انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 892/لنقاب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 892/لنقاب

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1950



للأستاذ عبد الحميد جوده السحار

مما لا ريب فيه أن الأستاذ عبد الحميد جودة السحار في طليعة أولئك الشباب الذين يجاهدون في ميدان الدب القصصي ليخلقوا للقصة المصرية مكانة مرموقة. وقد تفاوت الناجح الذي أصابه في جهاده باختلاف أعماله القصصية الكثيرة. وإن كنت مقتنعاً أن روايته (في قافلة الزمان) تعتبر قمة نجاحه القصصي.

أما قصته الجديدة (النقاب) فلا أستطيعأن أصفها مصاف الأعمال القصصية الرائعة، ولكنهاقصة ناجحة ما في ذلك شك. وقد عالج فيها موضوعاً يتغلغل في صميم النظام الاجتماعي السائد، تناوله غيره من الكتاب بالبحث والدراسة، ولكنه أبدع فيه بما أضفى على القصة من جو نفسي رائع.

وتدور قصة حول شاب في العشرين من عمره ينتمي إلى أسرة فقيرة، وله أبنه عم ثرية، تواضعت أسرتها على اعتبارها خطيبة له منذ صغرهما. ولما كبر ظل كل منهما يمحض الحب لصاحبه، فكلما لاح خيال (علية) في خاطر (حسين) أحس بقلبه يهفو نحوها وبمشاعره تنصرف إليها. وكلما التقى (حسين) بـ (علية) فضحت عيناها ما تنطوي عليه جوائحها من وجد وهيام.

ودارت عجلة الأيام، واشرف حسين على التخرج من كليته - كلية البوليس الملكية - فأخذ ينتابه شعور غريب كلما جمعه مجلس بعلية. شعور مزيج من الضعة والهوان، والضيق والاشمئزاز. ولم يكن يفقه لهذا الشعور سبباً، بل كان يرغب رغبة صادقة في التحرر من ربقته. فقد كانت العناية التي يلقاها من بيت عمه، والمحبة التي يغمره بها أعضاء الأسرة من صغيرهم إلى كبيرهم، حرية بافتراع عواطف الحب من قلبه. ومبادلة الأسرة العطوفة وداً بود، ومقاسمة عليه مشاعرها الصادقة. ومع ذلك فقد ظل خيال عليه يراوده في أحلامه ويثير في قلبه العواطف المتقدة. وتفاقم نفوره من علية، وتأججت بيم جوانحه ثورة على القدر المسطور له في كتاب الزواج، فلماذا يتخذ من علية زوجة له نزولا على إرادة أبيه وعمه بينما أمحت صورتها من قلبه؟!

ثم ألقى نفسه ينحرف في حب فتاة التقي بها في بيت عمه، وإذا بها تستحوذ على مشاعره، ويحتل تفكيره وتملأ فؤاده. وأحس بشعور الغريق الذي عثر على حبل الإنقاذ أخيراً، أو إحساس التائه الذي اهتدى بعد لأي إلى السبيل. ورغم معارضة أبيه العنيفة فقد أصر على الزواج منها، وفضل مخاصمة أبيه على الاقتران بابنة عمه علية.

تزوج حسين من الفتاة التي اختارها بنفسه، ورحل إلى الإسكندرية لاستلام مهام منصبه الجديد بعد تخرجه من كلية البوليس. وعاش فترة من الزمن تزيد على العامين وهو يحاول إقناع نفسه بأنه مستمتع بالسعادة الحقة إلى جانب زوجته، وقد نجح في محاولته إلى حد بعيد، ولكن القناع سقط عن عاطفته المزيفة عندما أخبرته زوجته ذات يوم أن علية زارت المنزل في غيابه وسألت عنه ملحة في رؤيته. فجرى إلى شاطئ البحر يتفقد الموضع الذي اعتادت أن تتخذ منه كل صيف مستقراً، وما وقعت عليها أنظاره حتى أحس بلهيب العاطفة يضرم جسده، وبجمرات الحب تتقد بين وجانبه، ودب الوهن في عزيمته واجتاحته حيرة مضنية بين التقدم إليها أو التواري عن أنظارها، ثم لم يلبث أن تراجع بخطوات متلصصة حذراً من أن تكشفه عيناها، وقفل راجعاً والخيبة والمرارة تقسمان مشاعره.

مرت الأيام وعلاقة حسين بزوجته على خير ما يرام صفاء، إلى أن وجد نفسه في صباح يوم من الأيام أمام خطاب غفل من التوقيع يتحدث عن ماضي زوجته الحافل. ومنذ ذلك الصباح نبتت زهور الشك في قلبه، ومنذ ذلك الصباح تتالت الخطابات المغفلة من التوقيع تكشف النقاب عن ماضي الزوجة وتسقي زهور الشك بماء الغيرة حتى أينعت وحان قطافها، فكان الطلاق.

وأحس حسين حينما انتهت علاقته بزوجته كأنه يستيقظ من حلم مريع، أو كأن كابوساً هائلاً يرتفع عن صوره وداعبه شوق ملح لرؤيته علية. وطفق يستعيد في ذهنه صورتها، ويستعرض مشاهد حياتهما الماضية فيعجب كيف انصرف عنها إلى هدى، وكيف شاغل الإحساس بالنفور منها لحظة من الزمن وهي تكن له كل هذا الحب. واستقل الترام في شوق ولهفة إلى (الزمالك) ونزل مسرعاً صوب منزل عمه، ودفع باب الحديقة. ومشى بخطوات متلكئة نحو الباب الكبير، وما أن ارتقى آخر درجة من درجات السلم حتى خارت عزيمته، وإذا به يولي ظهره شطر الباب ويطلق العنان لقدميه هارباً من المنزل.

وهكذا تنتهي قصة (النقاب) وإن لم تحل العقدة النفسية التي ظل حسين يقاسي متاعبها ويتخبط بسببها في مسارب الحياة، نقاس جميعاً عقدها ومآسيها ومشاكلها. فنحن نرى إِذن أن حسين قد أخطأ الطريق إلى قلبه، ومهما يقل عن وضوح هذا الطريق فلا يسعنا إلا أن نلتمس له العذر في هذا الخطأ، فتلك هي قصة المجتمع ذي الفروق الطبقية الشاسعة، كما عالجها الأستاذ السحار من زاويته الخاصة.

وقد كان أسلوب الأستاذ السحار المتميز بالسلاسة والصفاء، سلاسة الينبوع المتدفق، وصفاء البحيرة الساكنة، واضحاً متميزاً في هذا الكتاب. ولكنه لم يكن في الحوار على عهدنا به، إذ كان حوار القصة على ما يلوح لي اضعف ما فيها. ويبدو أن أبطال قصته جميعاً مؤمنون بفضيلة (خير الكلام ما قل ودل) إذ كان حوارهم مقتضباً دائما. وهذا مثال صادق لحوار القصة: (وقعد في فراشه يرقبها وهي تتزاين ثم قال: - بدأت أغار. - مم؟! من المرآة. - لم تفدك نصيحة أبي. - افادتني. لفت نظري إلى ما كنت في حاجة إلى سنين لأكشف وحدي. - جعلتك تغار قبل الأوان. من هذا عيب النصائح، توقظ في نفوسنا ما كان نائماً. - لن أنصحك أبداً. - إنصحيني أن أسارع باترداء ثيابي، فقد حان وقت خروجنا. - لن نخرج معاً. - ولماذا كل هذه الزينة إذا كنا لا نخرج الليلة؟. - ستخرج وحدك - وأنت؟ - عندي ميعاد. - أين؟ - هنا. - مع من؟ - أناس يجب ألا تراهم. - قولي من؟. - أصدقاء.)

ويخيل إلي أن هذا الحوار - إلى جانب تكلف الاقتضاب فيه - في حاجة إلى قبس من الحرارة أيضاً لتدب فيه الحياة.

ولابد للناقد أن يعجب بسيطرة الأستاذ السحار على الجو النفسي في القصة رغم أنه الصراع النفسي فيها هو كل شيء. فبطل القصة - حسين - حائر بين مشاعر قلبه المبهمة التي تدفعه بيد خفية إلى الاتجاه نحو ابنه عمه، وبين مشاعر الأنفة والعزة التي توحي إليه أن علية لا تصلح شريكة لحياته لأنها من أسرة تبذ أسرته بالثروة والغنى، ومحمود أفندي - والد حسين - حار بين الموافقة على زواج ولده من هدى لتحقيق سعادته، وهو ما يهدد علاقته بأخيه بالدمار، وبين حمله على الاقتران بابنة عمه وتحطيم فؤاده، وفي هذا صيانة للأواصر بينه وبين أخيه. وهدى حائرة بين أن تفضي لزوجها بسر ماضيها أو أن تكتم عنه كل شيء وتسلم الأمر بين يدي المقادير.

وهكذا نجد كل شخصية من شخصيات القصة مسرحاً للصراع النفسي العنيف. ولكن الزمام لم يفلت من قلم المؤلف في تلك المواقف جميعها.

وللأستاذ السحار لمسات إنسانية رائعة في هذه القصة، ويحضرني بهذه المناسبة حديث جرى بين الصديق الأستاذ أنور المعداوي وبيني في صدد الحديث عن هذا الكتاب وعن الأستاذ نجيب محفوظ. فقال المعداوي أن نجيب محفوظ أعمق خبرة بالحياة من عبد الحميد السحار، ولكن السحار أكثر إقبالا وتفاؤلا منه بالحياة. وقد وافقه على هذا القول، وأظنه حقيقة بينة، فما لا ريب فيه أن الأستاذ نجيب محفوظ أعمق كتاب الشباب خبرة بالحياة، بل لا اظنني مغالياً إن قلت أنه أعمق كتاب القصة العربية خبرة بالحياة. وهذه رواياته تثير دهشتك في عمق كاتبها وقوة فلسفته وفهمه الحياة فهماً حقاً. أما الأستاذ السحار فإنه ولا شك من أكثر الكتاب المصريين تذوقاً. للحياة العائلية ولعل باستطاعتنا أن نجد وجهاً للشبه في هذه الناحية بينه وبين الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني. وبوسعنا أن نلحظ تلك اللمسات الإنسانية التي يتجلى فيها تذوق الأستاذ السحار للحياة في قصة النقاب في مواقف كثيرة، وأخصها تلك المواقف التي تجمع بين الوالد وولده والأم وأبنها والزوج وزوجته، والقصة بعد مليئة بمثل هذه المواقف.

وإذا غفرت للأستاذ السحار أن يزجني في موقف إنساني ويلمس أوتار قلبي، ثم ينتزعني منه على غرة قبل أن أرتوي من الاستمتاع به - كما حدث في عدة مواقف من القصة - فلن أغفر له أبداً إفساده عليّ وعلى قراء القصة أجمعين لذة. ذلك الموقف الإنساني الرائع (ص 275) الذي عرض فيه مشكلة فتاة ذات ماض معكر - تعكر بسبب بحثها عن زوج، وهي الأمنية الكبرى في حياة كل فتاة، - ودافع فيه عن هدى دفاعا حاراً ولكنه للأسف دفاع مبتور، سرعان ما نقلنا منه إلى موقف آخر كأنه يخشى أن يزج نفسه في مشكلة إنسانية ينتصر فيها للحق؛ وهو انتصار لاشك سيحمله لوم بعض من أغلقت عينهم عن عدالة الحياة.

ولست مغالياً إذا قلت أن المشكلة التي أثارها الكاتب في ص (275) توازي في خطرها المشاكل التي مرت بنا في صحائف الكتاب جميعها، وكان من الممكن أن تقفز إنسانية القصة فيها إلى القمة. فكيف أجاز الأستاذ السحار لنفسه أن يمر بها مرور العابرين؟ لست أدري.

أما شخصيات القصة فلم تكن على جانب واحد من القوة ولكن أقواهاً على ما أعتقد شخصية محمود أفندي بلا مراء. فقد كنت أتمثله يدب بين السطور بقامته الطويلة ووجهه المرح وهو زاخر بالحيوية والنشاط والحياة، وتليها شخصية حسين شابا فتياً معرضاً للأحلام اليقظة كغيره من الشباب، ولكن المؤلف اشتط في ذلك، وانطلق يدير الحوادث ويسوق الحوار بشكل مطول وفي مناسبات عديدة، حتى ليخيل إلى أن القارئ لابد أن يذوق شيئاً غير قليل من الملل والضيق. والشخصية التي أثارت اهتمامي وإعجابي أيضاً هي شخصية علية، هذه الفتاة العاشقة المسكينة التي لا تدري ماذا تفعل وكيف تتصرف لترضي فارسها الجميل. ولكنها لم تكن في قوة الشخصيتين السابقيتن، كما أنها لم تسلم من أحلام اليقظة المملة.

أما الشخصيات الأخرى فكانت باهتة الصور مطموسة الملامح لا تكاد نتبين فيها سوى أشباح تتخايل على الورق. على الرغم من أن البعض منها ذو دور هام في القصة كشخصية الضابط جمال أو شخصية إجلال صديقة علية.

ولست أنسى، قبل أن أختم هذا التعليق العابر، أن اذكر الأستاذ السحار أنه لم يكن في حاجة إلى أن يفترض بطأ الفهم في القارئ فيردف بعض الحوادث بالشروح والتعليقات، وأمثلة ذلك يزخر بها الكتاب.

القاهرة

شاكر خصباك