انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 894/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 894/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1950



(كانت لنا أيام)

شعر - المطبعة الهاشمية بدمشق 1950 128 صفحة

للأستاذ عمر النص

بقلم الدكتور سامي الدهان

أصاب الشعر العربي المعاصر في السنوات الأخيرة ركود مخيف تجاوز كل ركود في عصورنا الأدبية. فسكنت مصر بعد المطران والجارم وعلي محمود طه، وغاب شبح المهجر، وتلجلج لسان لبنان، وأحجمت بلاد الشام فتردد شعراؤها في نشر ما ينتجون، وراحت الصحف تحمل الفنية بعد الفنية قبساً من قصيد، ولمعاً من نظم.

وحار مؤرخ الأدب في تفسير هذه الظاهرة في البلاد العربية

فميدان الشعر ما يزال خصباً قوياً، وبواعث النظم ما تزال ملحة دافقة، سواء في ذلك ميدان السياسة أو ميدان الاجتماع، فقد ناضلت البلاد العربية وخرجت من نضالها على بأس مرير، وحزن قاتم، فكان هذا وحده باعثاً على خفقات الأسى ولوعات الضلوع والحشى، في أدب يائس، كالأدب الرومانتيكي في أوربة. ولف حياتنا الاجتماعية دوار، واختلفت إليه أمراض فانفتحت كوى واسعة بطل منها الشاعر على سقوط وتخاذل، وبؤس وشقاء، جاورت بلاد الشام تخوم العالم الراهم، فماتت العزلة، وأصبح من في هذه الربوع يشهد نضال أوربة، وشحناء أمريكة، والحرب الحارة والباردة - كما يقولون - وانقضت. بين أعيينا صور حرب مثيرة، ومع ذلك لم نسمع شعراً ولم نقرأ نظماً.

وما أحب أن أعتقد أن هذا كله مر من غير أن يحرك ألسنة شعرائنا، أو يثير كوامن نفوسهم، فهم قد نظموا من غير شك وقالوا وأحسنوا القول،، ولكنهم كارهون للنشر، بعيدون عن الضوضاء - فيما أحسب -، ولقد أردت لهم من قبل أن يظهروا على الناس بدواوينهم مطبوعة مبوبة، يعينون بها الدارس، وينيرون بها سبيل الباحث، ويعبدون الطريق لمن بعدهم، لا أستثني منهم أحداً، سواء فيهم الأستاذ شفيق جبري، أو الأستاذ عدنان مردوم بك، ولا أحب أن أعددهم جميعاً.

وقد فرحت من قبل لديوان (ظلال الأيام) يظهره الأستاذ الشاعر أنور العطار، فيضيف مأثرة في الشعر. وبين يدي اليوم ديوان (كانت لنا أيام) لشاعر جديد أبادر فأعلن اغتباطي لصدوره، لأنه يشير إلى أن الحياة بدأت تدب في الشعر الشامي وإلى أن في الشباب من يحلق في جو الشعر، ويغامر في حلبة النشر، ويسجل فوزاً في كليهما يستحق التقدير والتنويه.

فالديوان منذ ألفه إلى بائه عاطفي رومانتيكي، يرمم خلجات الشاعر، ويعد زفراته، ويصف أساه وحزنه، ويحصي دموعه وبكاءه في قصائد تقارب الثلاثين، وكلها أسف للأماني الضائعة، والشباب الذي يجف، والهرم الذي يبعث، وأخيلة الموت التي تخيم، والشقاء الذي يلوح، والفراغ الذي يسيطر، والعمر الذي تبدده الرياح. والشاعر على ذلك كله شاب في الربيع من عمره - قد أخذ اليأس بجوانب نفسه، وتمسك الألم بنياط قلبه، فتمنى الموت في كل سطر، وانتظر القبر في كل شطر، ولاح له الشقاء في كل صفحة، وهو يجري وراء (ليلاه) فيقول: ص 58

وما الكون إن أنا أنسيتها ... وما أنا إن كنت لا أذكر

فو الهتاه ضاع صبايا

يا ظلام الأقدار رد صبايا

أرقصواألرقصوا على حدث الحل ... م وصبوا الشراب فوق ثرايا

في فضائي تحوس أخيلة المو ... ت وفي خافقي أحس شقايا

52وجف الشباب سباب المنى=وعاث به الهرم المبكر

55وما الغد؟ ما نحن؟ ما=الأمنيات وأي مصير لنا يذخر

ويقول أحسن من هذا كله في الصفحة (46) والصفحة (59) مما لا أستطيع روايته كله، وإنما أحيل القارئ إليه ليرى قوة وبياناً وشاهداً على ما أقول.

والغريب أن الأستاذ (عمر النص) شاعر الديوان يصف نفسه في يأس وحزن عجيبين فيقول: ص 111

أنا تائه في شباب الوجود ... أفتش عن أفق أوسع

أفتش عن نغم لا يموت ... وأبحث في الأرض عن مضجع إلى أن يبلغ حدود الموت فيقول:

إنه مات فاتركيه مسجى ... بملأ الشوق روحه وعيونه

ص 56

رماد أنا بددته الرياح ... فهل أستقر وهل أنشر؟

وإني لأجد الشاعر الشاب في مدرسة فوزي المعلوف وأبي القاسم الشابي، وأجد في شعره صورة من شعر الشقاء والألم الذي كان ينطق في كل بيت من أبيات الراحلين، وأرى قصيدته اللامية أقرب إلى قصيدة (شاعر طيارة) لفوزي المعلوف، إذ يقول: ص 39

لا تراعي فليس غير شقي ... يشرب الدمع بكرة وأصيلا

جاء يبكي على تراب أبيه ... ويروي الثرى دماً مطلولا

ويقول: ص 7

الربيع الذي أؤمل ولي ... في ذهول ورقبة واشتياق

أنا شيخ أدب في شعب الأ ... رض وأهذي بغربتي وفراقي

وما أحب أن أوازن بينه وبين هذين الشاعرين فليس هذا محله، وإنما أنشأت لأعرف بالديوان وصاحبه. وأقدم هذا اللون من الشباب الهرم، والحب الحزين - إذا صحت هذه التعابير - في أسلوب مشرق، وعبارة فصيحة لا تند عن عمود العربية، ولا تبعد عن فصيحها، في وحدة للقصيدة، ومنهاج بين، وقافية مسلسلة، لولا أن الشاعر شد على نفسه الآفاق الأخرى - وهي بكثرة - وجعل تحليقه في ميدان روحه، ونفسه فضاء.

ولعله فعل ليبدأ بنفسه ثم بثني بما حوله، ثم يعلو إلى فضاء الإنسانية جمعاء، ويقوم برسالة الشاعر على الوجه الذي يفهمه الغربي اليوم، فيحس بآلام أمة قلقة حالمة شرود، ويصور حزن شعب فقد الثقة بنفسه وبأصدقائه ويرسم البيت السوري بخيره وشره. ولكنه كثير على شاب ما يزال في الربيع، فلنبارك الخطوة الأولى، ولنثن على ما بذل في سبيلها من جهد في الشعر والنشر، أنه بذلك جدير.

الدكتور سامي الدهان