كم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوما على وقع أقدام المشيعين!
من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجداني وأنا استعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغريب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغري بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!
رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك)!
وسكت الصوت المتهدج لحظات. . . ثم انطلقت صاحبته تقول: (هذه هي القصيدة التي فرغت منها منذ دقائق، ثم أعدت قراءتها عليك. . . إنها من كلمات أنت، ولكن قلمك قد استمد موضوعها من حياتي: الدموع التي شابت، والزهر الذي صوح، والروح الذي أكتهل، والإنسانية التي لا يعرفها أحد وعاشت في دنياها غريبة، وهذا الوجود الذي يبدو لعينها دائما وكأنه مأتم كبير، وهذه التعزية التي تقدمها إلى في التليفون كلما شكوت إليك الحياة، وهذه الرسائل التي حملت إليك ألف معنى من معاني القبر؛ كل هذه الأشياء التي خرجت بها من أحاديثي إليك قد سطرتها اليوم على صفحات الرسالة. . . وكأني بك قد نفضت يديك من كل أمل في أن تحبب إلى الحياة، فرحت تخصني بهذا الرثاء الصادق قبل الموعد المنتظر؛ الموعد الذي طالما قلت لك عنه إنني أترقبه في الغد القريب)!
ومرة أخرى سكت الصوت المتهدج لحظات. . . وغمرت شعوري موجة من الأسى وأنا أجيبها في تأثر عميق: (الحق يا ناهد أنني لم أستمد موضوع كلمتي من حياتك، وإنما كانت هناك حياة أخرى هي التي أوحت إلى ما كتبت. . . وما أكثر الذين يشكون إلى الحياة في قصص تفيض بالدمع، وتتشابه في قصتك وقصصهم ألوان من الحقائق النفسية. حسبك يا آنسة أن تقرئي هذه القصة لتعلمي أنك لا تقفين وحدك في زحمة الوجود متفردة بالمزاج القاتم والطبع الحزين، إن لك هناك أشباهاً ونظائر، تتمثل لهم الدنيا من وراء المنظر الأسود وهي غارقة في الظلام! لو رفعت هذا المنظار عن عينيك وأنت تقرئين هذه القصة لشعت منها روحك ومضات العزاء، ولكنك تأبين إلا تنظري من خلال ضبابه إلى كل شيء. . . إلى الحياة التي تبد لعينيك مظلة وهي مشرقة، عابسة وهي باسمة، حافلة بأشواك اليأس وهي ملأى بزهور الأمل)!
وقالت قبل أن تنهي الحديث وتلقي بسماعة التليفون: (أقسم لك أنني أشعر شعوراً خفياً بأنني لن أعيش، لأن الحياة لا يمكن أن تحتمل فتاة من هذا الطراز. . . لقد كانت (قصة الدموع التي شابت) أبه بمرآة صافية وقفت أمامها طويلاً لأرى نفسي. . . وسواء قصدتني بها أم لم تقصد، فإنني سأضعها داخل إطار يضم صورتي الحقيقة التي يجهلها أقرب الناس إليّ وتعلمها أنت. . . أنت الذي شكوت إليك آلامي فلقيت منك عطف الأخ الشقيق وعرضت عليك شعري فلم تبخل عليّ بنصحك وتشجيعك. . . إن في هذا كله عزاء أي عزاء، ولكنني أقسم لك مرة أخرى أن الشعور بأن مقامي في هذه الحياة قصير، حقيقة نفسية ترسب في أعماق رسوب الإيمان بالله. . . مهما يكن من شيء فسأذكر دائما بوعدك، وهو أن تنشر (قصة الدموع التي شابت) في يوم من الأيام)!!
وماتت ناهد طه عبد البر. . . وكأنما كانت تخترق بشعورها المرهف حجب الغيب، وتنفذ بوعيها الباطن إلى ما وراء المجهول. . . ماتت دون أن تظفر من أحلام دنياها بغير هذا الحلم الصغير، وهو أن ترثى بقصة الدموع التي شابت وهي في رحاب السكون والعدم!!
نشأت ناهد في أسرة كريمة، محافظة، ترعى حقوق الخلق وتتمسك بمعاني الفضيلة. . . ومن هذا الجو الذي عاشت فيه، جو التقاليد الصارمة والمثل المفروضة والقيم الموروثة، لم تستطع أن تواجه الحياة والناس بشيء من الشجاعة يتيح لفنها أن يتنفس كما يريد. . . كانت تخشى لقاء الحياة وتشفق على نفسها من ألسنة الناس، لأن المجتمع المصري في رأيها لم يبلغ من النضج الخلقي ما يجعلها تثق به وتطمئن إليه! من هنا عاشت في عزلة، عزلة مريرة قاسية فرضتها عليها ظروف التربية وطبيعة النشأة، عزلة طبعت آثارها النفسية القاتمة في أول كلمة بعثت بها إلي ونشرت في الرسالة تحت هذا العنوان: (شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة). كان ذلك في العدد الصادر بتاريخ 23 مايو سنة 1949 ومن كلمتها تلك تستطيع أن تلمس صدق اللوعة وهي تتحدث إلي عن ظلم التقاليد، هذا الظلم الذي حال بينها وبين التعليم الجامعي الذي كانت تتطلع إليه، وحرمها فرصة الاتصال بالمجتمع الذي لم تعرفه إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!
ولا تعجب إذا قلت لك إن هذه الشاعرة الراحلة قد بلغت من الانطواء على النفس ذلك الحد الذي لم تطق معه أن يعرف اسمها أحد أو يرى وجهها إنسان، اللهم إلا هؤلاء الذين كانت تثق بهم وتلجأ إليهم في سبيل شيء من العون أو أشياء من العزاء. . . ولقد كان كاتب هذه السطور يعلم من أسرار حياتها ما لم يتح للآخرين أن يطلعوا عليه، لأنه كان موضع ثقتها في كثير من الأمور. ومع ذلك فهو لم يرها رأى العين في يوم من الأيام لأن لذلك قصة ستعلمها بعد سطور. . . قصة تطلعك على مدى خشيتها من الناس وكلام الناس، ومدى حرصها على أن تظل بمنأى عن كل ما يثير من حولها الظنون والشبهات! قالت لي يوماً في حديثها التليفوني الذي كان يطرق سمعي كل صباح: (لقد أذنت لي منذ شهور في أن أضع مستقبلي الأدبي بين يديك وأشهد لقد أخذت بيدي وفعلت من أجلي الكثير: فتحت لي أبواب (الرسالة) و (الأهرام) فقرأ الناس شعري هنا وهناك، ويا لها أبواب أمل كانت موصدة فتجدد بفتحها كل رجاء. . . والآن لم يبق لي عندك غير أمنية واحدة، وهي أن تكتب مقدمة ديواني الذي أريد أن أدفع به إلى أيدي القراء). وسكتت قليلاً ثم قالت: (لقد كنت أزور الدكتور طه حسين منذ يومين، ومع أنه كما قلت لك غير مرة يعطف عليّ عطف الوالد على ابنته، فقد خشيت أن اشق عليه إذا ما عرضت عليه هذه الرغبة التي عرضتها عليك. . . ومن هنا خطر لي أن ألقاك أنت لأقدم إليك مجموعة شعري كاملة قبل أن تقدم لها بما شئت من كلمات).
وتوقفت لحظات قبل أن أقول لها وعلى شفتي ظل ابتسامة: (إنني أعلم يا ناهد أن لقاءك للدكتور طه لم تسمح به طبيعتك النفسية إلا لسبب واحد، وهو اطمئنانك إلى أن أحداً لن يظن بك الظنون إذا ما جلست إلى أديب قد بلغ مرحلة الكهولة وتخطي الستين. . . أما أنا فأخشى إذا ما علمت حقيقة سني أن تحذفي من قائمة أمانيك هذه الأمنية الأخيرة، لأنني يا أختاه لم أبلغ الثلاثين بعد)!. . . وهتفت في صوت امتزجت في نبراته الدهشة الخالصة بالأسف البالغ: ماذا؟ لم تبلغ الثلاثين بعد يا لله، ماذا كان يمكن أن يقول الناس لو أنك كتبت هذه المقدمة؟ أنت بالذات؟ إن كلمة واحدة تنطلق من لسان جاهل بحقيقتي الخليقة لكفيلة بأن توردني موارد الهلاك. . . أقسم لك أنني ما فكرت في لقائك إلا لاعتقادي بأنك في سن الدكتور طه حسين! هل تغفر لي إعفاءك من كتابة هذه الكلمة التي لن تعفيني من كلام الناس)؟
وراحت الشاعرة القديسة تعتذر إلي، معلنة عن رغبتها في أن تلقي الأستاذ الزيات ليحل قلمه محل قلمي في تقديم شعرها إلى القراء. . . ومهدت لها سبيل اللقاء حتى تم، وكان الأستاذ صاحب الرسالة ثاني اثنين رأتهما هي رأي العين قبل أن تودع دنيا الأحياء لتعيش في جوار الله!
لقد عاشت حزينة وماتت حزينة. . . هي التي كانت تسكن البيت الأنيق في حي من أجمل أحياء القاهرة، وتعيش في ظل أسرة هيأت لها من رغد العيش وطيب المقام ما لم يتح لكثير من الفتيات! ولقد كانت العزلة سبباً من أسباب حزنها بلا مراء، ولكنها لم تكن السبب الأصيل لهذا الألم الدفين الذي أحال حياتها إلى أقباس من العذاب، وانعكس على شعرها لوعة وشكاة وأمسك القلم عن أن أحدثك عن سر حزنها الحقيقي، لأنها الآن تشفق على حرمة ذكراها من كلام الناس!
وأشهد لكم وقفت منها موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودوائي الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!!
أنور المعداوي